توفيق شومان *
التحذيرات المتبادلة في الأسابيع الأخيرة بين صربيا وكوسوفو تعيد منطقة البلقان إلى دائرة التوتر بين دولها وقومياتها، حيث كانت صربيا على الدوام في قلب أحداثها وأدوارها منذ بروز “المسألة الشرقية” قبل قرنين إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا تبتعد صربيا في المرحلة الراهنة عن تفاعلات الحرب الروسية- الأوكرانية، فصربيا هي الحليف الأوثق لروسيا.
أولاً؛ صربيا و”المسألة الشرقية”:
قد يكون من الصعب الوقوف على أسباب احتفاظ منطقة البلقان بعناصر التوتير والتفجير من دون الرجوع إلى ما يُعرف بـ”المسألة الشرقية”، ذاك المصطلح الذي شاع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وطال مصير السلطنة العثمانية، وقبل ذلك راحت مناطق نفوذ السلطنة تشهد تراجعا مضطردا نتيجة سلسلة الحروب التي خيضت مع روسيا خصوصا بين الأعوام 1788 و1791، حين تشاركت روسيا والنمسا في حروبهما ضد العثمانيين، واستطاعت روسيا آنذاك السيطرة على ميناء آزوف في البحر الأسود، فنتج عن ذلك قناعة أوروبية بأن استمرار التوسع الروسي في الأراضي العثمانية سيرتد على المصالح الأوروبية، وهذا ما جعل الأوروبيين يقفون حائلا دون القضم الروسي لمزيد من أراضي الإمبراطورية العثمانية طوال المرحلة الممتدة إلى الحرب العالمية الأولى.
وصفت مجلة “العرفان” اللبنانية في الأول من كانون الثاني/يناير 1915 منطقة البلقان بأنها “شعلة فتن وحروب ورزايا وكروب”، وكتب محمود عباس العقاد في عدد مجلة “الهلال” المصرية الصادر في الأول من آذار/مارس 1940 “صدق من قال إن البلقان مخزن بارود وشيك الانفجار، فقد اجتمع فيه جميع أسباب الخلاف التي تخلق المشكلات وتبتعث الأخطار، فهناك التنافس بين الدول الكبرى على تثبيت النفوذ في بلدانه، وهناك النزاع بين دويلات البلقان على مسائل الحدود والسكان، وهناك النزاع في داخل كل دويلة من تلك الدويلات بين عناصرها المختلفة التي لا تنسى الأحقاد ولا تكف عن الثأر على سُنن البداوة الأولى، وبعض هذه التسميات كاف لتسمية البلقان بمخزن البارود في حالتي الحرب والسلم على حد سواء”.
هذه الصورة التي قدّمها العقّاد عن منطقة البلقان بعدما تأججت الحرب العالمية الثانية في ميادينها، لم تختلف بأحوالها ووقائعها عما جرى فيها خلال الحرب العالمية الأولى، إذ أن شرارة الحرب انطلقت منها، كما أن الحروب العثمانية ـ البلقانية في أواخر القرن التاسع عشر هي صورة متماثلة مع الصورة التي رسمها محمود عباس العقاد وحيث شهد العالم بعد قرن كامل بعض فظائعها إثر انهيار المنظومة الشيوعية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وعلى ما أظهر الاضطراب الذي عرفته منطقة البلقان في الأسابيع الأخيرة من عام 2022 بين صربيا وكوسوفو أن “مخزن البارود” البلقاني قابل للانفجار والاحتدام مجددا في أية لحظة تختارها دولة كبرى من الشرق او من الغرب.
ويقول كبير المؤرخين المصريين محمد فؤاد شكري (ت ـ 1963؛ اعتمدت المملكة المصرية على كتاباته في الأممِ المتحدةِ عندما عُرِضت قضية السودان في مجلس الأمنِ الدولي عام 1947 واعتمد الليبيون على آرائه للدفاع عن استقلال ليبيا) في كتابه “تاريخ أوروبا.. الصراع بين البرجوازية والإقطاع”:
“المسألة الشرقية تعبير يُقصد به تعريف الإمبراطورية العثمانية في ضوء علاقاتها مع الشعوب التي خضعت لها وتألفت منها، ولذلك فإن تاريخ المسألة الشرقية إنما يمر في دورين هامين أولهما يستغرق القرنين الخامس عشر والسادس عشر حين بلغت الدولة العثمانية أَوْج قوتها، وأما ثانيهما فقد استمر طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذلك عندما أخذ الضعف يدب في جثمان الدولة، وأهم العوامل التي أبرزت المسألة الشرقية ضعف العثمانيين في القسطنطينية ونهضة شعوب البلقان الصغيرة ونمو الشعور القومي بين هذه الشعوب، ثم الأثر الذي نَجَمَ من تفاعُل هذين العاملين على سياسة الدول الأوروبية الكبرى”.
قبل ذلك، كان القائد المصري المعروف مصطفى كامل (1874 ـ 1908) قد وضع كتاباً عام 1898 بعنوان “المسألة الشرقية” أسهب فيه من موقع المعايشة بشرح تفاصيل هذه الإشكالية بقوله في الفصل الثاني من كتابه:
“إن روسيا والنمسا وألمانيا اتفقت بعد حرب عام 1870 التي قامت بين فرنسا وبروسيا، وبعدما تحققت روسيا من أن ألمانيا والنمسا مستعدتان لمساعدتها، وأن إيطاليا دولة ناشئة لا يُخشى منها، وأن فرنسا ضعيفة بعد الهزيمة وأن ليس لها في دول أوروبا من يستطيع معارضتها غير إنكلترا، اجتهدت روسيا في تهييج أمم البلقان، وأرسلت في كل أنحاء بلاد البلقان زعماء ينادون بالثورة ضد الدولة العلية ـ العثمانية ـ وينشرون مبدأ اتحاد السلافيين تحت راية القيصر، ويدعون أقوام البلقان كافة للعصيان باسم الدين الأرثوذكسي ضد الحكومة العثمانية الإسلامية، كان من مصلحة النمسا أن تهيج بلاد البوسنة والهرسك وصارت المساعدات تأتيهم جهارًا من بلاد الصرب والجبل الأسود وأرسلت لهم من النمسا الأسلحة والذخائر، فلما علمت الدولة العلية بذلك أرسلت إلى البوسنة والهرسك جيشا قويا فقمع الثورة ورد كيد الثائرين، ولكن دول روسيا والنمسا وألمانيا كانت تريد استمرار الثورات والاضطرابات”.
مجلة “الهلال” المصرية ـ اللبنانية كانت نشرت سلسلة مقالات لحسين لبيب عام 1921 وأعادت نشرها في كتاب “المسألة الشرقية” أرجعت فيها جذور الحروب البلقانية إلى القرن الثامن عشر:
“في سنة 1787 زادت كاترينا ـ إمبراطورة روسيا ـ أملاكها الجديدة برفقة ملك النمسا وكتبت على احد أبواب مدينة خيرسون: هذا الباب يفضي إلى مدينة بيزنطية، فلما سمع الأتراك بذلك اعلنوا الحرب على روسيا، وختم الصلح المؤرخ في كانون الثاني/ يناير 1792 فصول هذه المأساة، على ان موت كاترينا لم يوقف الاعتداء على العثمانيين، فالروسيون زحفوا إلى الأفلاق والبغدان ـ رومانيا ـ سنة 1806، وأصبح من البديهي في القرن التاسع عشر اعتبار تركيا دولة لا حول لها ولا قوة، وأول الأخطار كانت من جهة اليونان، ونيران الفتنة لم تشتعل طلبا للحرية وسعيا لها وإنما كان الدافع إليها تحريضات ودسائس الدولة الروسية، وأسرع الروس بالزحف على ولاخيا ـ رومانيا ـ عام 1853، وعام 1854 ابتدأت الحرب المعروفة بحرب القرم وكان سبب شهر فرنسا وإنجلترا الحرب على روسيا الرغبة في إرغامها على سحب جنودها من ملدافيا وولاخيا”.
وبسبب احتدام مطامح ومطامع الدول الكبرى وتناقض مصالحها كما يتبين لدى حسين لبيب “تمردت الهرسك عام 1874، ولما عضدت روسيا بلغاريا شرعت في رفع السيادة التركية سنة 1876، وانضمت الصرب والجبل الأسود إلى صفوف البلغار الثائرين، فكان لا بد لتركيا من استجماع كل مجهود لمنازلة خصومها العديدين، وانبرت روسيا في إعلان الحرب على الدولة العثمانية في نيسان/ ابريل عام 1877، وكانت النتيجة معاهدة برلين سنة 1878 واعتُرف باستقلال الصرب والجبل الأسود ورومانيا وخُلقت إمارة دعوها إمارة البلغار”.
وفي تحليله لـ”المسألة الشرقية” يقول كارل ماركس:
“بينما كانت انكلترا وفرنسا والنمسا لبعض الوقت، تسيران على غير هدى في سياستيهما الشرقية، فقد خُدعتا كلتيهما بقدرة اخرى، لقد وُجد في روسيا، هذا البلد نصف الآسيوي بتقاليده ومؤسساته، بجوهره ووضعه، ما يكفي من الرجال من ذوي الإدراك الفعلي لحقيقة وخاصية تركيا، وتمكن عملاء روس من التمكن بالمسائل التركية لأنهم يعتنقون نفس الديانة التي يعتنقها تسعة أعشار سكان تركيا الأوروبية ولأن لغتهم هي تقريبا نفس لغة سبعة ملايين من الرعايا الأتراك، وكان مئات العملاء الروس يجوبون تركيا ويلفتون انتباه المسيحيين الروم إلى العاهل الأرثوذكسي محرر الكنيسة الشرقية المضطهدة، وكانوا يصوّرون لسلافيي الجنوب نفس العاهل بقسمات القيصر الكلي القدرة الذي ينبغي عليه، عاجلا أم آجلا، أن يوحد تحت صولجان واحد جميع قبائل العرق السلافي الكبير ليجعل منه العرق المسيطر في أوروبا”.
في كانون الأول/ ديسمبر 1912 نشرت مجلة “الزهور” التي كان يصدرها في القاهرة اللبنانيان انطون الجميل وأمين تقي الدين بحثاً مسهباً عن حروب البلقان المتقدة في تلك الفترة فقالت:
“قضى البند الثالث والعشرون من معاهدة برلين بأن يكون لمقدونيا نوع من الاستقلال الإداري تحت سيطرة الحكومة العثمانية، غير أن الباب العالي لم يكترث لإلحاح دول البلقان عليه، فأخذت هذه الدول بإثارة الأهالي على الآستانة، فبلغاريا كانت تحرض البلغاريين، واليونان اليونانيين، والصرب الصربيين، حتى أصبحت البلاد ميدانا للدسائس، وانتشرت الفوضى وتعاظمت الويلات والشرور، ولما تمادت العصابات المقدونية في شرورها وقابلها العثمانيون بالمثل، تململت أوروبا في نومها وفتحت عينيها فأقدمت على العمل حتى أنشأت في سنة 1903 رقابة دولية على إدارة تلك البلاد، فلما كان عام 1905 رأى المندوبون الحاجة إلى توسيع اختصاص الرقابة، ثم رمت روسيا والنمسا في أواخر سنة 1907 إلى إنشاء نظام خاص فلم تفلحا، وما برحت مقدونيا مضطربة حتى أواخر سنة 1910، نكتب هذه السطور والبلغاريون على بضعة عشر كيلومترا من الآستانة، والصربيون ظافرون، والطريق قد خلت إلى اليونانيين فتمشوا إلى سالونيك، وجرائد العالم تحمل إلينا أخبار الفظائع”.
ثانياً؛ صربيا وحروب الدول الكبرى:
قبل التطرق إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، تُحيلنا إشكاليات البلقان وصربيا على وجه الخصوص، إلى مراحل نشوء وتطور الدولة الصربية الحديثة والدور الروسي الفعال في تكوين هذه الدولة وتوفير عناصر الحماية والوقاية لها. في هذا السياق، يقول محمد فؤاد شكري:
“استطاع ميلوش أوبرينوفيتش إشعال الثورة في الصرب سنة 1815، وأفلح في إقامة حكومة واقعية وحصل على اعتراف من تركيا سنة 1820، ثم اعتمد ميلوش على روسيا في تأييده، وظهر هذا التأييد في المعاهدات التي عقدتها روسيا مع تركيا في 1826 و1829، وتأكد بفضلهما استقلال الصرب الذاتي، وفي عام 1830 جعلت تركيا لقب الإمارة وراثيا في أسرة ميلوش، وتقرر نهائياً استقلالها عام 1878”.
بهذا المعنى، ظهرت صربيا كدولة ذات شعب وسلطة وجغرافيا محددة في عام 1878، ومنذ هذا التاريخ كانت لصيقة بروسيا ولا فرق بذلك بين العهود الروسية المتقلبة بين القيصرية والبوتينية، وعلى صهوة التذرع بالدفاع عن “الأشقاء السلاف” في صربيا أعلنت روسيا الحرب على ألمانيا والإمبراطورية النمساوية ـ المجرية عام 1914.
أشعلت عملية اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة فتائل الحرب العالمية الأولى، وكتبت مجلة “الهلال” معلقة على هذا الحدث الخطير في الأول من تموز/ يوليو 1914 “أن ولي العهد بعد أن طاف في البوسنة والهرسك أراد أن يختم سياحته في مدينة سرايفو ومعه قرينته، فبينما هما سائران نحو بناء البلدية رماهما عامل إسمه كابرينوفيتش بقنبلة لم تُصب أحداً، وأصر فرديناند على زيارة المستشفى الحربي، فلما بلغت السيارة منعطفاً بين شارعين تقدم نحوهما طالب وأطلق رصاصتين أصابت الأولى الدوقة وأصابت الثانية ولي العهد فتوفيا بعد مدة قصيرة، وقد ثار سائر النمساويين ضد الصرب لأن كابرينوفيتش وبرنسيب القاتل صربيان”.
أصدرت النمسا بعد عملية الاغتيال تهديداً صريحاً إلى صربيا ضمّنته ما يتجاوز الواقعة، وبحسب مجلة “المقتطف” القاهرية (أيلول/سبتمبر 1914) جاء في البيان ـ التهديد “ظهر جلياً من اعتراف الجناة باغتيال ولي العهد أن تلك الجناية دُبرت في بلغراد وتلقى الجناة السلاح من ضباط وموظفين في جمعية ناردونا إبرانا، وبعد هذه النتائج على الحكومة الصربية أن تنشر في جريدتها الرسمية اعترافاً بضم البوسنة إلى النمسا والمجر وتكبح جماح المساعي المبذولة لانتزاع جانب من أملاك النمسا والمجر وتعد بقمع هذه الدعوى الجنائية الإرهابية بجميع ما لديها من وسائل وأن تضبط كل مطبوع أو منشور يثير الحقد على النمسا والمجر”.
قرأت روسيا في طيات البيان النمساوي بأن “الحرب صارت قاب قوسين وسلوك النمسا مناف لآداب الدول وأعرب ناظر الخارجية الروسية سازنوف عن رجائه بألا تتأخر الحكومة الإنكليزية عن إعلان اتحادها مع روسيا وفرنسا” مثلما جاء في المراسلات الرسمية البريطانية التي نشرتها مجلة “المقطم” المصرية في تشرين الأول/اكتوبر 1914، وبعدما نشبت الحرب، كتبت “الهلال” في الشهر نفسه “في أواخر شهر تموز/يوليو الماضي نشبت في أوروبا حرب طاحنة لم يرو التاريخ مثلها، فقد اشترك فيها تسع دول هي ألمانيا والنمسا من جهة وإنكلترا وفرنسا وروسيا والبلجيك والصرب والجبل الأسود واليابان من الجهة الأخرى”، ومع انتهاء الحرب بهزيمة ألمانيا وتركيا وتفكيك الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية ظهرت إلى الوجود بقرار دولي “مملكة الصرب والكراوتيين والسلوفينيين” المتحولة إلى مملكة يوغسلافيا عام 1929.
لم تستقر حالة المملكة اليوغسلافية الجديدة أكثر من عقد، فقد نشبت الحرب العالمية الثانية، واختصرت مجلة “العرفان” اللبنانية في تشرين الأول/اكتوبر 1939 المراحل الأولى للحرب على هذا النحو: “أعلنت فرنسا الحرب على ألمانيا وأرسلت إنكلترا زهاء 158 ألف جندي مع عتادها الكامل لتكون تحت أمرة القيادة الفرنسية واكتسحت الجيوش الألمانية بولندا وما فرغت ألمانيا من اكتساح بولونيا حتى احتل الجنود الروس القسم الأوكراني منها واستولت روسيا على البلطيق وهي تهم بفنلندا”.
وتحت وطأة الجبهات الملتهبة سعت الحكومة اليوغسلافية للتحالف مع ألمانيا، كما شرحت مجلة “الثقافة” المصرية في الأول من نيسان/ إبريل 1941:
“في يوم الثلاثاء الماضي أمضى وزراؤها وثيقة الانضمام إلى دول المحور، وفي السويعات الأولى من صباح الخميس قُبض على هؤلاء الوزراء وهرب الوصي على العرش وتسلم الملك الشاب زمام الأمور”.
وقالت “الثقافة” في الثامن من الشهر ذاته:
“لا يزال صدى الإنقلاب اليوغسلافي يشغل كل شيء في الميدان السياسي، ولا تزال آثاره المحتملة موضع التكهن والبحث، هل يحفز الألمان إلى مهاجمة يوغسلافيا في القريب العاجل؟”.
وجاءت الإجابة على هذا التساؤل على صفحات “الثقافة” في السادس من أيار/مايو، فقد “انتهت المأساة اليونانية إلى النتيجة المحتومة وسقطت اليونان بعد أن سقطت يوغسلافيا بقليل”.
في قراءته للمراحل الأخيرة للحرب العالمية الثانية، يقول المؤرخ العسكري الروسي نيكيتا بورانوف (13 ـ1 ـ2020) لوكالة “سبوتنيك” الروسية “كانت قوات ألمانيا النازية قد غزت يوغسلافيا في بداية الحرب وقاومت شعوب يوغسلافيا الغزاة تحت لواء جيش التحرير الشعبي، وتمت تقوية هذا الجيش بمساعدة ضباط الجيش الأحمر السوفياتي الذين أشرفوا على تدريب أفراد الجيش اليوغسلافي”، لكن جوزيب بروز تيتو (1892ـ1980) الرئيس المديد ليوغسلافيا الشيوعية بعد الحرب الثانية يرى، بحسب مجلة ” الرسالة ” المصرية (20 أيار/ مايو 1949)، أن بلاده لم تتحرر من الغزو النازي “على يد الجيش الروسي أو جيوش الحلفاء الغربيين، وإنما الذي حرر يوغسلافيا أبناؤها الثوار ورجال المقاومة السرية”.
قد تكون الأصول الكرواتية لتيتو أبعدته عن روسيا، من غير أن يتجه غرباً، لكن عيون موسكو بقيت مصوبة نحو صربيا الجزء الأكبر من يوغسلافيا إلى أن تفككت مع تفكك المنظومة الاشتراكية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتفرقت قومياتها تباعاً إلى دول مستقلة ومن ضمنها كوسوفو التي أعلنت استقلالها في عام 2008.
ثالثاً؛ صواعق كوسوفو:
لم تعترف صربيا بدولة كوسوفو، وقد يقارب هذا الاعتراف الاستحالة نظراً لعلاقة كوسوفو بانبعاث القومية الصربية في مطلع القرن التاسع عشر وإعلاء شأن كوسوفو إلى حدود الأسطورة، وفي مقالة (حزيران/ يونيو 2009) لأحد أهم الخبراء في شؤون البلقان محمد الأرناؤوط في مجلة “الثقافية” الأردنية تفنيد وافِ لنظرة الصرب إلى كوسوفو:
“أخذت الإيديولوجيا القومية الصربية تتشكل بالاستناد إلى أسطورة كوسوفو التي كانت قد تكونت وانتشرت من خلال الأغاني الشعبية، وبحسب هذه الأسطورة أن الأمير الصربي لازار الذي خرج لملاقاة العثمانيين في سهل كوسوفو عام 1389 توجه إلى ربه بطلب المساعدة فأعطاه الخيار بين مملكة الأرض ومملكة السماء، فاختار الأمير لازار مملكة السماء، ومع هذا الوعد الإلهي برزت مقولة صربيا السماوية كأسطورة قومية تنسب الهزيمة في هذه المعركة إلى إلتزام الصرب بالمملكة السماوية، ومع الزمن تحولت الأسطورة إلى وعد إلهي بانبعاث صربيا من جديد كإمبراطورية أرضية كما كانت عليه عشية معركة كوسوفو”.
شيء من هذا القبيل أتى على ذكره يوسف البستاني في كتابه “تاريخ حرب البلقان الأولى” الصادر عام 1913 فينسب إلى المؤرخ الصربي ليوبا كوفاتشفيتش قوله بعد مقتل ابنه في إحدى الحروب البلقانية “يا بُني نم بسلام فقد أوفيت دينك للوطن، قل للازار وكل الشهداء إن أمتهم ثأرت”، وتلك الحرب كما يورد البستاني جرت قبل أكثر من 500 سنة.
من هذا المنظور الأسطوري الذي يفترضه الصرب تتبين العناصر الدافعة لعدم اعتراف صربيا بالدولة الكوسوفية الناشئة حديثا، فكوسوفو مهد الأحاسيس والعناصر المتخيلة في إنتاج القومية الصربية والتي من دونها يتحلل عامل وثيق بالاجتماع القومي ويذوب أحد أهم أسس البناء التاريخي، ولذلك عندما يمتنع الصرب الكوسوفيون عن تزويد سياراتهم بلوحات عائدة لدولة كوسوفو ويلاقيهم الجيش الصربي بإعلان حالة الطوارئ لمؤازرتهم، فلأنهم يستصعبون ويتهيبون الفصل بين الذاكرة والواقع.
من دون تخمين أو ظن، تدرك روسيا أن الذاكرة الصربية متأججة، وبالنظر إلى وحدة العرق والدين والسلالة العائلية اللغوية وتقاربات التاريخ والجراحات المشتركة منذ انهيار العالم الاشتراكي، تبدو صربيا أكثر الدول الحليفة لروسيا ذات قابلية لتوسيع دائرة التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ولروسيا وصربيا قضيتان متشابهتان، الأولى لا تفصل تاريخها عن أوكرانيا والثانية لا تقطع حاضرها عن تاريخ كوسوفو، ولعل مسارعة موسكو أكثر من مرة لإعلان تأييدها لبلغراد في مجمل الإجراءات التي اتخذتها منذ الأسبوع الأول من الشهر الفائت، تختزن مجموعة رسائل مضمونها أن روسيا، وعبر صربيا، على استعداد لإقلاق أوروبا وربما أكثر من إقلاقها، في حال دأب الغرب على تطبيق استراتيجية استنزاف روسيا في أوكرانيا.
بناءً على هذه الوقائع، من الخطأ المبين اعتبار الاضطراب الحاصل بين صربيا وكوسوفو أمراً عابراً أو يصار إلى عزله عما يدور في الجبهة الأوكرانية، وقد يصح في هذا الاضطراب أن يقال إن روسيا تقول للغرب إن صربيا هي روسيا في قلب أوروبا.
في الختام أشعار وقصائد:
ـ أولاً؛ من كوسوفو:
قال رجلٌ في وقتٍ ما
العالم بدأ بلهيب النار
وبالنار سينطفئ
وبين النار الأولى والأخيرة القاضية
يجد أولئك معنى للحياة.
ـ أخيراً من صربيا:
ذات يوم تخيلتُ فارسا
مقطوع الرأس في حديقة جليدية
بمدينتي المقصوفة من حلف الناتو
كان الفارس يمتطي حصانا
من غير حافرين
كنتُ مجرد تمثال برونزي
فعرفتُ نفسي على الفور.
* كاتب لبناني
المصدر: 180 بوست