عبد الله السناوي *
مرة بعد أخرى دأب وزير الخارجية الأمريكي الأشهر «هنري كيسنجر» على الإدلاء بشهاداته عن حرب تشرين الأول/ أكتوبر (1973).
في كتابه الجديد «القيادة» كشف معلومات وأسراراً لم يتحدث عنها من قبل تساعد في إحكام النظر لما جرى في تلك الأيام الحاسمة من تاريخنا الحديث.
تطرق موسعاً إلى الرئيس «أنور السادات» ضمن ست شخصيات بلورت رؤيته لمفهوم القيادة، خصائصها وسماتها، هم: «كونراد أديناور» أول مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية، و«شارل ديجول» قائد المقاومة الفرنسية أثناء تلك الحرب، و«ريتشارد نيكسون» ودوره في إنهاء حرب فيتنام والانفتاح على الصين، و«لي كوان يو» زعيم سنغافورة، و«مارجريت تاتشر» التي كانت توصف بالمرأة الحديدية في بريطانيا.
اختار «السادات» شريكه الرئيسي فيما أطلق عليها «عملية السلام» ضمن النماذج الستة لصناع الاستراتيجيات للحديث عن دوره هو في تغيير معادلات المنطقة.
كما اختار «نيكسون» ليتحدث عن دوره هو في إنهاء حرب فيتنام وسياسة الوفاق والانفتاح على الصين.
أراد أن يقول إن «السادات» شريكه في عملية السلام صاحب نظرة استراتيجية أطلق عليها «التجاوز»، أي تعديل الأوضاع الاستراتيجية التي كانت عليها مصر إلى أوضاع جديدة في السياسات والتحالفات الإقليمية والدولية أفضت عملياً إلى طرد الاتحاد السوفييتى، الذي حاربنا بسلاحه في تشرين الأول/ أكتوبر والانتقال إلى المعسكر الآخر الذي حاربت إسرائيل بسلاحه.
هناك اعترافان جوهريان في الكتاب الجديد لرجل يستقبل في أيار/ مايو المقبل عامه المائة دون أن تؤثر وطأة السنين على همته وذاكرته.
الأول، أن أجهزة المعلومات والاستخبارات الأمريكية فشلت تماماً في توقع أن تبادر مصر بأي أعمال عسكرية لتحرير الأراضي المحتلة، فموازين القوة لا تسمح والهزيمة مؤكدة.
الفشل الاستخباراتي امتد إلى مجموعات المتابعة في وزارة الخارجية الأمريكية.
الأسوأ أن البيت الأبيض لم يكن على علم، لا من استخباراته ولا من اتصالاته بالإسرائيليين، بمن بدأ الحرب.
ساد اعتقاد راسخ أن إسرائيل سوف تستعيد الموقف سريعاً وتُلحق بالمصريين والسوريين هزيمة جديدة حتى تبدد تماماً فى اليوم السادس من الحرب.
في ذلك اليوم الثلاثاء (11) تشرين الأول/ أكتوبر تأكد في البيت الأبيض أن إسرائيل على شفا هزيمة كاملة على طول قناة السويس.
كان ذلك هو الاعتراف الثاني.
في صفحة رقم (358) كتب أن البيت الأبيض أبلغه أن مئات الدبابات وعشرات الطائرات خسرتها إسرائيل في المعارك الأولى التي اندلعت منذ يوم (6) تشرين الأول/ أكتوبر ، وأن هناك طلباً ملحاً لإمدادها فوراً بأسلحة تعوض خسائرها وأن تزور رئيسة الوزراء «جولدا مائير» واشنطن لـ«عرض قضيتها» بنفسها.
«نيكسون» استجاب لطلبات السلاح و«كيسنجر» أشرف على الجسر الجوي مستعيناً بالطيران المدني لإزالة أي معوقات تؤجل إرسال المساعدات المطلوبة لإنقاذ إسرائيل.
وكان رفضه صريحاً وحاسماً لفكرة الزيارة قائلاً للسفير الإسرائيلي في واشنطن «سيمحا دينتز»، إذا ما غادرت في حالة الحرب فإنها تعطي رسالة سيئة للغاية.
هُزمت إسرائيل في الخمسة الأيام الأولى من الحرب.
هذه حقيقة نهائية باعتراف «كيسنجر» نفسه، قبل أن يتكفل بتعديل دفة الحوادث وحرمان مصر من جني ثمار بطولة السلاح.
فيما اعترف به أنه تلقى من السفير «دينتز» الذي زاره برفقة الملحق العسكري «رسالة دراماتيكية» تقول حرفياً إن وزير الدفاع «موشى ديان» ورئيس هيئة الأركان «ديفيد إليعازر» تمكنا من إقناع رئيسة الوزراء «مائير» أنه إذا ما أقدمت إسرائيل على هجوم مضاد بطول قناة السويس فإن التكاليف سوف تكون باهظة للغاية، فصواريخ «سام» السوفييتية تغطى من (15) إلى (20) ميلاً غرب قناة السويس.
بدأ مسار الحوادث يتغير، بالجسر الجوي أولاً، وبأخطاء السياسة ثانياً.
أخذ دور «كيسنجر» يتمدد كمهندس للتسوية السياسية بالطريقة التي جرت والنتائج التي أفضت إليها.
جرى الاتصال بوزير الخارجية البريطاني «إليك دوجلاس هيوم» لأخذ زمام المبادرة على ما جرت العادة في إسناد مثل تلك المهام إلى الدبلوماسية البريطانية، كما حدث عند وقف إطلاق النار عام (1967) حيث تساعدها خبرتها على الصياغات الملغمة.
على الجانب الآخر من الصورة، تلقت حجرة العمليات الملحقة بمكتب وزير الخارجية المصري برقية من الخارجية الأمريكية تطلب البحث في وقف فوري لإطلاق النار.
في ظروف الحرب لم يكن ممكناً إيصال البرقية إلى رئيس الجمهورية بالسرعة الواجبة، تبادل الدبلوماسيون المصريون الذين اطلعوا على البرقية الرأي فيما يجب أن يكون عليه الرد.
كان الملحق الشاب، السفير فيما بعد «محمد اسماعيل»، نجل القائد العام للقوات المسلحة في حرب تشرين الأول/ أكتوبر المشير «أحمد اسماعيل علي» متواجداً في غرفة العمليات بحكم عمله بمكتب الوزير.
سئل إذا ما كان ممكناً إيصال البرقية إلى والدك؟.. أجاب: مستحيل.
كان وزير الخارجية «محمد حسن الزيات» في نيويورك ولم يمكن الاتصال بالقائم بالأعمال «اسماعيل فهمي».
اقترح د. «أسامة الباز» إرسال البرقية بالغة الأهمية إلى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ثقة أنه سوف يصل للرئيس بأسرع وقت ممكن ويسدي النصيحة المناسبة في ضوء التطورات العسكرية والسياسية.
كان مثيراً للالتفات أن وزيري الدفاع والخارجية التقيا قبل فترة وجيزة في نادي القوات المسلحة بالزمالك، وتبادلا الرأي فيما قد يُعرض على مصر من مقترحات.
«الزيات» رفض وهو في نيويورك اقتراحاً أمريكياً بوقف إطلاق النار وعودة القوات إلى ما كانت عليه، دون عودة للقاهرة.
لم يكن ممكناً أن يقبل «السادات» عرضاً ثانياً أن تنسحب القوات المصرية إلى غرب القناة على أن تظل القوات الإسرائيلية في أماكنها الحالية دون تقدم إلى مواقعها التي انسحبت منها! فذلك يفرغ النصر العسكري من أية قيمة!
ثم جاء العرض الثالث الذي جرى إقراره فيما يعرف بقرار مجلس الأمن (338) ويقضي بوقف إطلاق النار بصورة كاملة وإنهاء جميع الأعمال العسكرية فوراً من لحظة اتخاذ هذا القرار وفي المواقع التي تحتلها الآن.
كانت تلك شهادة أخرى من داخل وزارة الخارجية المصرية.
بعد خمسين سنة من الحرب تحتاج مصر إلى توثيق ما جرى فعلاً، أن ترفع الحظر عن الوثائق التي فى عهدتها حتى يمكن قراءة التاريخ بعيوننا نحن لا بعيون الآخرين.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق