بكر صدقي *
استيقظت من نوم عميق على ارتجاج السرير تحتي وكأن أحداً يهزه بكل قوته. أدركت، في ثوان قليلة، أنه زلزال. اجتمعت العائلة عند عتبة الغرفة على الأرض. لم أرتعب كثيراً لأنني أعرف من «تجاربي السابقة!» أن مثل هذه الهزات تنتهي في ثوان. لكن البيت استمر في الارتجاج بلا نهاية، كأني بالزلزال «مصمم» على ألا يتوقف قبل التأكد من انهيار المبنى. سنعرف، لاحقاً، أن الزلزال قد استمر في «ضربته الأولى» هذه طوال 97 ثانية بدت لنا دهراً، تراوحت قوته، باختلاف المصادر، بين 7.7 و7.8 درجة على مقياس ريختر، وبعمق 7 كيلومترات تحت سطح الأرض، مركزه بلدة بازارجك في ولاية مرعش جنوب شرق تركيا.
انتظرنا حتى هدأ المبنى بعد انتهاء الارتجاج العنيف، ثم ارتدينا أحذيتنا ومعاطفنا وهبطنا الدرج بسرعة، وابتعدنا عن المباني السكنية باتجاه حديقة قريبة حيث بقينا بضع ساعات في البرد القارس إلى أن انتشر ضوء النهار.
عدنا إلى البناية وبقينا عند مدخلها لفترة إضافية، ثم صعدنا إلى بيوتنا. لكن هذه الهدنة لن تستمر طويلاً، ففي الواحدة وعشرين دقيقة ظهراً ارتج البناء مرة أخرى بعنف، فهبطنا الدرجات على الفور. وبدأ التشرد الذي سيطول في البرد القارس والثلج يغطي الشوارع. سنعرف لاحقاً أن الارتجاج الثاني لم يكن من الهزات الارتدادية المألوفة، بل زلزالاً ثانياً بقوة 6.7 ضرب بلدة «البستان» في ولاية مرعش أيضاً، وستمتد مفاعيله المدمرة جنوباً إلى لواء الإسكندرون والجانب الآخر من الحدود في سوريا وصولاً إلى مدينة جبلة على شاطئ المتوسط. في حين دمر الزلزال الأول مناطق في شمال حلب ومحيطها. أما في تركيا فقد شمل الدمار عشر محافظات بدرجات متفاوتة.
كان أمام الناجين من الموت رحلة أخرى من المعاناة بسبب التشرد في الشوارع في البرد القارس. نقاط التجمع المحددة من السلطات المحلية اكتظت بالناس، نحو مئتين شخص اجتمعنا في ملعب كرة سلة مغلق تابع لإحدى المدارس الخاصة في مدينة عنتاب، افترشوا ما استطاعوا إحضاره من بطانيات على أرض الملعب، يحاولون الحفاظ على دفء أجسامهم بالالتصاق بعضهم ببعض. كان ثمة أطفال في مختلف الأعمار، يبكي بعضهم من حين إلى آخر، وعجوز في كرسي متحرك إحدى يديه مشلولة، كأنه وجد هناك ليشعر الآخرون بأن مصابهم أخف وقابل للتحمل.
لم يكن أحد يفكر بالطعام، فالهم الأول هو كيف يمكن النوم على بطانية رقيقة في البرد وفي مساحة ضيقة جداً، والهم الثاني هو كيف يمكن قضاء الحاجات البدنية، والماء مقطوع عن كل المدينة بسبب التلوث الذي أصاب الأنابيب. لكن الهم الأكبر القابع في الخلفية هو المصير المجهول الذي يمتد أمامنا. فالهزات الارتدادية مستمرة كما لو أن الزلزال لم يكمل مهمته بعد ولم يكتف بما أحدثه من دمار وقتل. الهواتف المحمولة تنقل أخباراً مرعبة من مرعش وأنطاكية ونور داغ وعثمانية وأورفة وجنديرس والأتارب وحلب وغيرها على جانبي الحدود التركية – السورية، تلك المدن والبلدات التي سوّي بعضها بالأرض، وصوراً وفيديوهات عن أبنية انهارت في ثوان معدودات، وطرق برية تشققت.
اتصالات لا تتوقف من أصدقاء مقيمين في تركيا والدول الأوروبية وكندا يحاولون الاطمئنان على سلامتنا ويسألون كيف يمكنهم أن يساعدوا وهل نحن في حاجة لشيء. وحده هذا الاهتمام الذي لا يقدر بثمن كان كالبلسم على قلوبنا، فلا أحد يظهر هنا من السلطات المحلية أو المنظمات الإغاثية يمر علينا ليسأل عن احتياجاتنا أو يسعى لنقلنا إلى مكان آخر فيه دفء. فقط بضع بطانيات تم توزيعها على البعض، لا نعرف من أحضرها وهل سيتم إحضار المزيد أم لا. ثم وزعوا زجاجات ماء للشرب واختفوا من جديد. وفي اليوم التالي وزعوا كؤوس شورباء ساخنة مع قطعة خبز. سأعرف لاحقاً أنها كانت مبادرات أهلية بإمكانيات محدودة. أما الدولة فقد كانت غائبة تماماً خلال الأيام الثلاثة التي قضيناها في تلك الصالة الرياضية. كان البعض يعودون إلى بيوتهم في الليل لينالوا قسطاً من النوم مجازفين بانهيار المبنى عليهم، وآخرون ممن يملكون سيارات ينامون في سياراتهم مشغلين مكيفاتها. أما نحن فقد تناوبنا على التمدد على أمل الحصول على ساعة نوم. وفي الصباح نخرج للتجول في المناطق القريبة لنشتري الماء وبعض البسكويت من المتاجر القليلة المفتوحة، أو لقضاء الحاجة في محطات الوقود.
أمضت صديقة تركية مقيمة في اسطنبول يومين وهي تتصل بمعارفها من أجل تأمين وسيلة نقل نسافر بها إلى أنقرة، لكن محاولاتها فشلت. تصلنا أخبار عن تسيير بعض الرحلات البرية والجوية إلى مدن أخرى خارج المنطقة المنكوبة، لكن الطلب كبير والوسائل محدودة، يتطلب الأمر الوصول إلى محطة الحافلات وافتراش الأرض لأيام قبل الحصول على مقاعد في إحدى الحافلات.
ما العمل؟ لا شيء أصعب من شعورك بالعجز وأنت في موقع المسؤولية عن مصير عائلتك. يضغط الأولاد عليك لإيجاد حل لا تملكه، فتوصيهم بالصبر وتحاول إعطاءهم أملاً في خروج قريب. من يريدون مساعدتك بعيدون، في حين أن الدولة ـ الأب غائبة وعاجزة مثلك. يظهر الرئيس التركي وبعض أركان الحكم على وسائل الإعلام، يزورون المناطق المنكوبة، يؤكدون أن الدولة مستنفرة بكل إمكانياتها لمواجهة الكارثة، ويهاجمون المعارضة التي تعمل، في رأيهم، على تسييس الكارثة، وكذا أي صوت ينتقد الأداء الحكومي، «فهذا أوان الوحدة والتعاضد، لا الفرقة والسياسة». ويرد الآخرون بالقول إن كل دقيقة تمر تتسبب بمقتل مزيد من الضحايا تحت الأنقاض «إن لم نتحدث الآن فمتى نتحدث؟»
هذه مجرد شهادة شخصية لأحد الناجين من الزلزال المدمر. أما الحديث عن الجوانب الإدارية والسياسية فهو يحتاج إلى تناول مستقل.
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي