توفيق شومان*
قامت فكرة “الميثاق الوطني” اللبناني على نفيين سلبيين وجمعين إيجابيين، فتمثل النفيان باستبعاد الحماية الخارجية ورفض الذوبان في المحيط العربي، وتجلى الجمعان بمقولة “النصف والنصف الآخر” العائدة لكاظم الصلح والتي تعني أن هذا النصف المسيحي وذاك النصف المسلم يشكلان واحداً هو لبنان.
وعلى هاتين القاعدتين سارت الحياة السياسية اللبنانية باتجاه بلورة هوية وطنية حتى عام 1975 تاريخ هبوب الرياح العاتيات من كل حدب وصوب، إذ ذاك تعطل المشروع الوطني الذي ابتغى بالأصل إدخال الطوائف في الوطن (الأوطان الأخرى: قبائل- طوائف- قوميات- أعراق) وإعادة صياغة ولاءاتها وفق صيغة اندماج طوعي يعلوها الولاء للوطن اللبناني وخصوصيته.
ما حدث بعد إنتهاء الحرب، أن مهمة إدخال الطوائف في الوطن انتكست وانقلبت إلى سياق يُخرج الطوائف من الوطن، ومع استمرار السياسة السلبية وطغيانها، بات من اليسير أن يقال مع كل ورادة سياسية أو شاردة، إنها منافية مع حقوق هذا الطائفة أو تلك، وإلى حدود غدا فيها التمييز بين الخبيث في السياسة والجليل منها، أشبه بالبحث عن أجناس الجن وما إذا كانوا ذكورا أو إناثا.
في موسم الإنتخابات الرئيسية المعلقة، ترتفع الخطابات القائلة بعدم أحقية هذه الفئة اللبنانية أو غيرها باختيار هذا المرشح الرئاسي أو ذاك، وفي واقع الحال أن مثل الخطابات والأدبيات السياسية تنافي الواقع السياسي الذي عاشه لبنان في مرحلة مجده قبل عام 1975، ولعل أفضل تعبير عن تلك المرحلة، الإفتتاحية التي كتبها باسم الجسر في صحيفة “الأنوار” في 17 آب/أغسطس 1970، أي قبل يوم واحد من انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، وجاء فيها:
“قاعدتان أساسيتان ارتكز عليهما النظام السياسي اللبناني، الدستور والميثاق الوطني، فالدستور ينص على أن الكلمة الفاصلة للأكثرية، والميثاق الوطني يقتضي بأن يكون رئيس الجمهورية مارونياً تؤيده أو ترضى عنه أكثرية المسلمين في لبنان”.
هذه الإفتتاحية توجز إلى حد كبير الضوابط والآليات التي كان يعتمدها السياسيون اللبنانيون في عملية إنتاج رئيس الجمهورية، ولم يكن يُسمع آنذاك من كبار القياديين السياسيين المحسوبين على بيئة طائفة محددة ردود أفعال سلبية تهدد بإعادة النظر بلبنان وجغرافيته وجمهوريته، وفي وقائع تلك الأيام الزاهية ما يفيض من الأمثلة والشواهد.
انتخابات 1952:
معروفة هي المقالة الشهيرة للزعيم الوطني كمال جنبلاط “أتى بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب” والتي نشرتها صحيفة “الأنباء” الناطقة بلسان الحزب “التقدمي الاشتراكي” في 30 آذار/مارس 1952 ودعا فيها إلى استقالة الشيخ بشارة الخوري من رئاسة الجمهورية، وإذ عمدت السلطات اللبنانية إلى مصادرة “الأنباء” وتحويل جنبلاط إلى المحاكمة، أفضى التضامن بصحف “النهار” و”البيرق” و”بيروت” و”الأوريان” و”النداء” و”التلغراف” و”صدى لبنان” و”لوسوار” إلى نشر المقالة المذكورة على صدر صفحاتها الأولى، مما شكل الخطوة الأولى على طريق “الثورة البيضاء” التي أسقطت الرئيس بشارة الخوري وجاءت بالرئيس كميل شمعون.
يروي كمال جنبلاط في “حقيقة الثورة اللبنانية” وقائع تلك الحقبة فيقول:
“انبثقت من انتخابات 1951 الجبهة الاشتراكية الوطنية وكنت شخصيا امينا عاما لهذه الجبهة، أي عمليا ومبدئيا الموجه لها والناطق باسمها، وكان الحزب التقدمي الاشتراكي الدعامة في تكوين هذه الجبهة، وكانت مقالتنا التي نشرتها جريدة الأنباء نقطة انطلاق الثورة اللاعنفية البيضاء، ثم كان اجتماع دير القمر الشهير الذي دعونا إليه ثم الإضراب العام الشامل الذي ما لبث على إثره أن تنازل الشيخ بشارة الخوري”.
وحول خلافة الخوري يقول جنبلاط: “لما شغر الكرسي الأول أخذ الخاطبون ود الرئاسة من الشخصيات المارونية يتقدمون ويعرضون مواهبهم، ولم يبرز إلا شخصيتان مارونيتان، حميد فرنجية وكميل شمعون، حاولنا ان ندفع باللواء فؤاد شهاب لترشيح نفسه، ولما يئسنا، حاولنا تركيز الترشيح على ألفرد نقاش، وبعد محاولة التحكيم الخطي التي تقدم بها حميد فرنجية وأوكلنا شخصيا بإجرائها بينه وبين كميل شمعون، كان لا مفر من تأييد شمعون”.
يخلص هذا السرد الذي يتلوه جنبلاط، إلى نتيجة مؤداها أن ثمة دورا رياديا لـ”الجبهة الاشتراكية الوطنية” الجنبلاطية بإيصال كميل شمعون إلى سدة الرئاسة، والمرشحون الرئاسيون ما انعطفوا آنذاك إلى رمي “الحرم الطائفي” او السياسي على جنبلاط لتحييده والآخرين عن أدوارهم الوطنية، وفي “كميل شمعون آخر العمالقة” للزميل نقولا ناصيف “كان النواب المحمديون يؤيدون كميل شمعون الذي كان في ذلك الزمن فتى العروبة الأغر”، وفي “خمسون سنة مع الناس” للوزير الراحل يوسف سالم “كانت كفة حميد فرنجية هي الراجحة، وكميل شمعون كان يعتمد في المرحلة الأولى على نواب احمد الاسعد ونائبي الكتلة الوطنية ونائبي جبهة النضال- جنبلاط- وإذا- به- يجتذب نواب بيروت وبعض نواب الشمال”.
انتخابات 1958:
في كتاب “لعبة الأمم” يقول كبير ضباط وكالة الاستخبارات الأميركية مايلز كوبلاند عن أحداث عام 1958 في أواخر ولاية الرئيس كميل شمعون “كان أعداء شمعون ومن الأفضل تسميتهم ثواراً مؤلفين من قسمين، القسم الأول يضم صبري حمادي في البقاع ورشيد كرامي من طرابلس وكمال جنبلاط من الشوف، والقسم الثاني الأربعة الكبار في بيروت صائب سلام وعبد الله اليافي وعدنان الحكيم وعبدالله المشنوق”.
ومثلما انتهت الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري بـ”ثورة بيضاء” كان رمزها الأول كمال جنبلاط، انتهت المرحلة الأخيرة من ولاية الرئيس شمعون بـ”ثورة حمراء” تعددت فيها الرموز من رشيد كرامي إلى صبري حمادي وأحمد الأسعد، ومن كمال جنبلاط إلى صائب سلام وعبد الله اليافي وغيرهم، ومع هذه الأسماء سيبرز اسم اللواء فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية.
ينتقد باسم الجسر في الجزء الثاني من “فؤاد شهاب ذلك المجهول” ما آلت إليه قناعات المؤيدين للرئيس شمعون بعد انتخاب شهاب رئيساً، ويقول:
“بالطبع لم تكن بعض الأوساط الشعبية أو الحزبية المسيحية راضية عن انتخاب فؤاد شهاب لسببين: إن خروج كميل شمعون يعني انكساره أو انتصار وجهة نظر المعارضين، وأن انتخاب فؤاد شهاب يؤدي إلى الاستجابة لمطالب الثائرين وهي في المنطق الطائفي اللبناني تعني خسارة المسيحيين لبعض الحقوق والامتيازات التي يعتبرونها ضمانات”.
انتخابات 1964:
تستعرض صحيفة “الحياة” في عددها الصادر في 23 حزيران/يونيو 1964 مناخات الإنتخابات الرئاسية التي سبقت التوافق على شارل حلو خليفة لفؤاد شهاب على هذا الشكل:
“في غداء الرئيسين كامل الأسعد وصائب سلام على مائدة الأخير يوم أمس وبحضور جوزيف سكاف، كان كل من الفريقين يحاول استمالة الآخر إلى مرشحه، وتردد أن الأسعد وسكاف لوحا بترشيح جان عزيز فيما ظل الرئيس سلام ينادي بترشيح سليمان فرنجية، اما التجديديون ـ المطالبون بتجديد النهج الشهابي ـ فقد بدأوا يستعدون لإعلان مرشحهم للرئاسة وذُكر في هذا الصدد أن كمال جنبلاط وراء إقدام المجددين على هذه الخطوط بعد ان أعرب عن رغبته بالإعلان عن مرشحه بعد أسبوعين لا أكثر”.
وفي عدد “الحياة” نفسه (23 ـ 6 ـ 1964) “من المقرر أن يُعقد اليوم اجتماع بين الرئيس كرامي وكمال جنبلاط وتقي الدين الصلح وفؤاد بطرس لمتابعة البحث حول تطور الموقف، وتردد في بعض الأوساط النيابية أن قبلان عيسى الخوري من المرشحين الشماليين وقيل إن الرئيس كرامي يميل إلى اتخاذ هذا الترشيح سبيلا إلى محاربة ترشيح فرنجية، وتحدث أمس رئيس الكتلة المستقلة رشيد بيضون وقال نحن نؤيد استمرار الرئيس شهاب”.
وبعد يومين (25 ـ 6 ـ 1964)، كتبت “الحياة” قائلة “كانت مسألة السعي لاختصار عدد المرشحين للرئاسة من أبرز المواضيع التي بحث فيها الرئيس الأسعد مع الأستاذ كمال جنبلاط”. ويقول رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد في “دفاتر الرؤساء” لغسان شربل “شارل الحلو أنا من اختاره، وقد جاء من نصحني بأنه رجل ثان ممتاز، لم تكن لدينا أية رغبة في تحدي الرئيس فؤاد شهاب، وجاءني فيليب تقلا ـ وزير الخارجية ـ وطلبتُ منه أن يقترح علينا أسماء لخلافة شهاب ـ عرض ـ خمسة أسماء بينهم فؤاد عمون والياس الخوري وشارل حلو، كنتُ أعرف شارل حلو واخترته، وهذه واقعة يعرفها الرئيس حلو”.
انتخابات 1970:
قبل يوم واحد من الاستحقاق الرئاسي المشهود عام 1970 والذي انقسم فيه السياسيون والنواب اللبنانيون إلى محورين، محور “النهج الشهابي” ومرشحه الياس سركيس، ومحور “تكتل الوسط” و”الحلف الثلاثي” ومرشحه سليمان فرنجية، قدمت صحيفة “الأنوار” (17 ـ 8 ـ 1970) هذا المشهد:
“شهد يوم أمس الأحد نشاطا بارزا حول معركة الرئاسة تركز على محورين هما محور النهج وجنبلاط ومحور الحلف والوسط، وكان أركان الوسط وجنبلاط قد افترقوا بعد سلسلة اتصالات واجتماعات على أساس أن يقوم الرئيس صائب سلام بمحاولة مع نواب تكتل الوسط لإقناعهم بفريد الدحداح كمرشح تسوية، واتُفق على أن يعود بعد الظهر تكتل الوسط للاجتماع مع جنبلاط على أساس إعادة البحث في موضوع الدحداح على أن يتولى جنبلاط استمزاج النهجيين بينما يتولى سلام استمزاج شمعون وإده، وخلال اجتماع بين جنبلاط وقيادة الحزب التقدمي الاشتراكي فهم أعضاء قيادة الحزب أن جنبلاط موافق على ترشيح سركيس فأثاروا موضوع المواصفات وطلبوا ضمانة بالتقيد بها فعاد جنبلاط للاتصال بكرامي الذي أكد له الضمانات المطلوبة”.
وفي اليوم نفسه (17 ـ 8 ـ 1970)، اجتمع الياس سركيس مع كمال جنبلاط في منزل الثاني مثلما أوردت “الأنوار” ولم يؤد هذا الاجتماع إلى حسم الموقف لسركيس الذي قال للصحافيين بعد لقائه جنبلاط “طولوا بالكم.. بعد ما صار شي”. كما زار سليمان فرنجية يرافقه حبيب كيروز (“الأنوار” 18 ـ 8 ـ 1970) مقر الحزب “الاشتراكي” واجتمع مع جنبلاط “بحضور أركان الحزب والأحزاب والهيئات السياسية والمنظمات الفدائية، وخلال هذا الاجتماع طرح ممثلو الأحزاب على فرنجية هذين السؤالين:
ـ “ما رأيك بالوجود الفدائي في لبنان”؟
ـ فرنجية: “إن السياسة التي اتبعها الأستاذ كمال جنبلاط هي سياسة حكيمة ورصينة، ولا يمكن لأي رئيس جمهورية إلا أن يؤيد هذه السياسة”.
ـ “ما رأيك بخطوة الأستاذ كمال جنبلاط بإطلاق حرية العمل الحزبي في لبنان”؟
ـ فرنجية: “الدستور اللبناني يكفل الحرية لجميع اللبنانيين، ونحن نعيش في ظل نظام ديموقراطي يسمح لكل مواطن بأن ينتمي إلى أي حزب يتلاءم مع أفكاره ومعتقداته”.
الدلالة التي يمكن الخروج بها بعد قراءة السؤالين والإجابتين أن ثمة “امتحانا” للمرشح الرئاسي كانت تعتمده القوى السياسية اللبنانية ولا يتأفف منها المرشحون أو يعتبرونها انتقاصا من “وطنيتهم أو كرامتهم” فمع سليمان فرنجية والياس سركيس حصل هذا الأمر ففاز فرنجية في “الامتحان الشفهي”، وبين حميد فرنجية وكميل شمعون جرى استخدام امتحان “التحكيم الخطي” كما يقول جنبلاط في “حقيقة الثورة اللبنانية” ففاز كميل شمعون.
وإذا ما جاز القول حول دلالة ثانية مرتبطة بالمرشحين الرئاسيين، فلا مناص من الوقوف عند ما يقوله الرئيس كامل الأسعد “شارل الحلو أنا من اختاره” أو ما يقول الزعيم الوطني صائب سلام في “دفاتر الرؤساء”: “ترشيح سليمان فرنجية لم يتقرر في اجتماع موسع، حصل في اجتماع عُقد هنا حول طاولة الزهر، كنا نلعب الطاولة أنا وفرنجية وبقربنا جوزيف سكاف ونسيم مجدلاني، قلت لفرنجية أنا أرشحك ونمشي فيها”.
انتخابات 1976:
في “دفاتر الرؤساء” يقول كريم بقرادوني “رشيد كرامي كان أول من رشّح الياس سركيس للرئاسة”.
ولإعاقة الطريق الرئاسية أمام المرشح الشهابي الياس سركيس، سعى الرئيس صائب سلام المناوئ للشهابية لإثارة ترشيح ريمون إده مع القيادة السورية، فزار دمشق وبعد عودته إلى بيروت عرضت صحيفة “النهار” في 5 نيسان/إبريل 1976 تفاصيل المداولات في العاصمة السورية، حيث “أوضح سلام أن وجهة النظر السورية في هذا الموضوع هي أن الهدوء والاستقرار يعودان إلى لبنان حين يخلف فرنجية شخص معين غير ريمون إده، وبالتحديد الياس سركيس”.
وفي افتتاحية “الأنوار”، كتب رفيق خوري في 6 نيسان/ابريل 1976 “ما يجري في الكواليس هو الإتفاق على إخراج الانتخاب والشخص المعتدل الذي لا يرفضه اليمين ولا يحاربه اليسار، والذي يعرف كيف يتعامل مع العالم العربي كما يقول الرئيس كرامي”.
وكتبت صحيفة “النهار” في صفحتها الثانية (27 ـ 4 ـ 1976) بعد “إعلان الكتلة الوطنية ترشيح العميد ريمون إده لرئاسة الجمهورية، يُعتبر السباق مفتوحا لوجود مرشحين رسميين في الميدان، وكان السيد الياس سركيس هو الوحيد الذي رُشّح، وقد أعلن ترشيحه الرئيس رشيد كرامي”.
وحيال “الامتحان” الذي تجريه القوى والشخصيات السياسية للمرشح الرئاسي، نقلت صحيفة “الأنوار” عن الرئيس عادل عسيران قوله في 29 نيسان/ابريل 1976 بعد اجتماع “الكتلة النيابية المستقلة” مع الياس سركيس “طرح عليه اخواننا أعضاء الكتلة بعض الأسئلة المتعلقة بالأمن وإمكان تطبيقه للنهج الشهابي والعلاقات بين لبنان وسوريا والانفتاح العربي وإعادة اللحمة إلى الجيش اللبناني وضرورة إعادة النظر بالدستور، وأجاب الأستاذ سركيس بصراحة عن كل نقطة وكانت أجوبته مقنعة”.
ما يمكن أن يُقال ختاماً وإيجازاً إن كمال جنبلاط كان أول من أعلن ترشيح كميل شمعون لرئاسة الجمهورية، كما أن اتفاق الأقطاب رشيد كرامي وصائب سلام وصبري حمادي وكمال جنبلاط وأحمد الأسعد أوصل فؤاد شهاب إلى الرئاسة، وإذ يقول كامل الأسعد إنه كان سبّاقا في اختيار شارل حلو ليخلف شهاب، فصائب سلام يؤكد أن ترشيح سليمان فرنجية انطلق من منزله، في حين أن رئاسة الياس سركيس كان خلفها رشيد كرامي.
ما الذي تغيّر بين الأمس واليوم؟
فئة تقول: تغيّرت العقول، وفئة تقول: تغيّرت الظروف، وفئة أكثر دراية وحكمة تقول: غابت السياسة عن لبنان فغربت شمسه.
مع ذلك سيبقى الوطنيون اللبنانيون ينشدون: كلنا للوطن.
* كاتب لبناني
المصدر: 180 بوست