فيصل عكلة *
” النور” أول قرية سكنية للمكفوفين في الشمال السوري. ” فرق كبير بين تنقلي الآن في أرجاء قرية النور بيسر وسهولة وبين معاناتي الكبيرة التي كنت أواجهها خلال تجوالي في مخيم سرمدا، حيث كنت أتعرض للتعثر في بعض الأحيان أو السقوط في ذلك المخيم نتيجة الطرقات المحفّرة أو المطبات المتنقلة في المخيم القديم، أما هنا فالوضع مختلف تماما “.
ذلك ما ذكره لنا محمد اليوسف معبرًا عن رضاه عبر سكنه الجديد في قرية النور، ومستذكرًا مرارة العيش في مخيم سرمدا، في شمال غرب سورية، قبل أن ينتقل قبل أيام إلى شقة سكنية مجهّزة تناسب وضعه الصحي.
محمد اليوسف ولد كفيفًا ولديه أربعة أطفال، انتقل مؤخرًا إلى قرية النور للمكفوفين في منطقة الكمونة شمال إدلب، بعد أن ودع خيمته وحصل على شقة ضمن تلك القرية، يوضح انطباعه لصحيفة “إشراق”:
” لا شك أن حالنا أفضل الآن بكثير، أن تستطيع إسناد ظهرك على حائط سترتاح أكثر، أن تتنقل في شوارع المخيم الجديد دون أن تستعين بقريبك وتسكن ضمن جدران وسقف بيتوني يحميك من المطر والبرد خير من الشادر الذي عشنا فيه سنوات ثلاث ذقنا خلالهن الأمرّين، حيث الخيمة كما تعرف لا تردّ برد الشتاء ولا حرّ الصيف”. وأضاف محمد” أتحرك الآن بشكل أسهل بكثير في شوارع القرية المرصوفة والمستقيمة على عكس المخيم السابق الذي كان المبصرون يعانون من صعوبة الحركة في فصل الشتاء حيث الوحل والمطر، فما بالك بنا نحن المكفوفين “.
أمام إحدى الكتل انضممت إلى جلسة تجمع عددًا من المكفوفين، انضممت إليهم بعد أن سلمت عليهم وأفسحوا لي المكان، تلمسوا يدي وسحبوني بينهم مرحبين، سألتهم عن أحوالهم في سكنهم الجديد، أجابني عن سؤالي الحاج أبو عبد الله القادم من مخيم الجولان قرب بلدة قاح والبالغ من العمر ٤٧ عامًا كما عرّف عن نفسه، قال: ” الحمد لله، سكننا جيد والبناء أفضل من الخيمة ولكن نتمنى أن تأتي منظمة أو جمعية لتكفل المخيم وتقدم لنا مواد التدفئة في هذا البرد إضافة إلى المواد الإغاثية” أما الحاج أبو عبد الله فقال أنه من بلدة كفرنبودة من ريف حماه الشمالي، وقد بدا لي مبصرًا وهو ينظر إلي بوجهه الباسم ولحيته البيضاء لذا سألته من المكفوف في عائلتكم حتى سكنتم هذا المخيم، أجابني: أنا الضرير، منذ ولدت لا أرى سوى جزء من عشرة في العينين، لا أستطيع القراءة ولم أحضر المدرسة، في الأسبوع الماضي راجعت مشفى الحكمة المتخصص بالعيون وقال لي الطبيب أن حالتي لا تشفى لأنها اعتلال، حمدت الله على كل حال “.
جاءت إحدى النسوة وسحبت زوجها من يده لمراجعة المدرسة، قالوا لي أنهم نازحون من بلدة الدقماق من سهل الغاب وأنها تبعد عن قوات النظام خمسة كيلومترات، بعد قليل عاد منزعجًا وبدأ الحديث قبل أن نسأله: تسجيل المواليد مشكلة كبيرة للمبصرين فما بالك بالمكفوفين، ذهبت عدة مرات لتسجيل ابني الذي أصبح في الصف الثاني بالمدرسة، يوم لا أجد المختار ويوم لا أجد مركز النفوس لأنه نُقل من مكانه والمدرسة تطلب إثبات لتسجيل الولد.
بعد قليل أحضرت لنا زوجته صحناً من التمر وفرش لي (الفروة) التي كان يرتديها وتلمس المسافة بيني وبينه ليجلس جانبي وسكت هنيهة قبل أن يتابع:
” (وجّعنا راسكن) من الصبح، الحمد لله هنا المدرسة منتظمة في المخيم ومدعومة من منظمة تكافل الشام من رواتب معلمين وقرطاسية، وأيضًا المنظمة تجهز لنا بئر ارتوازي لتوفير مياه للشرب “.
صحيفة (إشراق) سألت المهندس فيصل السليم المشرف على مشروع إعادة تأهيل البئر الإرتوازي، وسألته عن هدف المشروع فأجاب: ” هدفه تزويد المخيم بالمياه الصالحة للشرب حيث أن البئر بحري، واستخراج الماء عن طريق ألواح الطاقة الشمسية بعيدًا عن المولدة وضجيجها وأعطالها، إضافة إلى تنفيذ خط صرف صحي يخدم كل المخيم ويصب في الشبكة الرئيسية بعيدًا عن المخيم “.
الكتابة على جدران المنازل بطريقة برايل (نظام كتابة بحروف نافرة يمكن للكفيف قراءتها)، وذلك لتمييز كل شقة عن غيرها، إضافة إلى أن الأرصفة متنوّعة، وكل كتلة سكنية تختلف عن غيرها وتم تزويد جدران المنازل الخارجية بزخاف مختلفة، تمكن كل صاحب شقة من الوصول إلى منزله بسهولة.
أبو أحمد أحد المكفوفين المقيمين في القرية والنازح من مدينة حلب وحاصل على شهادة جامعية قال: ” إن السكن الجديد أفضل وفيه مواصفات تسمح للكفيف الإعتماد على نفسه في التنقل دون الحاجة إلى مساعدة، حتى في الداخل يستطيع تمييز ممراتها المختلفة، ولكن حبذا لو كانت الشقة غرفتان أفضل من غرفة واحدة لأن كل عائلة لديها عدد من الأطفال “.
مضيفًا ” أن التصميم المناسب لحال الكفيف شمل أيضًا مسجد القرية الذي أضيف له رصيف فيه نقوش خاصة، وأرضية مختلفة يعرف الكفيف من خلالها أنه وصل المسجد “.
أما أبو محمود مدير المخيم وهو أيضًا من المكفوفين فقد أوضح لنا ” أن مساحة المخيم تبلغ بحدود ٢٧ دونم وفيه ٧٠ عائلة، العائلة الكبيرة تسكن شقة غرفتين ومنافعها أما العائلة الصغيرة تسكن في شقة من غرفة ومنافعها، وتم إنشاء شبكات المياه والصرف الصحي، وجهّزت كل شقة بألواح طاقة شمسية وتوابعها، كما تم إنشاء سورٍ حول المشروع وللقرية باب واحد، وغرفة حراسة لتأمين القرية بالكامل، كما حوت القرية مسجدًا ومدرسةً خاصة بالمكفوفين (داخلها مطعم) ومستودعًا ومركزًا طبيًّا وغرفتَي حراسة وسوقًا تجاريا”.
وبيّن مدير المخيم ” أن السوق التجاري يضم محلات ستوزَّع على المكفوفين خلال المرحلة القادمة، ليبدؤوا من خلالها مشاريعهم المتناسبة مع إمكاناتهم وخبرتهم في المهن المحبّبة لهم، بغرض دفعهم للاعتماد على أنفسهم في تحصيل قوت يومهم وإعالة أسرهم”.
يعاني المكفوفون بشكل عام في مناطق المخيمات ظروفًا اجتماعية ومعيشية صعبة، وسط غياب المشاريع التي تنمّي مواهبهم وتدخلهم سوق العمل وتساعد على إعادة دمجهم في المجتمع، حيث يقتصر الحال على وجود مركزين فقط لتعليم المكفوفين بطريقة برايل، أحدهما يتبع لجمعية IHH بمدينة إعزاز، وآخر لجمعية “رفع المستوى” في مدينة إدلب، ووفقًا لإحصائية أجرتها جمعية المكفوفين بينت فيها أن العدد يفوق ٣٢٠٠ مكفوف بحاجة لمساعدة وإنشاء مراكز تعليمية لهم وتأهيلهم ببرامج عملية، ليصبحوا قادرين في الاعتماد على أنفسهم في ظروف يعاني منها حتى المبصرون!
* كاتب سوري
المصدر: إشراق