د- عبدالله تركماني
يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 18 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط المخاطر الماضية بحاضرنا العربي البائس، الذي تهدده ” الهويات القاتلة “، وتغيب عنه الهوية العربية الجامعة، بينما تتقدم محاولات فرض الشرق الأوسط الجديد، من خلال لقاءات ومؤتمرات مصغّرة هنا وهناك، لعلَّ مثالها الأبرز لقاء النقب في آذار/مارس الماضي، الذي اكتسب أهمية خاصة بانضمام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى وزراء خارجية إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب ومصر. فمنذ الاحتلال الأميركي للعراق دخلت المنطقة العربية مرحلة دقيقة جداً، مرحلة إعادة ترتيب الأوراق دولياً وإقليمياً، وربما إعادة ترتيب الأنظمة والدول والحدود. إذ سوف نشهد ولادة النظام الشرق أوسطي الشامل، الذي سيكون الاقتصاد هو أحد أوجهه، لكنَّ الأولوية فيه سوف تكون للشق والمكوّن الأمني ” الناتو العربي “. وفي هذا الجانب سيتم إخضاع قدرات كل دول المنطقة إلى السيطرة الصارمة، بالشكل الذي يضمن رقابة وهيمنة إسرائيل على قدرات المنطقة بما يجعلها ” الدولة الإقليمية الكبرى ” في إقليم الشرق الأوسط الجديد.
فبعد موجة المبادرات التي أطلقها المشروع الأمريكي حول ” الشرق الأوسط الكبير “، منذ سنة 2005، تتجه الأمور نحو دمج هذه المبادرات وتركيبها في مبادرة واحدة على نمط ” معاهدة هلسنكي ” لتشكيل ” منظمة الأمن والتعاون في الشرق الأوسط ” لإحداث التغيير المطلوب في المنطقة العربية.
ويبقى السؤال الجوهري: ما هو السبيل الأقوم للتعامل مع هذا الاحتمال بما يحدث الإصلاح والتغيير، باعتباره حاجة عربية قبل أن يكون مطلباً خارجياً، ويحافظ على المصالح العربية العليا في آن واحد؟
تطور مشاريع الشرق الأوسط
إنّ الدعوة للنظام الشرق أوسطي الأوسع ليست فكرة جديدة، حيث عبّرت عن هذا النظام، في خمسينيات القرن الماضي، صياغات سياسية وأمنية وعسكرية (البيان الثلاثي، قيادة الدفاع عن الشرق الأوسط، منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط، معاهدة الحزام الشمالي، معاهدة حلف بغداد) ضمن إطار صراعات الحرب الباردة. ولكنّ المشروع امتلك في تسعينيات القرن الماضي الكثير من عناصر القوة: الإصرار الأميركي على السير بالمشروع إلى نهاياته التي رسمت عند انطلاقة مؤتمر مدريد للسلام العربي – الإسرائيلي في العام 1991، واستخدام إسرائيل احتلالها للأراضي العربية كورقة ضغط وإغراء للمساومة، وموافقة معظم الحكومات العربية على هذا المشروع بانخراطها في مؤتمراته الأربعة، التي سميت ” المتعددة الأطراف “، التي انعقدت (الدار البيضاء، عمّان، القاهرة، الدوحة). إلا أنّ نقطة ضعفه الرئيسية تمثلت في استمرار معاداة أغلبية الرأي العام العربي له، باعتباره مشروعاً للهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على العالم العربي. إذ يتضح اليوم أنّ جوهر النظام الشرق أوسطي يرتكز – أساساً – على وضع قدرات العرب العسكرية تحت الرقابة والسيطرة، لضمان أمن إسرائيل أولاً، وللحيلولة دون نمو مركز قوة عربية في أيّ جزء من العالم العربي ثانياً.
حول المشروع الأمريكي الجديد للشرق الأوسط الواسع
من المؤكد أنّ الولايات المتحدة الأميركية، منذ عهد الرئيس بوش الابن حتى الرئيس بايدن، قد ضلت الطريق وابتعدت كل البعد عن القانون الدولي والشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وهي تخطط لإقامة قواعد عسكرية ثابتة والتحكم في منابع النفط في المنطقة العربية كلها، وفرض الوصاية على حكومات وشعوب العالم العربي، وإعطاء دور كبير لإسرائيل في الشرق الأوسط الموسع. وإذا كان من المؤكد أنه ليس هناك سيادة وطنية يمكنها أن تضفي شرعية على الاستبداد في الداخل، فإنه – في المقابل – ما من حرب تشنها قوة إمبريالية يمكن أن تخاض من أجل الديمقراطية والتنمية.
وليس من المستبعد أن تكون خيوط التقارب بين الرؤيتين الأميركية والأوروبية أكثر من خيوط التباعد، إذ إنّ ما يربط بينهما هو وجود اتفاق غربي حاسم على التغيير في الشرق الأوسط، خاصة بعد تزايد الأعمال الإرهابية. مما يرجح احتمال صياغة مبادرة مشتركة لإنشاء ” منظمة للأمن والتعاون في الشرق الأوسط ” قريبة من صيغة ” مؤتمر هلسنكي ” في العام 1975.
ومن أجل ذلك، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى انتهاج سياسة مرنة في التعامل مع الأطراف الأوروبية، فعقدت مؤتمرات ومنتديات عدة من أجل كسب تأييد هذه الدول لخطتها حول ” الشرق الأوسط الكبير “، فقدمت تنازلات لفظية حول أسلوب تطبيق الخطة، مع تمسك عنيد ببنود الخطة نفسها، وقالت: إنها تؤيد التدرج في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، بل وتؤيد أن تكون هذه الإصلاحات نابعة من الدول نفسها وليست مفروضة عليها، وتم تسجيل ذلك في البيانات الرسمية الصادرة عن هذه المؤتمرات والمنتديات والمؤسسات الدولية.
ومما زاد في المخاطر – آنذاك – أنّ قائد حلف شمال الأطلسي، غداة إعلان الرئيس بوش ” أجندة عبر الأطلسي ” المشتركة مع أوروبا في شأن السلام والديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط، أبدى استعداده للمساهمة في تنفيذ الجوانب السياسية والأمنية لدعم التغيير والإصلاح في المنطقة.
وكان اجتماع الدول الثماني الكبرى في يونيو/حزيران 2004 قد أطلق ” شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك ” مع حكومات وشعوب الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا. واحتل موقعاً محورياً في هذه ” الشراكة ” الجديدة ” منتدى المستقبل ” الذي عقد أول لقاءاته في المغرب، باعتباره إطاراً على المستوى الوزاري، يجمع بين وزراء الخارجية والاقتصاد وغيرهم من الوزراء في مجموعة الثماني والمنطقة في نقاش متواصل للإصلاح، مع مشاركة قادة الأعمال والمجتمع المدني في حوارات موازية. وسيلعب المنبر دور وسيلة للإنصات إلى حاجات المنطقة، وضمان أن تستجيب الجهود المشتركة بشكل جماعي لهذه الهموم.
إنّ ما نحن بصدده ليس أحداثاً يومية، بل إنها تغيّرات كبرى جرت تحت أعيننا. ولكنها لا تجري ضمن الأنساق القديمة القائمة في النهاية على الدولة الوطنية ومشتقاتها من أحلاف وتجمعات، وإنما تجري وسط عالم يقوم على التفاعل والتشارك، عابر للقوميات والجماعات بالسلع والأفكار، والأسلحة والعنف والإرهاب.
ماذا تعني الترتيبات الشرق أوسطية
بداية، من الضروري الانتباه إلى دلالة إصرار الباحثين الغربيين، منذ الحرب العالمية الثانية، على استخدام مفهوم الشرق الأوسط للدلالة على المنطقة العربية. فمن خلال استعراضنا الكتابات الغربية عن الشرق الأوسط تبرز لنا على الفور ثلاث نتائج:
أ – أنّ هذه المنطقة لا تسمى باسم ينبثق من خصائصها أو طبيعتها، لكن سميت دائماً من حيث علاقتها بالغير.
ب – أنّ هذا المصطلح ليس من المناطق الجغرافية المتعارف عليها، بل هو – في المقام الأول – تعبير سياسي، يترتب عليه دائماً إدخال دول غير عربية في المنطقة، وفي أغلب الأحيان إخراج دول عربية منها.
ج – أنّ الشرق الأوسط يبدو، في الكتابات الغربية، منطقة تضم خليطاً من القوميات والسلالات والأديان والشعوب واللغات، القاعدة فيه التعدد والتنوع والاستثناء هو الوحدة.
ومن الواضح أنّ الترتيبات الشرق أوسطية سوف تؤدي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى نهاية المفهوم المعروف للنظام الإقليمي العربي لصالح النظام الشرق أوسطي، مما يعني:
أ – تصفية الخطاب القائم على رفض الأيديولوجية الصهيونية، سواء في الخطاب السياسي العربي الرسمي، أو في أساليب التنشئة التعليمية والسياسية.
ب – أنّ نظام الشرق الأوسط الجديد، بوحداته وتفاعلاته ونزاعاته، هو شرق أوسط متعدد الأيديولوجيات والأديان والسياسات والقوميات والثقافات، وستشهد المنطقة، في هذا النطاق، صحوة للثقافات والعرقيات الفرعية تحت حماية التنظيم الجديد للمنطقة.
ج – تغيّرات في نمط التحالفات في المنطقة، منها تحالف الأقليات القومية والدينية المتعدي للدول القائمة، وهذا سيدفع إلى ضرورة صياغة نمط مختلف من العلاقات السياسية الداخلية مع هذه الأقليات في النظم العربية أساساً، وهو ما قد يشكل مصدراً لانفجارات جديدة في المنطقة (وهذا ما نشهده في هذه الأيام).
د – نفاذ دول الجوار الجغرافي إلى قلب المنطقة وصياغة علاقات مختلفة ونافذة معها، فهناك الدور التركي الذي يستهدف أن يكون شريكاً وفاعلاً في تفاعلات منطقة الخليج والمشرق العربي، وهناك الدور الإيراني أيضاً، الذي سيلعب في المنطقتين المشرقيتين، من خلال وزنه بين صفوف الشيعة العرب، ونفوذه المتحقق في لبنان والعراق وسورية واليمن.
هـ – تلعب إسرائيل دوراً فريداً في المنطقة، فهي القطب الأبرز الذي سيلعب دور الدولة الإقليمية الأعظم، ومنظّم المنطقة، ومديرها ونموذجها التحديثي، ووسيطها مع الغرب في مختلف المجالات. وفي مقابل هذا الدور يمكن إعطاء دور لمصر كأداة لضبط وتنسيق المجموعة العربية، لتلعب دور المهدئ للصراعات، التي يمكن أن تنشأ في الإطار العربي.
و – ستسود المنطقة نزاعات براغماتية سياسية – بدائية على السلطة والنفوذ، تختلف عن البراغماتية على النمط الغربي، وسيؤدي ذلك إلى تحلل اللغة الأيديولوجية والتهويمات التي ارتبطت بها في الماضي على أساس الصراع العربي- الإسرائيلي.
فما يجري في سورية ولبنان والعراق وليبيا واليمن والسودان يقدم نموذجاً للدولة العربية، يقوم على العلاقات الداخلية المركبة بين الحاكم والمحكوم، والحكومة المركزية والأقاليم، يضاف إلى ذلك اقتسام للسلطة والثروة.
وعلى الصعيد العربي، فإنّ مفهوم الشرق الأوسط يمزق أوصال العالم العربي ولا يعامله باعتباره وحدة متميزة، فهو يدخل – باستمرار- بلداناً غير عربية كتركيا وإيران وإسرائيل، وأحياناً باكستان وأفغانستان وأثيوبيا وقبرص، وربما دول آسيا الوسطى، ويخرج منه بلدان المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، وأحيانا ليبيا والسودان. ولعلَّ ذلك يفسر مصطلح ” الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ” الذي يرد كعنوان للعديد من الدراسات الغربية.
وهكذا يتضح أنّ توارد استخدام هذا المصطلح يستهدف تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي، فما دامت المنطقة خليطاً من قوميات وشعوب مختلفة الأعراق واللغات والأديان، فإنّ لكل قومية منها الحق في أن تكوّن دولة قومية. وفي هذا الإطار تكتسب إسرائيل شرعيتها كإحدى الدول القومية في المنطقة، وهذا الهدف قد يفسر لنا اهتمام إسرائيل المتواصل بتشجيع مطالب وحركات المكونات الأقلوية في أكثر من بلد عربي.
وإذا كان مصطلح الشرق الأوسط قد استُخدم ووُظف لتحقيق أغراض سياسية تتضمن، في المقام الأول، طمس الهوية العربية للمنطقة، بإدراجها في مفهوم سياسي غير واضح وغير محدد، فإنّ التطورات التي شهدها ويشهدها العالم ومنطقتنا العربية، منذ نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي حتى اليوم، توفر بيئة ملائمة ومشجعة لانتشار هذا المصطلح على نطاق واسع، والأهم من ذلك محاولة ترجمته من ” فكرة ” إلى ” واقع ” يتم تأطيره نظامياً، من خلال إنشاء ” منظمة للأمن والتعاون في الشرق الأوسط الكبير “.
حدود التداخل والتعارض بين النظام الإقليمي العربي والشرق أوسطية
رأى بعض الخبراء والمحللين المصريين أنّ العلاقة بين العروبة والشرق أوسطية ليست بالضرورة متعارضة، بل هي علاقة تعايش على نحو ما، ذلك لأنّ ” النظام العربي لا يقوم في منطقة كلها عربية، وإنما في حيّز جغرافي يضيق أو يتسع طبقاً لمنظورات سياسية واقتصادية وأمنية متعددة، يعرف باسم الشرق الأوسط، حيث توجد بلدان غير عربية لها بالضرورة مصالح، بعضها مشروع وبعضها غير مشروع في المنطقة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنّ العروبة تسجن وتقيِّد نفسها سياسياً واقتصادياً وأمنياً إذا لم تنفتح بأسلوب واعٍ محسوب الخطى، مع كل ما في إقليمها الشرق أوسطي من حضارات وثقافات وهويات وأسواق، وتتبادل معها المنافع. من هنا فإنّ النظام العربي المسؤول مطلوب منه أن يكون بقوته الجماعية شريكاً في نظام إقليمي أوسع، والنظام الإقليمي بدوره ليس بديلاً عن أي وضع للنظام العربي “.
وفي الواقع، يتنازع المنطقة وقادة الرأي فيها، فيما يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، تياران: أولهما، يراهن على مصداقية الدعوات الأمريكية الداعية إلى احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية ويرى في الضغوط الأميركية مخرجا لبعض أزمات المنطقة. وثانيهما، يرى ضرورة تعبئة الإرادة العربية الرسمية والشعبية لتدشين مواجهة ساخنة وحاسمة مع الولايات المتحدة الأميركية، مبررين ذلك بأنّ الأخيرة لا تستهدف فقط قوى التحرر الوطني، بل أيضاً وجود الدول العربية ذاته.
ويعيب الرؤية الثانية افتقارها للشفافية في معالجة الأسباب والجذور الحقيقية للأزمة العربية، ومن ثم افتقادها القدرة على تمكين الإرادة العربية من التعامل مع الاستراتيجية الأميركية بصورة تضمن صيانة المصالح العربية العليا. إذ إنّ الرؤية الموضوعية والواقعية تقتضي تجنّب الانصياع الأعمى للإرادة الأميركية وكذلك تجنّب الدخول في مواجهة معها باعتبار أنّ الإقدام على أحد هذين الأمرين هو انتحار سياسي، الأمر الذي يقتضي حلاً عربياً وسطاً يمكّن العرب من التعاطي مع الأخطار المحدقة بها ويقلل من أضرارها، من خلال الشروع في إصلاحات حقيقية تمكّن الشعوب من حماية حقوقها والمشاركة في تقرير مصير مستقبلها.
ومما لا شك فيه أنّ المشاريع الغربية قد يكون له أثر في تسريع التحول الديمقراطي في العالم العربي، ذلك أنّ أميركا بمبادراتها يمكن أن ترفع الغطاء – عملياً – عن الأنظمة الاستبدادية في المنطقة بالطريقة نفسها التي رفع بها غورباتشوف الغطاء عن ديكتاتوريات أوروبا الشرقية والوسطى بانتهاج سياسة الانفتاح والتقارب مع الغرب.
ومهما كان الحال، لا يجوز الدفاع عن الأمر الواقع العربي الراهن الذي استنفد طاقة المجتمعات العربية وجعل منها بؤرة للطغيان والإرهاب والفساد، باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية: استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان بل كأفضل شرط لتحقيقها. فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن سلطات تجوّعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشؤون العامة.
لا حلَّ أمام الأخطار المحدقة بنا إلا بتفكيك بنية الاستبداد في أغلب الحكومات العربية، وإجراء إصلاحات عميقة وحقيقية: ديموقراطية حقيقية، احترام كامل لحقوق الإنسان، منع الرشوة والمحسوبية والفساد، المساواة التامة بين المواطنين، المساواة التامة بين الرجل والمرأة، تعميم التعليم والمعرفة. وإذا ما فاتنا تحقيق هذا الإصلاح فلن يأتي البديل بيد ” عمرو “، بل لا بديل إلا أن نرى أنفسنا وقد تردت أوضاعنا أكثر بكثير وازدادت اتساعا الهوة بيننا وبين العالم المعاصر.
ومن هذا المنطلق لا مناصَّ من الاعتراف بأنّ تطورنا السياسي العربي مازال بعيداً جداً عن الديمقراطية، وإذا كانت الإدارات الأميركية قد ركزت على هذه القضية فلأنها أضعف ما فينا ونقطة الانكشاف القاتلة في تطورنا المعاصر وهو مالا ينفع فيه الإنكار أو الاستنكار. فالجميع يقول بذلك عرباً وأجانب، ولا مناصَّ من مناقشته باستقامة ونزاهة حتى نتعامل مع ما يثيره من قضايا الفكر والفعل بأنفسنا ولأنفسنا.
لقد غدا مطلوباً استعادة خيار القوة، باعتباره خيار مركب من جملة إجراءات وتدابير تمس مجمل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وخاصة ما يتعلق منها بإطلاق مبادرات المجتمع المدني، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية بفتح المجال لجميع القوى والتيارات الوطنية، بهدف إعادة صياغة المشروع الوطني على قاعدة ديمقراطية صلبة.
وفي الوقت نفسه، سيصبح ضرورياً إعادة تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها، ليتم التركيز على متطلبات الإصلاح السياسي وتكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرة العربية على الانفتاح على العالم الخارجي والتعامل معها من موقع المساواة والشراكة، في ظل توجهات العولمة التي لم يعد هناك مجال لتجاهل آثارها على الدول العربية.
والأهم من ذلك، سيكون العمل على توفير القدرة العربية على التكيّف الإيجابي مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الجديدة المحيطة بهم، على المستوى الإقليمي المباشر وعلى الصعيد العالمي الأشمل. وهذا لن يكون ممكناً إلا إذا تمكّن العرب، خلال المدى المتوسط، من صياغة استراتيجيات مشتركة تكفل لهم التعاطي المجدي مع التحديات والتهديدات المشتركة، وكذلك اقتناص الفرص المحتملة، بهدف تحقيق الحد الأدنى الممكن من أهدافهم وأولوياتهم ومصالحهم المشتركة.
(*) – ورقة قدمت في إطار مائدة مستديرة عقدتها الجامعة العربية الحرة للعلوم – تونس في 9 مارس/آذار 2005.