محمد المنشاوي *
في نهاية سبعينيات القرن الماضي لجأ الحزب الشيوعي الصيني إلى مبادرة عُرفت باسم «سياسة الطفل الواحد» للتخطيط السكاني في الصين، وتم تنفيذها بين عامي 1980 و2015 وذلك بهدف الحد من النمو السكاني في البلاد عن طريق تقييد العائلات بعدم إنجاب أكثر من طفل واحد. كانت هذه المبادرة جزءاً من جهد أوسع بكثير للسيطرة على النمو السكاني بدأ في عام 1970 وانتهى في عام 2021، وهو برنامج تضمن رفع الحد الأدنى للسن عند الزواج والإنجاب.
واِتبعت الحكومة الصينية أساليب متعددة للسيطرة على النمو السكاني، وفرضت غرامات مالية كبيرة على من تجرأ على مخالفة القواعد، كما لجأت إلى فرض استعمال وسائل منع الحمل الإلزامية، وتبني سياسة التعقيم التي تمنع القدرة على الإنجاب.
وينسب الحزب الشيوعي الصيني لهذه السياسة الفضل في الصعود الاقتصادي الاستثنائي الذى شهدته الصين خلال نصف القرن الأخير، ويقول إنه منع نحو 400 مليون ولادة جديدة. وفي عام 2015 ألغت الحكومة الصينية جميع سياسات الطفل الواحد، وسمحت للعائلات بإنجاب طفلين كحد أقصى، وفي أيار/ مايو 2021، تم تخفيف هذه الحدود والسماح بإنجاب ثلاثة أطفال كحد أقصى.
- • •
وجاء هذا الأسبوع بخبرين سيئين للصين، الأول هو تراجع نمو الاقتصاد الصيني في 2022 إلى أحد أسوأ مستوياته في قرابة نصف قرن، إذ استمر تأثر الأنشطة الاقتصادية سلبياً بالقيود الصارمة المرتبطة بكوفيدــ19 التي استمر العمل بها طوال عام 2022 قبل أن يتم رفعها في نهاية العام. والخبر الثاني هو انخفاض عدد سكان الصين عام 2022 بـ 850 ألف نسمة عن سكان الصين عام 2021، وهذه المرة الأولى التي تشهد فيها الصين انخفاضاً، لا يراه الخبراء صحياً، في عدد سكانها على الإطلاق.
وأظهرت بيانات من المكتب الصيني الوطنى للإحصاء نمو الناتج المحلى الإجمالي خلال 2022 بنسبة متخلفة بشدة عن الهدف الرسمي البالغ نحو 5.5% ومتأخرة بشدة عن نمو 8.4% في 2021، ويعد ذلك المعدل الأسوأ منذ 1976.
ولا يعتبر المراقبون أن انخفاض عدد السكان في الصين ظاهرة جيدة. وعلى الرغم من محاولات الحزب الشيوعي الصيني لعقود من الزمان هندسة النمو السكاني ليصبح بطيئاً، إلا أن تباطؤ نمو الاقتصاد وانخفاض عدد المواليد يشكلان تحدياً كبيراً للرئيس شي جين بينج.
فالتركيبة السكانية للصين ليست جيدة على الإطلاق، فقد نتج عن عقود من تطبيق سياسة «الطفل الواحد» اضطراب اجتماعي هائل، خاصة وأن الكثير من العائلات الصينية حرصت على إجراء عمليات إجهاض انتقائية من أجل الرغبة في الحصول على طفل ذكر، وسببَ ذلك اختلالاَ كبيراَ في التوازن بين الذكور والإناث، لذا توجد فجوة كبيرة واضحة في أعداد البنات بين الأطفال الصينيين.
من ناحية أخرى، عندما رغب الحزب الشيوعي في تشجيع العائلات على إنجاب أكثر من طفل، اكتشف أن أغلب الصينيين غير راغبين أو غير قادرين على إنجاب المزيد من الأطفال، وهو ما يجعل هناك نقصاً كبيراً في أعداد الصغار مقارنة بالكبار.
وحدث ذلك ويحدث في العديد من الدول المتقدمة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وأغلب دول أوروبا الغربية، التي تشهد انخفاضاً فى عدد المواليد، لكن الفارق في التجربة الصينية أن ذلك حدث سريعاً جداً خلال عقد واحد من الزمن، وهو العقد الأخير، في حين استغرق الوصول لهذه النقطة في الدول الأخرى نصف قرن على الأقل، وجاء تدريجياً بطيئاً.
من ناحية أخرى، ومع حدوث تطور اقتصادي مذهل في الصين، تراجعت رغبة الكثير من النساء- اللواتي حصلن على تعليم جيد ووظائف مهنية- في الزواج، ناهيك عن الرغبة في الإنجاب.
وأصبح المجتمع الصيني يتميز بنسبة ذكور مرتفعة، ونسبة مرتفعة للغاية من كبار السن، ممن تقاعدوا، أو سيتقاعدون قريباً، وتشير تقارير إلى أن 25% من القوة العاملة الصينية ستتقاعد بنهاية هذا العقد، وهو ما ينتج عنه تغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة، سواء فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي أو توفير الرعاية الصحية لكبار السن.
وجاءت البيانات الرسمية الصينية لتظهر أن الاقتصاد نما بنسبة 3% فقط العام الماضي، وهي نسبة نمو محدودة لدولة لا تزال تعمل على انتشال مئات الملايين من مواطنيها من الفقر.
- • •
ولا يمكن تجنب إلقاء اللوم على سياسة الرئيس شي جين بينج المُدمرة للاقتصاد والمعروفة باسم «صفر كوفيد» والتي تسبب فشلها في مظاهرات واحتجاجات شعبية غير مسبوقة في الصين خلال كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وهو ما دفع بكين للتوقف عن هذه السياسة والعودة لفتح الاقتصاد.
ودفعت هذه الأنباء الاقتصادية السيئة بالصين إلى تغيير لهجة خطابها السياسي كما ظهر في كلمة نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، ليو خوه، أمام منتدى دافوس، حيث أظهر موقف أقل عدائية تجاه المستثمرين الأجانب والشركاء التجاريين. وقال ليو «سيلعب رواد الأعمال، بمن فيهم المستثمرون الأجانب، دوراً حاسماً لأنهم العناصر الرئيسية لخلق الثروة الاجتماعية». وجاء هذا الموقف الصيني الجديد بعدما بدأت واشنطن جهوداً جادة لسحب الكثير من سلاسل التوريد العالمية من الصين، ونقلها لدول أخرى كفيتنام والمكسيك والهند، إضافة لخلق تلك الخاصة بها.
وكانت سياسات الرئيس الصيني الاقتصادية تعكس رغبة في السيطرة السياسية من أعلى إلى أسفل على الأنشطة الاقتصادية، إلا أنه يبدو وقد تراجع بسبب تأثير تفشى وانتشار فيروس كوفيدــ19، إضافة لخطأ سياساته بالإغلاق الكامل.
وعلى الرغم من أنني جمعتُ في هذا المقال بين انخفاض عدد السكان، والتراجع الاقتصادي، يجب التذكير أن انخفاض عدد السكان في الصين هو أحد الأعراض لسياسات خاطئة لم يتم بحثها أو إخضاعها للنقاش المجتمعي، بل تم فرضها من أعلى قمة الحزب الشيوعي الواحد.
- • •
وخلال كلمته الشهر الماضي في الاجتماع العام للحزب الشيوعي الصيني، تحدث الرئيس الصيني عن أزمة السكان فى بلاده مطالباً بزيادة الإنجاب لكن يبدو أن أغلب الصينيين لم ينصتوا له هذه المرة. ويعني ذلك أن عصر النمو السريع الزائد عن 10% وتوافر العمالة الرخيصة، والقوى العاملة الأصغر سناً، في طريقه ليصبح جزءاً من تاريخ الصين وليس مستقبلها.
* كاتب صحفي متخصص في الشؤون الأمريكية
المصدر: الشروق