في الذكرى السنوية لرحيل المفكر والقائد السياسي الدكتور جمال الأتاسي تتزاحم الأفكار وتتلاقح وتصعد للذاكرة الكثير من الطروحات الفكرية السياسية، التي طالما أمسك بها جمال الأتاسي وأطلقها لتكون معيارًا في الوعي الوطني السوري والعروبي عامة، ضمن أساسات وأنساق متجددة عمل بها وعليها فاستطاع أن يكون ذو بعد فكري موسوعي متقدم .
ولعل أهم ما أمسك به وأكد عليه، ورأى أنه الأكثر ضرورة والأهم بالنسبة لمستقبلات شعوبنا، كانت المسألة الديمقراطية، وإلحاحية معايشتها لتكون مسيرة ومسارًا يوميًا في السياسة والمجتمع.
وقد أدرك الدكتور جمال مبكرًا مع أصدقائه إلياس مرقص وياسين الحافظ أن الفكر القومي العربي والعمل الوطني بكليته، لابد من أن يتكيء إلى نضوج في الوعي، وعمق في التفكير، وقدرة وإرادة على التغيير، من أجل إعادة صياغة نظرية جديدة لفكر قومي متجدد، وواعي لكل متغيرات العصر، ومندمج مع جملة حالات التغيير الكبرى الجارية في العالم المعاصر. ومن خلال هذا الوعي فقد وجد الدكتور جمال الأتاسي أن مسألة العَلمانية لايمكن طرحها في واقعنا ومساراتنا إلا عبر كونها إحدى أدوات التغيير الديمقراطي، وعدم المذهبة، وإعادة الصياغة الحديثة للثورة القومية الديمقراطية العربية، وفق محددات الواقع الخصوصي لكل بلد عربي على حدا، من هنا فقد غاصت كتابات الدكتور جمال عميقًا وطويلًا في البحث حثيثًا عن محددات جديدة وواعية للفكر الديمقراطي برمته، وأنه لايمكن المضي قدمًا في سياقات الثورة الوطنية الديمقراطية، إلا في أتون الوعي والاستيعاب لمتغيرات الفكر الليبرالي وإدراكووعي مكتسبات الليبرالية، والوعي الديمقراطي الوطني، الخارج من انبثاقات نظرية تعي التاريخانية، والفكر التاريخاني، عبر إدراك مكنونات ذلك وماهيته.
في الثورة القومية الديمقراطية كان خوض الفكر القومي، الذي لامسه الدكتور جمال الأتاسي، وفيه وعبره راح يحاور كل أيديولوجيات الوطن السوري، لم ينغلق على ذاته، ولا كان متشددًا في طروحاته الفكرية ولا شوفينيًا، بل كان مبدئيًا ومنفتحًا بوعي مطابق للواقع ولمتغيرات التي تحدث في جل المسارات.
اليوم ونحن نستذكر بعض ملامح من أفكار جمال الأتاسي لابد من التأكيد على أن الثورة السورية ثورة الحرية والكرامة، كانت ومازالت منبثقة من محددات المتغيرات التي استشرفها الدكتور جمال، وحاول في العديد من كتاباته ومحاضراته وحواراته التبشير بها. وكانت الأفكار التغييرية لديه وعلى طول المدى ملاذات لاغنى عنها، وملامح لايمكن القفز فوقها، في جل الحالة الفكرية النظرية، وكذلك الممارسة العملية التي سار على هديها الدكتور الأتاسي، وكل من تساوق معه في النضال الوطني الديمقرااطي، منذ أواسط الستينيات من القرن الفائت وحتى الآن .
الفكر القومي العربي كان جمال الأتاسي أحد أعمدته الأساسية عبر قيادته لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وهو من تمكن من إنجاز الكثير من حالات التنوير والتجديد في أنساق التغيير الوطني الديمقراطي، التي لابد من أن تحدث بعيدًا عن (الاستاتيك) والثبات والتحجر عند بعض أطراف العمل القومي العربي.
ولسوف يبقى الفكر القومي المستنير والقابل للتطور والتغيير، الذي تبناه وحدَّث فيه الدكتور ضروريًا لنا جميعًا في محاولاتنا إحداث أي تغيير نظري فكري، يواكب حالات التطور والتغير الحاصلة. ويبدو أننا اليوم أحوج مانكون للمزيد من الوعي القومي، والوطني، الذي يشتغل على قطيعة معرفية كبرى مع كل أنواع الاستبداد المشرقي، الذي أساء وقوض أركان الفكر القومي العربي، عبر سنين وعقود أخيرة متتالية. ولعل المطلوب اليوم وأكثر من أي وقت مضى، هو القدرة على امتلاك وعي قومي ووطني ديمقراطي، يؤمن بالحرية مسارًا وملاذًا، ويبني مداميكه الفكرية وفق حالة التغير الجارية، وينهل من معين فكر سياسي قومي عربي، سبق وحدَّث به وطوره جمال الأتاسي وبعض أهل الفكر القومي العربي واعين لكينونة الواقع والمستقبل، وليس ذلك من الصعوبة بمكان، بل لابد من الغوص في جوانيته ومسح كل أنواع الصدأ والعفن عنه والمضي به إلى مآلات أرحب ووعي أمضى وأنضج. وبغير ذلك سيبقى الفكر القومي العربي أسيرًا للديماغوجيا القومية الاستبدادية، المنعتقة من أي فكر حر أو ديمقراطي، وهو مايمكن أن يعوق أي مسيرة أو مسار نحو كنس الاستبداد، ومن ثم القدرة على النصر في ربيع وطني وعربي على كل أنواع الطغيان الفاشيستي، التي فسدت وأفسدت الأوطان، وحالت دون بناء الوطن بهوية وطنية، وعقل جمعي، يدرك ماهية المستقبل، ويعمل على هدي الفكر الديمقراطي، الذي بدأ بتطويره وتحديثه الدكتور جمال الأتاسي. فهل نحن قادرون على ذلك؟