حمادة إمام *
منتصف نهار يوم الثلاثاء يوم 26 شباط/ فبراير عام 1980، تلقى السادات اتصال تليفونى من وزير داخليته في ذلك الوقت النبوي اسماعيل نصه كالتالي؛
وزير الداخلية: «حتة واد فلاح من بلد اسمها أجهور تبع طوخ حاجز موظفين في الوحدة المحلية، وبيقول إذا لم نطرد السفير الإسرائيلي ونذيع بياناً خلال 24 ساعة، هيقتل الرهاين ويقتل نفسه بالرشاش اللي معاه، ولا مؤاخذة يا افندم الولد معاه ميكرفون وعمال يشتم الست هانم وكمان شتمنا كلنا»،
السادات: قلة أدب وبذاءة تبع مين ده يا نبوي؟،
النبوى: لسه مدير الأمن مكلمني وبيقول إنه بيذيع خطب عبدالناصر ياريس،
السادات: عبدالناصر مين يا نبوي، أنت مستني إيه، هو مش بيقول إنه هيموت نفسه، يبقي خلاص، ابعتوه لعبد الناصر بتاعه، الأشكال دي ما ينفعش معها إلا كده، ولا مستني لما يعملوه بطل، ويطلع لنا ولد مجنون من القرية اللي جنبه واللي جنب اللي جنبه، وشوية الرعاع إياهم يطلعوا لي تاني في الشوارع ويقولوا انتفاضة شعبية، جرا لك إيه يا نبوي، أنت مش عارف شغلك ولا إيه، حط سماعة التليفون وخليك على اتصال بي من هناك.
حط النبوى السماعة ونزل بنفسه للإشراف على تصفية الحدث، وكانت قوة أمنية هائلة موجودة بإشراف مساعده اللواء حسن أبو باشا..
…………………….
امتلأت شوارع القرية الضيقة بالقوات وبدأت المفاوضات عبر مكبرات الصوت بين وزير الداخلية ومحتجز الرهائن الذي حذر القوات من أي محاولة لاقتحام المبنى؛ لأنه وضحاياها سيكونون في عداد الموتى، وأعلن مطالبه صراحة، وكانت كالآتي: طرد السفير الإسرائيلي من مصر، وإغلاق سفارتهم عندنا، وأن يتم إعلان ذلك في بيان رسمي يبث في الإذاعة المصرية مباشرة بعدها يتم إعلان الإفراج عن الرهائن والتسليم للشرطة. ولكن وزير الداخلية أبلغ الرئيس السادات بالمطالب فسخر منها وأصدر أوامره بالتعامل معه باعتباره مجرمًا. وحاول النبوي إسماعيل إقناعه بأن يسلم نفسه مقابل عدم تقديمه للمحاكمة ولكنه عاد وكرر مطالبه الواضحة، مع إضافة توجيه سيل من السباب والشتائم إلى الرئيس السادات وزوجته ومعاونيه واتهامهم بالخيانة عبر مكبر الصوت.
استدعى وزير الداخلية النبوي إسماعيل والدة محتجز الرهائن للتوسل إلى ابنها بتسليم نفسه، ولكنه ناقش والدته بهدوء وطلب منها أن تقرأ على روحه الفاتحة، ووسط بكاء والدته رفض الاستجابة وتمسك بمطالبه فاستدعوا شيخ القرية وكان صاحب تأثير كبير عليه فيما سبق، ولكن دون جدوى. وكان رد فعل أنه أدار شريط الأغاني الوطنية والحماسية في هذه الأثناء. كان الليل قد أرخى سدوله، وأخرج من جيب “البالطو” كشاف ضوء صغيرا اطمئن به على الرهينتين المقيدتين في جانب من الغرفة، بينما فرق الأمن تحيط المبنى من كل اتجاه.
فأعطى «النبوى» أوامره لتنهال الرصاصات والقنابل من كل اتجاه على نافذة الحجرة.
وقبل أن تفيض روحه كتب بدمائه على الحائط: «اطردوا السفير الإسرائيلي من القاهرة، ولتحيا مصر حرة، ولتحيا مصر عربية»..
وكتب الشاعر نزار قباني عنه: «إذا كان مجنوناً فيجب أن نستحي من عقولنا، وإذا كان متخلفاً عقلياً فيجب أن نشك في ذكائنا.
وشغلت قصته وتصفيته واحتجازه للرهائن احتجاجاً على التطبيع العالم كله في تلك الفترة، وغطت الصحف واهتمت بأخباره أكثر من تغطية خبر اعتماد السفير الاسرائيلي. لكن من هو ذلك المجنون الذي غطى خبر جنونه على خبر التطبيع بين مصر واسرائيل؟
هو سعد إدريس حلاوة المزارع ابن محافظة القليوبية أول من مات رفضاً للتطبيع بين مصر وإسرائيل.
…………………….
خرج الرئيس السادات من بيته منتصف نهار يوم 26 شباط/ فبراير مستقبلاً “الياهو بن عازر” واعتماده أول سفير إسرائيلي في مصر بقصر عابدين، في نفس التوقيت خرج المواطن سعد إدريس حلاوة من منزله بقرية اجهور محافظة القليوبية حاملاً شنطة سفر كبيرة تحتوى على مدفع رشاش ومسجل صوت ومكبر صوت وتسجيلات للقرآن الكريم بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وخطب لجمال عبدالناصر، وأغانٍ وطنية بصوت عبدالحليم حافظ، واستقل “موتوسيكل متهالك” من النوع الذي يستخدمه أهالي القرية في التنقل بينها وبين القرى المجاورة في محافظة القليوبية، واخترق الطريق المؤدي إلى الوحدة المحلية لقرية أجهور، ووصل هناك فوجد ثلاثة من الموظفين يجلسون أمام الوحدة المحلية في شمس الشتاء، ثم نادى سعد إدريس حلاوة على الحاج نصيف خاطر، سكرتير الوحدة المحلية في هذا الوقت.
…………………….
يخبر “سعد” الموظفين بالوحدة المحلية بأنه أحضر شنطة لمن يشتري بعض البضائع، ويتكاثر الموظفون حول الفلاح الشاب يطلبون منه أن يفتح الشنطة “للفرجة على البضائع” فيطلب هو منهم أن يدخل أولاً “دورة المياه” ليغيب داخلها أقل من دقيقة ويخرج في يده مدفع رشاش مصوب تجاه الجميع، ففر كل الموظفين الموجودين بالوحدة ولم يبق سوى اثنان في حجرة مطلة على فناء الوحدة المحلية التي مازالت مكانها حتى الآن.
…………………….
وفي نفس التوقيت بالضبط كان السادات مع السفير الإسرائيلي “الياهو بن عازر” في غرفة مغلقة بقصر عابدين لمدة نصف ساعة بعيداً عن رجال الصحافة المحلية والعالمية، بعدها بثت الإذاعة المصرية تفاصيل اعتماد السفير الإسرائيلي وعندما سمع “سعد” هذه التفاصيل، أطلق وابلاً من الرصاص من خلال شرفة الوحدة المحلية وبعدها أسكت الراديو ووضع شريط كاسيت لعبدالحليم حافظ، وصوب الراديو من خلال مكبر الصوت ناحية القرية حتى يعلو صوت عبدالحليم حافظ بدلاً من صوت إعلان التطبيع بين مصر وإسرائيل، وأعلن أنه لن يفك اعتصامه إلا بعد طرد السفير الإسرائيلي من مصر.
ثم وقف يخطب قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، أنا منكم وعارفين إنني فلاح زيكم بزرع أرضي بإيدي وبعرقي، ماسبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت أو أستلف علشان أشترى تذكرة سفر أو عقد مزور في ليبيا أو السعودية، كل واحد فيك عارفني وعارف بيتي وعارف عيلتي، عارفني وعارف أخلاقي، وعارف إني وارث من المرحوم والدي ثلاثة فدادين، وعايش في حالي ومستور والحمد لله، يعني مش محتاج، لكن العار والمهانة اللي بيتعرض لها شرفنا النهاردة، تخلينا ما نلبس طرح الستات ونسكت، أو نخاف على بيت أو جاموسة أو زرعة، تخلينا لازم نتحرك، لازم ندافع عن شرفنا بدمنا، لازمتها إيه العيشة وشرفنا بينداس وينباع قدام عنينا، مصر هي شرفنا، مش هي الخديوي السادات وحاشيته علشان يبيعها للصهاينة والأمريكان، مصر هي أنتم وأنا وكل الشعب الشقيان اللي الخديوي لاهيه في الجري ورا لقمة عيشه، علشان هو وعصابته يعرفوا يبيعوها ويقبضوا وينهبوا كويس، يا أهالي أجهور النهادرة 26 شباط/ فبراير 1980، والنهاردة بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي، ورفعوا عليها علمهم، رفعوه يدنس أرض مصر وسماها».
هكذا خاطب سعد إدريس حلاوة أهل بلدته «أجهور الكبرى» مركز طوخ، محافظة القليوبية، حسبما يذكر الكاتب الصحفي شفيق أحمد علي في كتابه «من الملف السري للسادات والتطبيع: عملية اغتيال سعد حلاوة»، «طبعة خاصة- القاهرة»، وذلك بعد أن تجمعوا حول مبنى الوحدة المحلية للقرية فور أن شاع فيها خبر سيطرة سعد على المبنى، ووجوده في حجرة بالدور الثانى فيه ومعه رشاش ويحتجز اثنين من الموظفين.
لم يدرِ أهل «أجهور» وهي واحدة من أكبر قرى مركز طوخ، لماذا أقدم سعد على هذا؟
* كاتب صحفي مصري
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل