الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أحياناً تحن الدول إلى الماضي

جميل مطر *

وجهت الهند لمصر الدعوة لحضور احتفالات عيد الاستقلال، وهي مناسبة لها ما تستحقه من تبجيل. قرأت ما نشر موجزاً عن هذه الدعوة وطلب مشاركة مصر بمجموعة رمزية من قوات الجيش فى الاستعراض العسكري الذي يعد خصيصاً لهذه المناسبة.

لا أبالغ إن علقت قائلاً إنني وقد كنت شاهداً على استعراضات في مناسبات مشابهة في دول عديدة لم أرَ احتفالاً يرقى بالتنظيم أو بالألوان أو بالهيبة التي رأيتها في احتفال الهند بعيدها. أتكلم تحديداً عن احتفال بالاستقلال كنت مدعواً لمشاهدته فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي وترك في نفسي آثاراً مباشرة أضيفت إلى آثار أخرى خلفتها مظاهر وعادات وتقاليد يمارسها الهنود مسؤولين كانوا أم مواطنين عاديين أثناء احتفالهم بأعيادهم، وما أكثر هذه الأعياد.

لفت نظري في الدعوة الموجهة مؤخراً إلى مصر للمشاركة في عيد الجمهورية أي عيد الاستقلال ما صاحبها من مظاهر تكاد تعلن بأعلى صوت دبلوماسي وأصوات أخرى أن وراء هذه الدعوة اهتماماً غير عادي أو وبدقة أشد تعمداً صاخباً ببث هذا الاهتمام. كنت أعرف من متابعاتي غير المنتظمة للهند وأحوالها وصعودها في عديد المجالات أن في الهند جدلاً دائراً حول تخلف الدبلوماسية عن ترجمة هذا الصعود وإعادة بثه في شرايين علاقاتها الدولية. بحثت بين أصدقائي الهنود، وبخاصة بين المقيمين منهم في الخارج، عن متابعين لأحوال الهند وبخاصة في الآونة الأخيرة وللتطور المشهود في شبكات علاقاتها الدولية. سألت وناقشت وخلصت إلى ما يلى:

  • • •

أولاً: أبدأ بمزحة لم يتردد صاحبها بأن يصفها بالسواد. قال، يا صديقي وأنت تحاول تحليل سياسة الهند في المرحلة الراهنة أو وأنت تراقب سلوك المسؤولين في الهند وبخاصة في مجال السياسة الخارجية لا تنسى أن الإنجازات التي تحققت في الهند وبخاصة مؤخراً أحالتهم إلى سكارى. هم الآن يعملون على صنع تاريخ متصل للهند يحكي رواية واحدة عن شعب أنجز المستحيل عبر السنين. أضاف قائلاً، هل تعلم أنهم ما زالوا منبهرين بحقيقة أن رجلاً من أصول هندية نقية يحكم الآن الإمبراطورية البريطانية التي أذلت الهند وأهلكت ثرواتها وحولتها من اقتصاد نامٍ وصاعد إلى مستعمرة لا تملك إلا الفقر والحزن. هل من دليل أقوى على صعود الهند؟

ثانياً: ولكن الحقائق على الأرض تضيف اعتبارات أخرى جادة. قال آخر. لا شك أنك لاحظت كثافة الظروف والتحولات العالمية التي اجتمعت في السنوات وربما العقود الأخيرة وهى تدفع الهند دفعاً نحو مرتبة أعلى في تصنيف الدول. الهند تصعد بفعل ما حققت ولكن أيضاً تصعد بضغط من تحولات في النظام الدولي نحو دورٍ هام لها يصعب علينا الآن وربما على غيرنا معرفة تفاصيله.

ثالثاً: أضاف قائلاً، أرجو أن تضع فى اعتبارك أن الهند خلال فترة قصيرة جداً، ربما أيام معدودة سوف تصبح القوة الدولية الأكبر في العالم من حيث عدد السكان. يعني أننا تفوقنا على الصين. لهذا التفوق متطلبات تفيده وتدعمه وله تكلفة تدفعنا لنستعد لها. بمعنى آخر سوف يكون لنا فضل التأثير على ما ومن حولنا ويكون علينا عبء الدفاع عنهم وكلاهما الفضل والعبء صارا بالفعل من شؤون النظام الإقليمي ومشاغله. اسمح لي يا زميل مهنتنا الشاقة أن أفخر بأننا حققنا ما فشلت فيه الصين. هناك فرضوا على الناس ألا يُنجبوا والآن نادمون وسوف يستخدمون طاقات هائلة ليفرضوا بها على الصينيين أن يُنجبوا. نجحنا حيث فشلوا. وللنجاح ثمن باهظ سندفعه حتماً فرعاية الأمم الشابة باهظة التكلفة وطموحاتها لا سقف لها.

رابعاً: أعتقد أن حكومة ‘ناريندرا مودي’ تسعى بخطى جادة وحثيثة من أجل التقليل من الأثر السيئ الذي خلفته الحملة العنصرية ضد الهنود المسلمين. هذه الصورة وقد علقت بالفعل في أذهان شعوب الدول الكبرى سوف تظل، إن لم تخفْ أو تزول، نقطة ضعف أو بقعة سوداء يستغلها المنافسون تماماً كما يحدث الآن مع الصين بسبب قضية شعب الإيغور في مقاطعة سنكيانج بشمال غربي الصين. أظن أن الهند وجهت الدعوة لمصر لتكون ضيف شرف الهند في الاحتفال بيومها الوطنى على أمل أن يكون في الدعوة والاستجابة لها ما يخفف من تلوث الصورة الهندية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وعلى أمل أن يرى وفد مصر إلى الاحتفال عمق ومتانة الاندماج الاجتماعي في الهند وتعايش الهندوس والمسلمين والسيخ وعشرات الأجناس والطوائف في دولة مستقرة سياسياً تحت قبة نظام ديموقراطي ودرجة معتبرة من حرية الرأي والتعبير.

خامساً: أظن أن التقارب الهندي المصري يجري ضمن توافق توصل إليه كضرورة أعضاء مجموعة البريكس، أي المجموعة التي تضم في صفوف عضويتها كلاً من البرازيل وروسيا والهند والصين ودولة اتحاد جنوب أفريقيا. توافقوا منذ زمن على أهمية وضرورة ضم مصر إلى المجموعة، وبها تصبح بريكس+ مثل أوبك+ عندما انضمت روسيا إلى عضوية منظمة الدول المصدرة للنفط. أذكر أن الرئيس الصيني سبق أن أعلن أن البريكس منظمة غير مغلقة وأن الرئيس البرازيلي، وكان وقتها ‘لولا دا سيلفا’ في ولايته الأولى تحدث مع مسؤولين مصريين في عهد الرئيس مبارك عن الانضمام للبريكس. يتردد كذلك أن كازاخستان والمملكة السعودية والأرجنتين وإندونيسيا ونيجيريا والسنغال مرشحة للانضمام. نعرف أيضاً أن الهند وجهت إلى مصر دعوة أخرى، وهي الاشتراك كمراقب في اجتماعات قمة العشرين التي سوف تعقد في الهند، وهذه وإن جرت باقتراح هندي إلا أنها ما كانت لتتم لو لم تحُز على موافقة مجموعة السبعة وبخاصة الولايات المتحدة.

  • • •

أشعر بأن ما تسعى إليه الهند من وراء دعوة مصر ضيف شرف والترحيب المصري بها يدخل تحت حالة الاستنهاض بتجربة في الماضي نجحت وبعض آثارها باقية. أقصد العلاقة النموذجية التي قامت بين الهند ومصر والصين في مرحلة من أهم مراحل تطورها. أتصور أن هذه الدول هي الآن في أمس الحاجة للتعلق بالروح التي هامت في ذلك الوقت، روح الرغبة في التفوق والتعايش والحياد الإيجابي لصالح شعوبها والسلم الإقليمي.

* كاتب ومحلل سياسي

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.