الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“ازدواجية المعايير” حيناً و“عماء أيديولوجي” أحياناً أخرى

  انتهى عصر الامبراطوريات وحقبة الاستعمار- نظرياً على الأقل- بعد الحرب العالمية الثانية، وجاء تأسيس الأمم المتحدة التي كانت مهمتها حسب المادة الأولى من ميثاقها “حفظ السلم والأمن الدولي، وقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم و.. الخ وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً…” في محاولة لإدراج بعض المعايير الأخلاقية التي تسمو على المصالح السياسة أو على الأقل تضع إطاراً مرجعياً لها.

  لكن هذه المؤسسة التي حملت على عاتقها قمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، ما لبثت أن وقفت صامتة بل شرعت احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين بعد 3 سنوات من تأسيسها، ربما أكد هذا الصمت أن حفظ السلم والأمن الدولي واحترام حقوق الإنسان هي مهمة للأمم المتحدة ولكن ليس لجميع أعضائها، فالمهم أن يسود السلم والأمن للدول القوية، أما تلك الدول التي ليس لديها رصيد كافٍ من القوة يمنع الآخرين من الاعتداء عليها، فلا بأس في أن يختلَ فيها السلم والأمن ومن غير المهم أيضاً أن يعيش أفراد هذه الدول في حريةٍ وكرامة.

  نحن كشعوب وكدول، كثيراً ما نتهمُ الغرب أو السياسة الغربية بأنها سياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين، ولنا في ذلك مطلق الحق فنحن نرى كيف تعاملت دول الغرب مع القضية الفلسطينية في ظل انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي الدائمة والمتكررة منذ تأسيس هذا الكيان وحتى هذه الأيام مع اقتحام مخيم جنين، هذه السياسة التي شجعت على الدوام حكومة الاحتلال على التمادي بشكل دائم ورفع حدود تماديها، وهي نفسها التي شجعت كل المنتهكين على الاستمرار في انتهاكاتهم بدون حسيب أو رقيب، فقط يكفي أن يكون المنتهِك مدعوماً من قوة عظمى.

  ولا داعي للمحاججة في أن جميع القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان التي تم التوافق عليها عالمياً في الإعلان العالمي لحقوق الانسان منذ 75 عاماً، لا تلبث أن تنهار أمام المصالح السياسية الآنية منها أو الاستراتيجية، وقد لا يكون مثال الاحتلال الصهيوني هو المثال الوحيد أو الأول والأخير، فثورات الربيع العربي التي نادت بالديمقراطية وحقوق الإنسان وهي قيم عالمية، خُذلت دولياً لصالح صعود ثورات مضادة وعودة الديكتاتورية، ناهيكم عن استخدام البعض منها كالنظام السوري للسلاح الكيماوي، حيث عاقبه المجتمع الدولي “حفاظا على السلم والأمن الدولي” بتسليم قسم من سلاح الجريمة ليس إلا!

  ربما شكلت حادثة حرق نسخة من المصحف الشريف من قبل دانماركي متطرف في السويد وبعده من قبل هولندي متطرف داخل هولندا ثم نفس الدانماركي المتطرف في الدانمارك، فضلاً عن سلسلة الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أحد محطاتها؛ فعلى المستوى الأوربي هناك كيل بمكيالين، وفي بلد الحريات مسموحٌ أن تحرق المصحف الشريف ولكن ليس مسموحاً أن تعيد البحث في الهولوكوست أو أن تحرق أو تسيء لراية المثليين والشواذ، فمسموحٌ أن تحتقر مشاعر البعض ومعتقداتهم وديانتهم، لكنك ستُتهم بمعاداة السامية فيما لو فعلت ذلك تجاه البعض الآخر، ومطلوب أن تحترم مشاعر وحقوق الآخرين مع بعض الاستثناءات حين تقتضي الحاجة! أما على مستوى العالم العربي والإسلامي، وهنا بيت القصيد، فقد أشعل الحدث مواقع التواصل الاجتماعي، وألهب حناجر الخطباء على منابرهم بزعم وحدة المُعاناة، فهل تكفي وحدة الآلام والمعاناة بديلاً عن الوحدة السياسية لشعوبنا التي تم اغتيال نواتها وتبريره بصلفٍ كبير من أشباه نفس الحناجر والأبواق؟

  لا شك أن حدث حرق المصحف فيه هذا القدر من الاستهتار بمشاعر ما يقارب الملياري مسلم يحتاج إلى رد فعل يقابله ولا أحد يستطيع نكران ذلك، لكن أين كانت هذه الحشود وهذه الخطب النارية، عندما قُتل وهُجر وشُرد واعتُقل ملايين البشر الذين ما جاء هذا القرآن إلا ليحمي حقوقهم ويحفظ أرواحهم؟ ألم يرد فيه “‏مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”؟.. المائدة 32، ألم يرد في الأحاديث أن هدم الكعبة أو زوال الدنيا أهون على الله من قتل نفسٍ واحدة.

  وقد عميت عيون الغرب عن قتلى شعبنا السوري وعن مجازر النظام الكيماوي القابع في دمشق لأكثر من عقد متعاوناً مع إيران وروسيا المجرمتين، مع إدراك “بيدرسون”- غير النزيه- أن العذابات الإنسانية السورية كلها يقف وراءها بشكل أساسي منظومة الاستبداد والقتل الأسدية.

  ويأتي هذا الغرب وخاصةً أمريكا أيضاً بعد عملية القدس البطولية للثائر الفلسطيني “خيري علقم” رداً على وفاة 11 شهيد بعدوان الاحتلال الصهيوني على جنين ومخيمها يوم الخميس الماضي، مكررين بصلف حماية الكيان الصهيوني المصّطنع المسمى “إسرائيل”، مفسحين المجال لملالي طهران ونظامهم المتهالك بالمزاودة بفلسطين والقدس جراء اصطدام مصالحهم الراهنة في أوكرانيا بعد فشل الاتفاق النووي وتزاور المسؤولين الأميركان والصهاينة وأقرانهم العرب المتواقت مع تجرع نظام الملالي مرارة المُسيرات، بضربة أصفهان وباقي المواقع العسكرية داخل جغرافية إيران الإرهابية، وداخل أراضينا السورية متعددة الانتهاكات والاحتلالات!

  لكن الحقيقة المؤلمة أنه ليس من يمتلك أسباب القوة هو فقط من يكيل بمكيالين، فحتى نحن الذين نبكي ونتباكى من ازدواجية المعايير ومن تحكم الأقوياء بمنظومة القيم، كثيراً ما نقع فريسة لازدواجيتها فنميل لاستعمال عين الأيدولوجية أو بالأحرى عماءها.. أليس هذا كيلاً بمكيالين؟

  والأمثلة أكثر من أن تحصى!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.