محمد علاء الدين *
مرّت ستون عاماً على وصول حزب البعث إلى السلطة في سورية، وما زال، على الرغم من تهلهله وما اعترى بنيته من تحولاتٍ جعلته على النقيض مما أعلنه من أهدافٍ وشعارات حفلت بها مؤتمراته الأولى، ومن ثم منطلقاته النظرية وأدبياته ومناهجه التي فرضها قسراً على الدولة والمجتمع، بصفته قائداً لهما كما جاء في المادة الثامنة من دستورٍ صاغه بعد استيلائه على الحكم في العام 1963. ثم تراجع عنها بعد الثورة السورية عام 2011 في محاولة للالتفاف على مطالبها، وحذفها من دستور جديد، لم يغيّر من واقع تفرّده بالسلطة، وإن كان شكل التفرّد القائم بمشاركة محدودة ومؤطّرة لأتباعٍ أكثر منه تهلهلاً، غدا خاوياً من كل فعل قيادي، وتابعاً لا متبوعاً كما كان سنواته الأولى.
الجذور القومية لتمخضات “البعث”:
فوجئ القوميون الطامحون لنهضة عربية موحدة بخديعة بريطانيا وفرنسا وتقاسمهما احتلال الشمال العربي، بعراقه وشامه، فهبّت الثورات المسلحة في سورية منذ بدء الزحف الفرنسي الذي قضى على المملكة الناشئة في 1920، واستطاع، بعد سبع سنوات، إخماد الثورات المسلحة ضده لتنتقل النخب إلى مرحلة النضال السياسي منشغلة بواقع التجزئة المفروض على حساب الحلم القومي العربي، ما أدّى إلى نشوء جمعيات قومية داعية إلى رفض كل تعاون مع الاحتلال، وكان من أكثرها تنظيماً وفاعلية جمعية التحرير العربية التي اعتمدت نظام الخلايا السرية المغلقة، مركّزة عملها في الحركات الكشفية والمنتديات، النادي الثقافي العربي في حلب، والنادي العربي في دمشق، وسواهما من منتديات في الحواضر الكبرى التي بلغ عدد أعضائها ارقاماً مئوية، منهن عشرات النساء المتعلمات، ومولية أهمية قصوى للعمل في قطاع التعليم، استناداً إلى نجاح تجربة “المعلم البروسي” في تحقيق الوحدة الألمانية، وهي التجربة التي تبنّاها في العراق ساطع الحصري وفاضل الجمالي وسامي شوكت ودرويش المقدادي، بتشجيع من الملك فيصل وحكومته.
كان من أثر نشاط الجمعية انعقاد أول مؤتمر قومي بعد الاحتلال في قرنايل بلبنان، استطاع جمع 30 شخصية بارزة في العمل القومي من العراق وسائر بلاد الشام، على الرغم من اجراءات الأمن الفرنسية التي منعت عشرات من الحضور، ليتم الاتفاق في نهاية المؤتمر الذي استمر خمسة أيام على تأسيس حزب علني، يحمل اسم “عصبة العمل القومي”. وقد اختير المحامي عبد الرزاق الدندشي رئيساً للتنظيم الذي باشر نشاطاته بزخم لافت في سنواته الأولى، برز خلاله دور ممثل التنظيم في أنطاكية، زكي الأرسوزي، خصوصا مع تمخضات الاتفاق الفرنسي التركي بشأن لواء اسكندرون، وهو ما زاد من التضييق على العصبة وقياداتها ونشاطاتها، مترافقاً مع دور سلبي لقيادات من الكتلة الوطنية متخوّفة من تصاعد شعبية الحركة في الأوساط المتعلمة، في الوقت الذي باشرت فيه الكتلة مفاوضات الاستقلال، لتتلقّى الحركة ضربات قاصمة إثر وفاة قائدها الدندشي في حادثة ترام بحلب، ومن ثم باضطرار الأرسوزي لمغادرة أنطاكية قبل أشهر من ضم اللواء لتركيا ونشوب الحرب العالمية الثانية (1939) لتتلاشى الحركة في خضم الأحداث.
كانت المرحلة الجديدة للأرسوزي، بعد مغادرته أنطاكية وضم لواء اسكندرون لتركيا، العمل على تنظيم جديد، فأسّس الحزب الوطني العربي في 1939، وحاول ضم عديد من زملائه في التدريس وطلابه، وانتقل شهوراً إلى بغداد، محاولاً نشر أفكاره، لكنه لم يلق تجاوباً مقبولا فعاد إلى دمشق، محوّلاً تسمية حزبه عام 1940 إلى “البعث العربي”، وكان من أبرز من عمل معه جلال السيد ووهيب غانم، في الوقت الذي بدأ فيه ميشيل عفلق وصلاح الدين بيطار يصدران المنشورات باسم “حركة الإحياء العربي”.
وقد يردّ تشابه المسمّى إلى قواسم مشتركة جمعت الثلاثة، فقد درسوا في فرنسا وتشربوا الثقافة الأوربية، وتأثروا بفلاسفة الاشتراكية والقومية، ثم عملوا في وقت واحد، وأحياناً في مكان واحد في التدريس. واعتمدوا على المدرّسين والطلاب في نشر أفكارهم، لكن شهادات من عرفوهم تكاد تجمع على أن عفلق والبيطار في تلك المرحلة كانا أكثر حيوية وديناميكية، واستغلا فصلهما من التدريس للتفرّغ لتنظيمهما، أما الأرسوزي فكان أقل استقراراً وغير متفرّغ، كما أثّر نفيه عاما على تنظيمه بانتقال أعداد منه إلى حركة الإحياء، لتزداد عزلته مع معاناته من اضطراباتٍ ذهنية. وفيما كان عفلق والبيطار ومن انضم إليهما يندمجون تحت مسمّى موحد “حركة البعث العربي”، كان الأرسوزي يعلن اعتزاله العمل السياسي مكيلاً الاتهامات لعفلق بسرقة أفكاره.
مضت الحركة تحت مسمّاها المندمج من غير الأرسوزي، واستفادت من منعكسات الحرب العالمية والاستقلال في توسيع قاعدتها، لتنتهي إلى عقد المؤتمر التأسيسي، معلنة في 7 أبريل/ نيسان 1947 قيام “حزب البعث العربي”، الذي جاء في نص تعريفه بمادته السادسة التأكيد الصريح مرّتين أنه انقلابي: “حزب البعث العربي، انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث الأمة العربية، وبناء الاشتراكية، لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب، والنضال، وأن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي يهدّدان هذه الأهداف بالإخفاق والضياع”. وستفسّر هذه المادة لاحقاً كثيراً خطوات متسرّعة للقيادات ومآلاتها التي حولت الطموح إلى كوارث متعاقبة، تزداد استفحالا بعد كل قفزة.
“البعث” في معترك الانقلابات والسياسة:
جاء التأسيس الرسمي لحزب البعث في منتصف المسافة الزمنية بين الاستقلال ونكبة فلسطين وما تلاها مباشرة من انقلابات العسكر الأولى (حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي) ليدخل المعترك من باب الانقلابات قبل السياسة، ولعل ذلك خدمه على أكثر من صعيد، ف”البعث” بتعريفه نفسه أنه حركة انقلابية أيد انقلاب حسني الزعيم (مارس/ آذار 1949) ببيان أعلن فيه استبشاره بهذا الحدث الذي وصفه خطوة على طريق انقلاب شامل يتطلع إليه. على الرغم من قصر مدة بقائه في الحكم (أقل من خمسة أشهر)، اصطدم الزعيم مع “البعث” عندما أعلن حلّ الأحزاب، وهو ما رفضه الحزب ببيان شديد اللهجة أدّى إلى اعتقال عفلق وقيادات أخرى، فبادر عفلق منفرداً بإرسال رسالة من السجن، يستعطف فيها الزعيم متملقاً وراجياً الصفح فأفرج عنه الزعيم، ليواجه عفلق ثورة عارمة ضدّه من أنصاره ومن الشارع، كادت تطيحه من الأمانة العامة للحزب، لتخاذله في أول معترك وعدم احتماله أياماً في السجن. نصحه بعض مؤيديه بالابتعاد قليلاً لامتصاص فورة الغضب، فأعلن نيته اعتزال العمل السياسي، وسافر إلى البرازيل بدعوى العمل مع خاله في التجارة، لكنه ما لبث أن عاد بعد أيام، عندما قام سامي الحناوي بانقلابه، معلناً تأييده المطلق لهذا الانقلاب الداعي إلى وحدة مع العراق، فمنح وزارة المعارف. وبعد أربعة أشهر، أيد انقلاب أديب الشيشكلي، مباركاً ما اتخذه من إصلاحات وصفت بالثورية، ثم تحوّل إلى انتقاد استئثاره بالسلطة، داعياً إلى تضامن الأحزاب والحركات السياسية ضده، مبادراً إلى الاندماج مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الذي يواليه ضباطٌ شبان، ليصبح المسمّى “حزب البعث العربي الاشتراكي”.
جابه الشيشكلي حركات الأحزاب ضدّه، والتي اتسعت رقعتها لتشمل معظم الأحزاب، بما فيها من قوى ناشئة وتقليدية، كحزب الشعب والحزب الوطني، واعتقل معظم القيادات، لكن التحرّك العسكري في حلب البعيدة عن العاصمة وإنذار التصعيد من قائد الحركة، النقيب مصطفى حمدون، جعل الشيشكلي يستجيب لنداء التنحّي بما وصفه “حقناً للدماء”، ويغادر البلاد مساء 25 فبراير/ شباط 1954. وقد تجسّدت الإطلالة الديمقراطية الجديدة في الحياة السياسية السورية في الانتخابات البرلمانية التي تفوّق فيها “البعث” على أنداده من القوى الجديدة، فالحزب الشيوعي لم يحصل سوى على مقعد واحد والقومي السوري على مقعدين وحركة الإخوان المسلمين على أربعة مقاعد فقط، فيما حصد “البعث” 22 مقعداً متفوّقاً حتى على قوى تقليدية كالحزب الوطني بزعامة القوتلي بثلاثة مقاعد، ولم يتفوّق عليه سوى حزب الشعب، الحاصل على 30 مقعداً، فيما لكتلة المستقلين لعموم سورية 60 مقعداً يحوزها زعماء عشائر ووجهاء تصب غالباً لمصلحة القوى التقليدية في تشابكٍ متجذّر للمصالح والعلاقات.
وجاء في العام التالي (1955) اغتيال نائب رئيس الأركان، العقيد عدنان المالكي (المقرّب من حزب البعث من دون تنظيم التزاماً بالمعلن من شروط عسكرية)، ليزيد من شعبية “البعث” في صفوف الضباط الجدد المفعمين بروح قومية والمتأثرين بشخصية المالكي الكارزمية مدرباً في الكلية العسكرية وقائداً شابّاً مشاركاً بفاعلية في حرب فلسطين أدّت إلى اعتماد كبار القادة عليه.
وكان الحدث الأبرز الذي عزّز المد القومي إلى أقصاه العدوان الثلاثي على مصر 1956 بعد تأميم الرئيس المصري جمال عبد الناصر قناة السويس، وما أنتجه من تقارب ووحدة مصير تجسّدت في أعلى صورها في سورية وموقف سياسييها وجيشها، ما فتح كل الأبواب إلى مداها على دعوات الوحدة مع مصر متّخذة من عبد الناصر، بما اكتسبه من شعبيةٍ جارفة، قدوة ومثلاً أعلى. ولم يكد عام يمضي إلا والقوى العسكرية في سورية تشكّل وفداً من ضباطها ضمنه مجموعة مؤثرة من البعثيين وتتجه إلى القاهرة طالبةً الوحدة العاجلة مع مصر، من دون علم أو إذن من القيادة السياسية.
ما يُلحظ في السياق أن كل الظروف والأحداث المتسارعة التي خدمت “البعث” خلال عشرة أعوام أعقبت التأسيس لم تستدع من قياداته ونخبه الفكرية الفاعلة مراجعاتٍ في البنية والنهج لتحويل المسار نحو اللعب على أوتار الديمقراطية ومحاولة الإفادة من التجربة الغربية بعد الحرب، بل بقي روّاده الذين تشرّبوا ثقافاتهم من تلك المناهل أسرى أفكارٍ تفضّل الشمولية، متوهمةً أن ما حققته كفيلٌ بدفعها إلى مزيدٍ من الإصرار على المضي في نهجٍ يستغل ما يتحقّق بالديمقراطية لاتخاذه ركيزة انقلابية تسرِّع وصولها إلى السلطة، وهو ما ستذوق القيادات المؤسسة لاحقاً مرارات حصاده بالانقلاب عليها من حيث شجّعت ولم تحتسب، وبالانقلاب اللاحق على كل ما دعت إليه من أهداف.
تخبّطات “البعث” في مرحلة الوحدة:
رفض جمال عبد الناصر لقاء الوفد العسكري السوري ما لم يتّخذ الصبغة الرسمية المراعية لقواعد العمل الدبلوماسي، ما اضطرّ القوتلي تحت الضغط، والتخوّف من قوة العسكر التي سبق ولدغته إلى إرسال وزير الخارجية صلاح البيطار (المؤسس البعثي)، ليرأس الوفد في مقابلة عبد الناصر الذي قدّم شروطاً للاستجابة للوحدة، أهمها، في سياق هذه المطالعة، شرطه بحلّ الأحزاب، وهو ما استجاب له البعثيون بعاطفية، ربما ظنّاً من بعض قياداتهم أن بإمكانهم لاحقاً القيام بأدوار تشبه ما اعتادوه في سورية من دون حساب حقيقي لقوة عبد الناصر ومقدراته.
أعلنت الوحدة المتعجلة بين سورية ومصر برئاسة عبد الناصر في 22 فبراير/ شباط 1958، وسط ترحيب شعبي كاسح لم تؤثر فيه تحفّظات القوى التقليدية التي تأثّرت مصالحها بقرارات الاصلاح الزراعي، ولا رفض المختلفين ايديولوجيّاً، كالإخوان المسلمين والشيوعيين الذين قمعوا بقوة، لكن ما تبع لم يرض تطلعات قيادات “البعث” وضباطه، على الرغم من المناصب الشرفية العالية، فالحوراني نائب لرئيس الجمهورية وعدد من القيادات البعثية في مناصب وزارية، لكنها من دون فاعلية حقيقية. أما القواعد السابقة ل”البعث” المنحلّ تنظيمياً فذابت في المد الجماهيري للاتحاد القومي الذي لم يحقّق فيه البعثيون نتائج تذكر في انتخابات 1959. وهنا أدرك قادة “البعث” أنهم في طريقهم إلى الذوبان إن استمرّوا، فاستقال قادتُهم المؤسّسون من مناصبهم، وحاولوا من بيروت استعادة تنظيمهم، لكن النتائج كانت هزيلةً في واقع مختلف عما أسعفهم في سنوات التأسيس، خصوصا وأنهم خارج الأرض وبمواجهة قومية مع عبد الناصر، الشخصية طاغية الحضور والمدجّجة بإعلام يكتسح الساحة العربية برمتها.
تغير الحال في الضباط البعثيين في مصر من فارضي إرادات زمن القوتلي إلى مرؤوسين مهمشّين حتى في قطعهم العسكرية، شكل خمسة منهم (اللجنة العسكرية) برئاسة العميد بشير صادق فيما كان أقلهم رتبة المقدم محمد عمران. انفرط عقد اللجنة بتكليف أربعة من ضباطها بمهام دبلوماسية، وانتقالهم خارج مصر، فأعاد عُمران تشكيلها ليغدو، وهو الأدنى رتبة في اللجنة السابقة الرئيس الجديد الأعلى، لكن المفارقة الأهم أن قوام اللجنة الخماسي كان طائفي التوجه بزعامة علوية (المقدّم محمد عمران والرائد صلاح جديد والنقيب حافظ الأسد) وتبعية اسماعيلية (أحمد المير وعبد الكريم الجندي)، وأضيف إليها للتغطية ضابطان غير فاعلين برتبة ملازم من الطيف السني، على الرغم من وجود ضباط أعلى رتبة!. لتكون تلك الخطوة مفصلية في بدء التحوّل إلى الطائفية في صفوف الحزب وعسكره، ونطفة في رحم “البعث” سينمو جنينها حاملاً كل مورثات صراعات فئوية معقدة الجذور، وحاملاً كل قابلية حدوث طفرات، حين تتاح ظروف بيئة جديدة متغيّرة الأنواء.
وقع الانفصال عن مصر في 28 سبتمبر/ أيلول 1961، وكان مفاجئاً لجميع القوى السياسية لأنه أتى من خارج تشكيلاتها عبر حركة العقيد المستقل، عبد الكريم النحلاوي، ومن غير أي دورٍ للبعثيين فيه، لكن المؤسّسين الخارجين من مولد الوحدة خاويي الوفاض سارعوا إلى إعلان تأييدهم الانفصال، والتوقيع على بيانه، وهو ما سيزيد مأزَقهم أمام المتبقّيين من قواعد قدّموا لهم الوحدة أنها أول الأهداف، وما سيتخذه العسكر لاحقاً ذريعة لإبعادهم عن القيادة.
لم يلق الانفصال، بكل مبرّراته وبكل أخطاء الوحدة، قبولاً في الشارع السوري، ولا في صفوف الجيش، لكنه كان فرصةً أخيرة أمام التهلهل الذي حلّ بحزب البعث، نتيجة حساباته الخاطئة في مرحلة الوحدة وما أصيب به من ارتكاسٍ وارتجالية، كان الفرصة الذهبية الأخيرة، فالكيان الانفصالي هشّ والشارع يغلي والجيش متأهب للانقضاض. ويدرك البعثيون أنهم باتوا أقلّ شعبية بين القوى الوحدوية وأقل عدداً وأدنى رتباً لكنهم أكثر تنظيماً، فلتكن الضربة الحاسمة لهم أيّاً كانت الدوافع، أيديولوجية أم غائية أم ذرائعية. شارك ضباط “البعث” في الحركة المسلحة في حمص 1962 التي فشلت في لحظتها الأخيرة، وانتهت باعتقال القائمين عليها، وفي مقدمتهم العقيد الناصري جاسم علوان، والمقدّم البعثي محمد عمران. وبسجن عمران، غدا الرائد صلاح جديد القائد الفعلي لعسكر “البعث” ولجنته العسكرية، ليلعب من موقعه في إدارة شؤون الضباط دوراً غاية في الأهمية في التنقلات، زارعاً الضباط البعثيين في مواقع هامة، يستطيع من خلاله التحكّم بمفاصل عديدة في الحراك العسكري المناوئ للانفصال بأغلبيته القومية والناصرية غير المنظمّة، وهو ما كان بعد إطاحة الانفصاليين قبل ستين عاماً صبيحة 8 مارس/ آذار 1963.
حكم “البعث” وبدء الانحرافات:
نجاح حركة آذار التي أسميت ثورة منح مؤسّسي “البعث” وقادته التاريخيين وعسكرييه الفرصة الأثمن لتحقيق ما نصَّ عليه دستورهم الحزبي من انقلابيةٍ لتحقيق الأهداف، على الرغم من فقدانهم نتيجة تخبّط القرارات خلال سنوات الوحدة والانفصال كثيراً من مؤيديهم، لكن جناحهم العسكري بات موجوداً ومؤثّراً بفضل تنظيمه، ولم يبق أمامهم سوى قوة ناصرية يحكمها الاندفاع العاطفي من غير بنية تنظيمية. لجأ البعثيون، بعد التوافق على العميد لؤي الأتاسي رئيساً للدولة، وترفيعه إلى رتبة فريق، إلى حكومة مناصفة مع الناصريين برئاسة صلاح البيطار (المؤسّس البعثي)، واستقدموا الرتبة العسكرية الأعلى بينهم العميد أمين الحافظ من الأرجنتين، لتولي حقيبة الداخلية بعد ترفيعه إلى رتبة لواء، فيما أطلق العنان لصلاح جديد من خلال موقعه الهام في إدارة شؤون الضباط للتحكم بالتنقلات والتسريحات المتسارعة على نحو مكشوف. حاول الناصريون في مايو/ أيار 1963، عبر الاستقالة الجماعية لوزرائهم إثارة الشارع، ولفت الانتباه إلى حقيقة ما يجري في الجيش، من إبعاد ضبّاطهم لحساب تعيين مزيد من البعثيين، حتى من غير العاملين باستقدام أعداد من المعلمين البعثيين، وخصوصا العلويين لتعيينهم ضباطاً بعد اتّباع دورة مدّتها أيام، فتحرّك الشارع مباشرة في مظاهراتٍ مناوئةٍ، واجهها البعثيون بالقمع وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، بل واستغلوها فرصةً للتخلص من معظم الضباط الناصريين، بمن فيهم أعلى القيادات، وبذرائع شتى من إقالة واستقالة وتقاعد، لتشمل وزير الدفاع الفريق محمد الصوفي، ونائب رئيس الأركان اللواء راشد القطيني، فيما أبعد رئيس الأركان، زياد الحريري، إلى السفارة في إسبانيا، بعد تصفية كتلته المستقلة. وبحلول منتصف يوليو/ تموز 1963، كانت المواجهة العسكرية قد باتت حتميةً في صراع ضباط “البعث”، مع من تبقّوا من الضباط الناصريين، ومن يتحرّك منهم، على الرغم من عدم إعادته إلى الخدمة، كالعقيد جاسم علوان الذي قاد الحركة الناصرية يوم 18 يوليو/ تموز، وكان من أسباب فشلها انكشاف مخطّطاتها وتحرّكاتها عبر الضابط (العلوي) محمد نبهان الذي زرعه صلاح جديد عميلاً في صفوفهم المنكشفة باندفاعٍ يصل إلى حد السذاجة.
تمت السيطرة بالقوة على غليان الشارع، وإفشال الحركة العسكرية واعتقال جميع من شارك فيها، بل ومن سبق تسريحهم وإبعادهم بمن فيهم القادة. وعقدت محكمة عاجلة بستار ثوري، اتخذت قرارها مباشرة بإعدامهم جميعاً، منتظرةً وصول الرئيس الفريق لؤي الأتاسي قادماً من مصر للتصديق على حكم الإعدام، حيث كان مع مجموعة من البعثيين في جلسة مباحثات مع عبد الناصر في مصر عن الوحدة المزعومة، وهي الجلسة التي أنهاها عبد الناصر على عجل، لمعرفته بما حلّ في سورية. رفض الأتاسي حين عودته، وبصفته رئيساً، التوقيع على قرارات الإعدام، وقدّم استقالته مباشرة، مبرّئاً نفسه من الدم السوري.
وكانت استقالة الأتاسي فرصة جديدة سانحة للبعثيين للانقضاض على آخر ما يفصلهم عن الاستفراد بالجيش والحكم، فقدموا مباشرة وزير داخليتهم، اللواء أمين الحافظ، رئيساً وقائداً عاماً للجيش، وتم ترفيع محمد عمران إلى رتبة لواء، ليتبعه إليها صلاح جديد في قفزة ثلاثية، وليتحول “البعث” إلى حزب حاكم بمفرده، له الحقّ المطلق في قيادة الدولة والمجتمع، كما سينصّ الدستور، وليتحول الجيش أيضاً من جيش وطني إلى جيش عقائدي، عقيدته “البعث”، كما في كل الأنظمة الشمولية. وكان كل ما حدث واتبعه البعثيون للوصول إلى الحكم من ضمن عقيدتهم الانقلابية، لكن ما أعقب الوصول كان بدء الانحراف عن عقيدة أساسها القومية نحو نهج فئوي أقلوي ستتالى كوارثه وصولاً إلى حكم طائفة فدكتاتورية تورث الحكم وتفضي إلى الخراب.
الصدام التالي لعسكر البعث بعد التخلص من مناوئيهم كان ضمن صفوفهم، وتركّز على إبعاد القيادات التاريخية بما فيها المؤسسون والقائد العسكري للجنة محمد عمران الذي والى القيادة والنخب المدنية الحريصة على المبادئ لتكون نهاية المرحلة بالحركة الدموية يوم 23 فبراير/ شباط 1966 بهجوم لقوات المغاوير على القصر الرئاسي لأمين الحافظ واعتقاله إثر معركة شرسة، أصيب فيها وافراد عائلته بعد مقتل معظم الحامية، لتؤول القيادة البعثية لعسكرها الطائفي بقيادة علوية صرفة، تسّتُر جانبيها بجناحين، إسماعيلي ودرزي، فيما تقدّم للواجهة الرئاسية المدنية بعثيون من خلفية سنية ليس بأيديهم سلطة القرار.
تفرّد صلاح جديد وجناحه الموالي بالسلطة، وكافأ من والاه بترفيعات متقافزة وفي مقدمتهم حافظ الأسد بمنحه رتبة موازية (لواء) بقفزة تتجاوز ثلاث رتب، وتعيينه وزيراً للدفاع مع احتفاظه بمنصبه الذي أصر عليه قائداً لسلاح الجو. ولم يلبث أن تخلّص بعد حين من ذراعه العسكري الضارب قائد سلاح المغاوير، المقدّم الدرزي سليم حاطوم، الذي لم ترض طموحاته مكافأته على تنفيذه الانقلاب الدموي، فكان تمرّده في السويداء ذريعة لتصفيته فور عودته المتهوّرة من الأردن في أعقاب هزيمة حزيران، فيما يرى باحثون أن تقليص نفوذ الضباط الدروز ممنهج مسبقاً، بدليل إبعاد أعلاهم رتبة، اللواء فهد الشاعر، بعد اتهامه بالتخطيط لحركة انقلابية، لتبقى الكتلة الفئوية الأضعف ممثلة بضباط الطائفة الاسماعلية، والتي سيتم التخلص من وزنها النوعي في أعقاب هزيمة حزيران 1967 وتداعياتها، فعضو اللجنة الذي غدا قائداً للجبهة اللواء أحمد المير وفرّ على حمار متنكراً إثر إذاعة بيان سقوط القنيطرة تم إبعاده، بينما انتهى قائد الاستخبارات اللواء عبد الكريم الجندي منتحِراً (أو منحوراً) في مكتبه في حادثة ما زال يكتنفها إبهام كثير.
يزعم كثر من أنصار صلاح جديد أن كل ما قام به ما كان قائماً على خلفية طائفية بقدر ما كان رؤية قوميةً اتخذت من اليسار الماركسي انموذجاً، فتخلص من كل المعترضين طريقه للتنفيذ، بما فيهم جميع القيادات المؤسّسة ورفاق أمسه القريب، لكن المشكّكين بذلك الإخلاص العقائدي يفنّدون بلغز العلاقة مع حافظ الأسد الذي ما زال منطوياً على أسرارٍ تفتح كل أبواب التأويل، من ترقيته السريعة في المناصب والاستجابة لرغائبه، ومن ثم إطلاق يده في وزارة الدفاع، بدعوى تفرّغ جديد لإعادة بناء الحزب، وصولاً إلى إهمال نتائج التحقيقات الحزبية والعسكرية عن لقاء للأسد بمسؤولين في الخارجية البريطانية من دون إذن، خلال ذهابه إلى لندن بدعوى العلاج قبل وقوع الحرب، وما كان خلال الحرب من أوامر الأسد بإذاعة بيان سقوط القنيطرة من دون معركة، وأوامره بانسحابات كيفية للقوات المتقدّمة عن طريق لبنان للتجمّع في حمص، وليس في العاصمة دمشق.
ستبقى تساؤلات أكثر معلقة ما لم تكشف وثائق لا يرقى إليها شك حقيقة تلك العلاقة، وليبقى التفسير الأقرب أن تفاهماً وثق به جديد من مرؤوسه الأسد، قام على التخلص من جميع من يقفون أمام تطلعات صلاح جديد في أن يكون القائد والمنظّر الجديد، وأن يبقى الأسد ذراعه العسكري التنفيذي الضارب، لكن تمكّن الأسد وبناءه علاقات مصالح ضمن مجمل النسيج السوري حينها، سعياً إلى مرحلةٍ يخطّط لها، فيما يزداد جديد انغلاقاً خارج الإطار الحزبي، أوصل الأسد إلى رفض أوامر جديد بدعم القوات البرّية على الحدود الأردنية خلال أحداث أيلول الأسود 1970 (في الأردن)، لتكون اللحظة الفاصلة بين القطبين، والتي دعا فيها جديد القيادة القطرية إلى عقد مؤتمر يقرّر طرد الأسد من الحزب ومحاكمته، فيما كانت الفرصة السانحة لتحريك الأسد قواته، واعتقال جميع أعضاء القيادة، بما فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء قبل ثلاثة أيام من إعلان ما أسماها الحركة التصحيحية، بعدما تأكّد من استتباب الأمر له في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970. وليضيف لغزاً جديداً باصراره على بقاء صلاح جديد في السجن حتى موته عام 1993.
البعث الأسدي:
فتح قضاء حافظ الأسد على معظم القيادات السابقة لحزب البعث الباب أمامه ليكون قائداً أوحد، فجمع رئاسة الجمهورية والقيادة العامة للقوات المسلحة، ووضع في وزارة الدفاع شخصاً مدنياً لا يحظى بأي احترام بين الضباط (متعب شنان)، قبل أن يمنحها أبدية لشريكه المقسم على الولاء الأبدي، مصطفى طلاس، ليكون واجهة متعمّدة الإضعاف لأغلبية سنّية، كما سمّى نفسه أميناً عاماً للحزب، جامعاً أمانة القيادتين القومية والقطرية، موسعاً الشرخ مع الحكومة البعثية في العراق، ومتابعاً نهج التصفية لمن يرى فيهم خطراً، فأقدمت استخباراته على تصفية اللواء محمد عمران في لبنان، ثم أتبعه بقطب التأسيس صلاح البيطار في فرنسا، شأنه مع كل خصومه ممن تستطيع أذرعه نيلهم، حتى وإن كانوا غير سوريين، كما حصل لاحقاً من اغتيالاتٍ نفذتها منظومته لشخصيات سياسية لبنانية عديدة، أشهرها كمال جنبلاط والرئيس المنتخب خارج إرادته رينيه معوض وسواهما كثير.
لم يعد “البعث” في مرحلة الأسد الأب كسابق عهده، راسماً سياسات أو استراتيجيات إلا بقدر صدورها عن القائد الأوحد المبجل بكل صفات الإلهام والحكمة، صحيحٌ أن الأسد استخدم ما أسميت “كتائب البعث” في حربه مطلع الثمانينات مع الطليعة المسلحة التي ادّعت انسلاخاً عن حركة الإخوان المسلمين، لكن دور تلك الكتائب لم يتعدّ حراسة مقرّاتٍ، هدف منها زج الحزب ومنتسبيه في الصراع، ليضمن منهم صورة ولاء كونهم مستهدفين، فيما استخدم الجيش بقواته الضاربة لمحاربة خلايا التنظيم من دون رادع عن ارتكاب فظائع صارخة التوحّش بحق المدنيين، كما حدث في مجزرتي حماه وسجن تدمر وسواهما في محافظات حلب وإدلب وحمص. ولعل أعظم الدلائل على تفريغ الأسد “البعث” من كل مضمون أنه بعدما استتب له الأمر بالتخلص حتى من خطر أخيه رفعت، وتجديد انتخابه الصوري لولاية جديدة، رفع “البعث” بأوامر من منظومته شعار الأبدية “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”.
وقد كرّس الأسد الشعار ليس إلى حين موته فحسب، بل تجاوزه بإصرار على توريث عائلي، محولاً الحزب إلى مجرّد جوقات، مصفقين ومهللين لكل خطواته مهما كان اتجاهها، وليتحوّل “البعث”، بإرادة الأسد، من أساس ارتكز عند المؤسّسين على مفهوم العصبة القومية إلى مفهوم رعاع تابعين لمنظومة عصابة عائلية، وليضرب الأسد الأب بعدها صفحاً عن أي دعوةٍ إلى مؤتمر للحزب طيلة الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته. يقول حنا بطاطو: “في عهد الأسد، تغيرت شخصية البعث… تحوّلت كوادر الحزب أكثر فأكثر إلى بيروقراطيين وصوليين، ولم تعد حيّة أيديولوجياً نابضة بالحياة كما في الخمسينات والستينات، حيث تجاوز الإخلاص غير المشروط للأسد في نهاية المطاف الإخلاص للقناعات”.
أرقام ودلالات:
قفزت أعداد منتسبي حزب البعث الذين كانوا بضعة آلاف قبل الأسد إلى خمسين ألفاً في العقد الأول لحكمه، ليتضاعف الرقم مرّات بتسارع منتصف الثمانينات، عندما غدا حزب البعث بوابة للباحثين عن دريئة أو تقية، ثم طالبي الوظائف العامة في الدولة التي بات التقييم الأمني أهم شروط القبول فيها، وليرتفع الرقم بعدها إلى أكثر من مليون منتسب قبل اندلاع ثورة الشعب السوري في مرحلة الابن. كان التوسّع أفقياً تتلاشى فيه بقية الأبعاد، بعدما حوّل الأسد الدولة برمّتها إلى دولة أمنية متوحشة، تسيطر أجهزتها على المؤسّسات والأحزاب، بما فيها “البعث” ذاته.
تابع الابن الوريث نهج الأب، فأبقى على “البعث” الذي تحولت أهدافه في “الوحدة والحرية والاشتراكية” إلى النقيض تماماً، لتغدو مجال سخريات لاذعة ما عادت الجهات الأمنية تلقي لها بالاً إن لم تشجّعها أحياناً لتحطّ من شأن المؤسسة الحزبية المنخورة، ولتعلي من شأن الوصاية الأمنية التي باتت تقرّر تعيينات كبار مسؤولي الحزب، على نقيض ما هو كائن في أعتى الأنظمة العقائدية والشمولية، ولتستخدم الحزب ديكوراً في مسمّاه وكومبارساً في خلفيات المشاهد كبقية ما صارت تسمح به من مسمّيات حزبية أكثر لهاثاً خلف الولاء وسط خرائب وطن تقدّم لهم فيه شعار الحذاء العسكري الذي تكرّس نُصباً يدشنها أمناء الأحزاب في الساحات ويتهافت الرفاق لتصوير الولاء لاثمين الحذاء عبر الشاشات.
* كاتب وإعلامي سوري
المصدر: العربي الجديد