أحمد نظيف *
لا جديد تحت شمس تونس. لا يزال الرئيس قيس سعيد يقود قطار البلاد بسرعة فائقة نحو الكارثة. يجلس وحيداً في مقدمة القطاع، لا يريد سماع أحد. لا تلهيه صرخات الركاب وأصوات الأنصار الناصحين، ولا غضب المعارضين وضحك الشامتين. لا يكلم أحداً ولا يستمع لأحد، سوى لأفكاره التي تدور حصراً حول: المؤامرة والدسائس والأشباح اللامرئية التي تريد بالبلاد والشعب الشرّ. في كوكبه المفارق للواقع يجلس الرئيس غير مكترث بالمأساة التي يعيشها الناس في كوكبهم البائس. بسطاء الناس الذين لا يجدون قائمة طويلة من المواد الأساسية في محلات البقالة والأسواق. وعدهم ذات استفتاء بأنهم في حال قالوا “نعم” لدستوره الجديد فإنه “لا بؤس ولا فقر بعد اليوم”، لكنهم لم يجدوا سوى السراب.
وضمن هذا السياق الديماغوجي المسيطر في البلاد ظهر الرئيس سعيد مؤخراً على قمة جبل بوقرنين في العاصمة تونس محتفلاً بعيد الشجرة معيداً اسطوانة المؤامرة متهماً أشباحاً لا نعرفها، بالقول: “سيحترقون بألسنة النار التي أشعلوها… هم يحرقون ونحن نزرع… وكل من بيده أعواد ثقاب وبنزين سيحترق بالنار التي يريد إشعالها. النيران اشتعلت ليس من قبيل الصدفة في عدة أماكن… ثم يقولون انتقال ديموقراطي وديموقراطية… كفى تطاولاً على الدولة. كل من تطاول على الدولة التونسية يجب أن يتحمّل مسؤوليته”. ثم أضاف متمترساً خلف “جهاز الدولة”: “آن الأوان لوضع حدّ للتطاول على الدولة التونسية والتعويل على القدرات الذاتية للخروج من الأوضاع الراهنة التي يسعى من أشعل النيران أن تبقى تونس فيه”.
وعندما يستفيق قطاع من الشعب من كابوس الشعبوية ويأخذ زمام وعيه بيده لا يجد أمامه إلا الحلول الأمنية، بوصفها المهرب الأخير لحكومة لم تحقق نجاحاً واحداً منذ أكثر من عام، حيث لم يعد للنظام من وسائل للسيطرة على المجال والسكان إلا الورقة الأمنية للحفاظ على حالة مقبولة من الولاء والطاعة. وآخر الأمثلة في هذا السياق حالة القمع التي شهدتها الوقفة الاحتجاجية التي نفذها أهالي غرقى القارب المنكوب في مدينة جرجيس (جنوب)، والذين فشلت الحكومة في انقاذ أبنائهم ولم تكتف بذلك بل دفنت جثثهم التي لفظها البحر بعد أسابيع في مقبرة المجهولين. وارتفعت درجة القمع عندما قرر هؤلاء الأهالي المنكوبين التوجه إلى جزيرة جربة المجاورة التي تحتضن الدورة 18 للقمة الفرنكوفونية، لأن النظام يخشى أن تخدش صورته أمام ضيوفه، معتقداً أن مثل هذه الأخبار لا تصل إلى العالم في عصر الوسائط المتنوعة ودمقرطة الإنترنت.
لكن العقل الشعبوي الحاكم، بلغ درجة من السطحية لا يمكن معها تخيل حجم العبث الجاري في البلاد، بوصفه عقلاً يعيش في فقاعة البارانويا، فإنه يرد أي فشل ذاتي إلى أسباب خيالية تدور حول المؤامرة والمتآمرين.
إذاً، في النهاية لم يبق للرئيس سعيد سوى البيروقراطية الأمنية/العسكرية، لمواجهة وعوده التي أخلفها، ونسج من خلالها شعبيةً لدى الناس وحالة ولاء هزم بها خصومه في انتخابات 2019 ولاحقاً في انقلاب 25 تموز 2021، حيث تستهدف سياسة سعيد تمكين البيروقراطية الأمنية منذ انقلابه بشكل غير مباشر في صناعة علاقات ولاء، بوصف الدولة مجموعة الأجهزة الرسمية التي تدار من خلالها شؤون المجتمع، فإن سعيد أولاً يعزز علاقات الولاء عبر السيطرة على هذا الجهاز القوي وما يعنيه ذلك في الوجدان الشعبي العام وخاصة في وجدان قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي تعمل لدى الدولة (موظفي الدولة والقطاع العام) ومن طبقة الأعمال التي تستفيد من الدولة (تبيع للدولة). وثانياً، من خلال تمكين البيروقراطية الأمنية والعسكرية وتعزيز علاقات الولاء بعلاقات مضاعفة من الطاعة والخوف.
وهذا النهج ليس اختراعاً من بنات أفكار سعيد ولا تكتيكاً جديداً في النظم السلطوية أو شبه السلطوية، بل هو نفسه ما قصده عبد الرحمن الكواكبي في كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” بقوله: “الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه”.
لكن أي مجتمع، بقدر ما تكون العلاقات بين الأفراد والجماعات داخله غير متكافئة، هو بالضرورة فريسة للصراعات التي تهدد وجوده ذاته. على هذا النحو، فإنه يفرز تنظيماً للسيطرة قادراً على احتواء العداوات بالقوة ضمن الحدود اللازمة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي. وهكذا تبدو السياسة كمجال لتنظيم النزاعات من خلال القيد المنظم. لكن القدرة على تقييد القوة، لا تقتصر على السمات المادية لقوة تتفوق على الآخرين. في الواقع، لا يمكن احتكار القيد على المدى الطويل دون حد أدنى من استيعاب ضرورته من جانب المهيمن عليه. هذا البعد الثاني للسياسة – القيد الضروري – هو إضفاء الشرعية على الهيمنة من خلال ارتباط السلطة، صاحبة وسائل الإكراه، مع مجموعة من الرموز والمعايير والقيم التي تتجاوز النزاعات. بسبب المنطق المزدوج لاستمرارية الصراع وضرورة التماسك، فإن التمثيل سيجمع بين جانبين: التعبير عن المصالح الخاصة وإضفاء الشرعية/عدم شرعية السلطة بالرجوع إلى الرموز والقيم والمعايير التي تشكل صورة مجردة.
* كاتب تونسي
المصدر: النهار العربي