زيدون الزعبي *
لا شك في أن التحليل في هذا الوقت ينطوي على مخاطرة، فأصعب التحليلات تلك التي تحدث في زمن التحولات الكبرى، غير أن صعوبتها لا تلغي أهميتها كونها تساعد على تقفي التحول وفهم عوامله إبان حدوثه.
كنت في مقال سابق قد تحدثت عن مخاض لشرق أوسط جديد على مقاس بلدانه، أو أنظمته إن شئنا الدقة أكثر. وقلت أيضاً إن من نتائج الربيع العربي وانتصار الأنظمة على الشعوب ومطالبها، فتح الاقتصاد، وإغلاق السياسة، وبناء سياسات اجتماعية تتماشى مع الطبيعة المحافظة للمجتمع العربي. كل واحدة من هذه الاستراتيجيات الكبرى بحاجة إلى مقال أو أكثر. أحاول في هذا المقال استقراء النظام الاجتماعي الذي تسعى إليه الأنظمة العربية، في مسعاها إلى استقرار أنظمة حكمها، وتجنب «ثورات ربيع» أخرى.
هناك ثلاثة دروس لن تنساها الأنظمة العربية من امتحان الربيع العربي. أولاً؛ أن الشعوب لا تُدجن إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أن تستكين لسياسات التهميش والإقصاء إلى الأبد، وسعيها إلى حياة كريمة لا يتوقف. وبالتالي، لا مكان لشعب فقير يهتف لها. إذا أرادت الأنظمة الاستمرار في حكم هذه البلاد، فعليها توفير نظام اقتصادي يؤمن فرص عمل لشباب بلدانها، وقانوناً يحترمه الجميع.
ثاني الدروس أن قضية الكرامة معدية، وأن العالم العربي مترابط أكثر مما توقعت أنظمته. فما يحدث في مدينة صغيرة في تونس سيتردد صداه في كل شبر من بلدان الشرق الأوسط، وليس فقط في جزئه العربي. ويبدو أن أي بلد لن يكون بمنأى عن الاضطرابات التي تحدث في بلدان الإقليم، حتى لو كانت سياساته تنموية وتحترم كرامة المواطن.
ثالث الدروس أن الإسلام هو الهوية الأقوى في المنطقة، وما لم تتعامل سياساته مع هذه الحقيقة فإن الإسلام السياسي، الذي تخشاه الأنظمة العربية جميعها، سيعود في لبوس آخر لينقض على حكمها. ففي الحالات الثلاث التي شهدت انتخابات ديموقراطية بعد الربيع العربي، في كل من مصر وتونس والمغرب، كان الإسلام السياسي بشكله التقليدي في مصر، وشكله الأكثر ليبرالية في تونس والمغرب هو الرابح الأكبر! أما في الدول التي شهدت نزاعات مسلحة كاليمن وليبيا وسوريا، فإن الإسلام السياسي هو الذي تصدر واجهة المشهد السياسي والعسكري بلبوسات متباينة! بل وشهدت الدولة العلمانية الوحيدة في الإقليم، تركيا، عودة قوية للنموذج المحافظ، دفعتها إلى الانسحاب من اتفاقية المجلس الأوروبي لمناهضة الاعتداء على المرأة والعنف المنزلي، المعروفة باسم «اتفاقية إسطنبول»، ودفعت معارضتها، العلمانية المتشددة، إلى طرح فكرة قانون يضمن حرية ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة!
لسان حال الأنظمة العربية: إذا كنا نريد الاستمرار في حكم هذه البلاد، علينا التخلص من الإسلام السياسي، ولكي نفعل ذلك علينا أن ننزع منه قدرته على مخاطبة المجتمع بتقديم خطاب اجتماعي أكثر قبولاً من خطابنا، فلنسحب منه ميزته التنافسية هذه!
تدرك الأنظمة العربية بلا شك أن أفكار الليبرالية الغربية بمعناها الاجتماعي، لا بمعناها السياسي أو الاقتصادي، لا تنسجم بحال من الأحوال مع السائد في المجتمعات العربية. فالأكثرية في معظم هذه المجتمعات غير متقبلة اليوم لقضايا مثل فصل الدين عن الدولة، والمساواة التامة بين الجنسين، وحقوق المثليين، والحرية الجنسية.. إلخ. في الوقت ذاته، تدرك هذه الأنظمة أن شعوب المنطقة ضاقت ذرعاً بالتطرف، الذي ركب مطالبها وساهم في تحويل آمالها إلى آلام يصعب نسيانها.
ما الذي يعنيه هذا على صعيد سياسات الإقليم الداخلية والدولية؟
داخلياً، يعني – برأيي – أن الأنظمة إذا أرادت استقراراً اجتماعياً، فستقرر أن تعالج قضية الهوية هذه، على قاعدة «فليكن الإسلام دين الدولة، ولنناهض جميعنا الليبرالية الغربية بوصفها عدواناً على الدين ومحاولة لتفكيك الأسرة والمجتمع، ولنحارب معاً المثلية الجنسية». وهي بالتالي ستبحث عن حلف مع المؤسسة الدينية الرسمية، قائم على إذعان الثانية للأولى، على أن تحمي الأولى الثانية من التيارات التي تنافسها على المجتمع. بصياغة أخرى: السلطة تحمي المؤسسة الدينية من التيارات المنافسة، شريطة أن تنفذ سياساتها وتسوق لها في خطب الجمعة والأعياد! ويهاجم كلاهما مفاهيم الليبرالية الغربية الحديثة!
ليس هذا النظام الاجتماعي مُتخيلاً، بل هو واقع متشكل في بعض بلدان الإقليم، كتركيا والإمارات والمغرب وإلى حد كبير في الجزائر، وآخذ بالتشكل في السعودية ومصر وتونس، ومتوقع في بلدان مثل سوريا والعراق وسائر دول الخليج.
من وجهة نظر التحالفات الدولية الكبرى، تبدو هذه السياسات أكثر انسجاماً مع الشرق منها مع الغرب. فقوى الشرق الصاعدة، أكثر تمسكاً بشكلها المحافظ، سواء في الهند، وفي روسيا، وحتى في الصين الشيوعية! فالهند التي تقودها حكومة ناريندرا مودي، وحزب «بهاراتيا جاناتا بارتي» الهندوسي المتشدد المتمسك بهندوسية الهند، وروسيا التي تُعدّل دستورها لتجعل الإيمان بالله جزءاً أساسياً من تراثها، وتحظر زواج المثلية دستورياً، جميعها أقرب في نظمها الاجتماعية من ذاك الموجود في أوروبا والولايات المتحدة. والصين مثلاً، لم يحدث قط أن طالبت حلفاءها بتغيير سياساتهم الاجتماعية، على عكس الولايات المتحدة التي طالبت دوماً بذلك – إعلامياً على الأقل -، وعلى عكس أوروبا التي هاجمت قطر بشراسة على خلفية حقوق المثليين في كأس العالم 2022! بالتالي، يصبح النموذج الآسيوي والأوراسي، سواء لجهة نظام الحكم، أو النموذج الاجتماعي مغرياً للغاية لأنظمة الحكم العربية، وبشكل يفسر، ولو جزئياً التقارب الصاعد بقوة مع روسيا والصين.
إذاً، يبدو أن لسان حال الأنظمة العربية: إذا كنا نريد الاستمرار في حكم هذه البلاد، علينا التخلص من الإسلام السياسي، ولكي نفعل ذلك علينا أن ننزع منه قدرته على مخاطبة المجتمع بتقديم خطاب اجتماعي أكثر قبولاً من خطابنا، فلنسحب منه ميزته التنافسية هذه!
ما يُعكر صفو توجه الأنظمة هذا هو إيران التي يحكمها الإسلام السياسي بشقه الشيعي، والتي تتحالف مع تيار قوي من الإسلام السياسي السني ممثلاً بحركة “حماس”، وتحتفظ بعلاقات متميزة مع قطر، وبالتالي، لا يمكن المضي في هذا النظام ما لم يتم تحييد إيران عن محاولة نقل نموذجها إلى العالم العربي!
برأينا، لن يحاول العرب، وتحديداً بعد الاتفاقية السعودية-الإيرانية، تغيير النظام في إيران كما كانت دوماً رغبتهم، ولكنهم سيسعون إلى أن تعود إيران إلى إيران، وهذا أمر صعب للغاية برأينا، على الأقل حالياً، وإن كان ذلك غير مستحيل في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة. العامل الثاني الذي يعكر هذا التوجه هو إسرائيل، التي تغتصب القدس، وتعتدي على الأقصى، وما لم تجد الدول العربية مخرجاً لها، يحفظ هوية القدس الإسلامية والعربية، لن يكون هنالك استقرار في الإقليم.
* باحث في قضايا الحوكمة، سوريا
المصدر: 180 بوست