توفيق شومان *
لم يكن مشهداً عادياً ذاك الذي أظهر جموعاً متظاهرة في مدن صينية عدة قبل أيام قليلة، فمنذ عام 1989 تاريخ الواقعة الشهيرة في ساحة “تيان إن مين” في قلب العاصمة بكين، حيث طالب المتظاهرون آنذاك بالديموقراطية والحريات السياسية، لم تعرف الصين تظاهرات أو اعتراضات مماثلة، وإذا ما جرى استثناء ما يحدث في هونغ كونغ بين آونة وأخرى، فتوصيف “مملكة الصمت” قد يكون أكثر التوصيفات انطباقاً على زعيمة “العالم الأصفر”.
بصورة عامة، تكاد جراثيم وباء “كورونا” تلفظ أنفاسها الأخيرة في أنحاء المعمورة كافة، ومنذ أشهر، بل في مطلع السنة الجارية، تخلت دول العالم عن سياسة الإغلاق والفحوصات المخبرية الإلزامية لإدراكها ويقينها أن هذا الوباء بلغ خاتمته بعدما أكل مأكلاً من أرواح الناس وأمانهم وأشغالهم وحياتهم العادية.
وحدها الصين، ما فتئت تمارس تطبيقات الذروة تجاه “كورونا” وكأنه في مبتدأ شيوعه، فتلجأ بين حين وآخر إلى استراتيجية إغلاق المدن والمقاطعات وإعلان حالات الطوارىء الطبية والكشف عن عشرات آلاف الإصابات اليومية، وهي أرقام تعدت أضعافا مضاعفة ما كانت تعلن عنه السلطات الصينية في ذروة انتشار الوباء الخبيث، حتى بدا لأهل الصين ولغيرهم أن “كورونا” انتهى في العالم وبدأ تواً على حين فجأة في الصين.
ربما قد يطول الأمد لمعرفة حقائق المعاناة الصينية مع وباء “كورونا” منذ تاريخ الكشف عنه في أواخر عام 2019، وقد يستتبع ظهور الحقائق في زمن- قد يقرب أو يبعد- اكتشاف أرقام مهولة عن الضحايا الذين أسقطهم الوباء موتى ولم تعلن السلطات الصينية عنهم، تماماً مثل ملايين الموتى الذين قضوا جوعاً بين الأعوام 1958 و1961 جراء خطة “القفزة الكبرى” التي قادها القائد الشيوعي الراحل ماو تسي تونغ الذي أعاد النظر فيها بعد “حالة المجاعة العامة التي شهدتها البلاد”، كما يقول المفكر الصيني “ون تي جون” في “أفكار القرن” وما أعقب تلك “القفزة” من موت أحمر آخر حصد بدوره ملايين أخرى من الأرواح إبّان “الثورة الثقافية” عام 1966، وكان من ضمن عناوينها إيقاف التعليم العالي، بغية “تطهير” التعليم الصيني من “الثقافة الرأسمالية”، وهما (“القفزة” و”الثورة”) اللتان أدتا إلى بروز تيارين متصارعين داخل الحزب الشيوعي الحاكم، الأول بقيادة ماو تسي تونغ والآخر بقيادة دنغ شياوبينغ.
عن حدة الصراع ومظاهره بين “التيار السلفي الشيوعي” بزعامة ماوتسي تونغ و”التيار الإصلاحي” برئاسة دنغ شياو بنغ، كتب تشاو يا يوان في مجلة “الصين اليوم” التي تشرف عليها الحكومة الصينية “في سنة 1966، اندلعت نيران الثورة الثقافية وجُرّد دنغ شياو بينغ من جميع مناصبه وأرسل إلى مصنع للجرارات في ريف مقاطعة جيانغشي كعامل عادي”.
والأكثر خطورة من ذلك، أن الصراع انتقل إلى الخلايا الصغرى في المجتمع، أي إلى الأسرة، وفي كتاب “مقومات التجربة الصينية” لأستاذ الاقتصاد في مقاطعة “يوننان”، لو تشونغ مين “لا يُخفى على الجميع الكوارث الخطيرة التي خلفها الصراع الإيديولوجي خلال الثورة الثقافية الكبرى، فما حدث أدى إلى تناقض كبير في المجتمع، مما جعل الأب ينتمي إلى الاشتراكية والأم إلى الرأسمالية والأجداد للرأسمالية والأحفاد للاشتراكية والمعلم للرأسمالية والطالب للاشتراكية، مما أدى إلى الصراع بين الزوج والزوجة والأحفاد والأجداد والمعلمين والطلاب”.
وعن تلك الفترة ولا سيما إيقاف التعليم العالي، يكتب الأستاذ بمركز البحوث الاقتصادية في جامعة بكين، تشو تشي رن، في مجلة “الصين اليوم” أيضاً “قدِمت من الريف، والتحقت بإحدى جامعات بكين سنة 1978، وبسبب الثورة الثقافية لم أستطع الالتحاق بالمدرسة الثانوية بعد أن أتممت الدراسة في المدرسة الإعدادية سنة 1966، بالنسبة لي ومن هم مثلي، كان قرار دنغ شياو بينغ بإعادة امتحان القبول بالجامعات في شهر آب/ أغسطس سنة 1977، بعد توقف دام عشر سنين، الصفحة الأولى لعهد جديد، صفحة غيّرت مصير جيلي كله”.
إن الحقائق والوقائع المرتبطة بـ”كورونا” متروكة لحسابات الزمن كما سبق القول، ولكن التظاهرات التي شهدتها المدن الصينية منذ أيام، صحيح أنها من تداعيات سياسة “الإغلاق” التي لا يبدو لها نهاية كما يقول المتظاهرون، إلا أن التوقف عند الشعارات المرفوعة من مثل: “إرحل يا شي” (الرئيس شي جين بينغ)- “إرحل أيها الحزب الشيوعي”- “نريد الحرية”، تنم عما هو أوسع من الاعتراض على سياسة “صفر كوفيد”. تلك هي شعارات سياسية لا ريب فيها، وهذا يوجب بالطبع إعادة قراءة ما يحدث في الصين في هذه الأيام على ضوء العديد من المؤشرات التي ظهرت في الأشهر القليلة الماضية، وما قبلها أيضاً، وجاءت الحرب الروسية ـ الأوكرانية لتحجب عنها الأنظار ولا تعطيها التأمل الكافي لقراءتها، ومن بين هذه المؤشرات:
ـ في الثاني والعشرين من تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، جرى تسريب شريط مصور شاهده العالم من شرقه إلى غربه، يظهر فيه الرئيس الصيني السابق هو جين تاو وقد أمسك به مسؤولان طالباه بالخروج من القاعة التي ينعقد فيها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي، وفيما بدا الرئيس السابق مذهولاً، ظهر الرئيس الحالي شي جين بينغ ساكناً بلا حراك كأن على رأسه الطير، وقد يكون من الصعوبة القصوى تصديق الرواية الرسمية الصينية بأن هو جين تاو “لم يكن بخير”، على الأقل كان من واجب الرئيس الحالي التحدث معه والاطمئنان عنه، وعلى ذلك لا ينطوي الاستنتاج على غلو إذا قيل إن خروج هو جين تاو من قاعة المؤتمر لا يعدو كونه إخراجاً له من واجهة الحزب الحاكم ومن قيادته، وبما يفضي إلى القول بأن تسريب الشريط المصور كان متعمداً وأريد منه إنهاء الحياة السياسية والقيادية للرئيس السابق، وهذا الإخراج وبهذه الطريقة لا يطاله وحده، بل يطال أنصاره ومريديه داخل الحزب.
ـ لم يقتصر إبعاد “هو جين تاو” عن الواجهة السياسية الصينية، فالرئيس الأسبق جيانغ زيمين (توفي اليوم عن 96 عاماً) لم يكن حاضراً في مؤتمر الحزب، وعلى ما يقال إنه لم يتلقَ دعوة للحضور، ويقال أكثر من ذلك، إن القيادة الصينية الحالية تخشى حضوره لمخاوفها من فقدانه القدرة على ضبط كلامه واحتمال إشاعته معلومات خطيرة بفعل تقدمه في السن، غير أن ذلك يبقى في دائرة الدعاية الرسمية، إذ انه من المعروف أن الرئيس الحالي شي جين بينغ قد عمد منذ عام 2015 إلى إطاحة المؤيدين لجيانغ زيمين من المؤسسة العسكرية، وكان من أبرزهم “شوكاي هي” نائب رئيس اللجنة المركزية العسكرية، ومنذ ذلك الحين تتسع الفجوة بين الرئيس الصيني الأسبق والرئيس الحالي.
هذه الوقائع، وإن اتخذت منحى تقديريا مضمونه “أن شيئاً ما” يحدث في الصين، فلأن قراءة المسار السياسي للرئيس شي جين بينغ منذ وصوله إلى أعلى مقام صيني عام 2013، ينم عن نزوعه نحو التفرد في الحُكم وإقصاء المنازعين المحتملين لسلطته، ومما يوحي بأنه يطمح إلى إعادة استنساخ الحقبة الماوية، وقد يكون العنوان الأكثر وضوحاً في نزعته الفردية يتمثل في التجديد له لولاية رئاسية ثالثة قد تمهد لرابعة أو أبدية على غرار ما كان فعله مؤسس الصين الشيوعية ماو تسي تونغ.
ما يدفع إلى هذه الخلاصة، أن مرحلة ما بعد ماو تسي تونغ، والتي قادها رائد الإصلاح الصيني الرئيس دينغ شياو بينغ منذ عام 1978، أنتجت مجموعة قواعد للحُكم وإدارة البلاد موجزها طي عبادة الشخص، واعتماد “الديموقراطية الحزبية” وتحديد الفترة الرئاسية بولايتين كل منها خمس سنوات، مما يعني الخروج من قاعدة الرئيس الأبدي، وهذا ما شهدته الصين على مستوى الممارسة السياسية بعد إسدال الستار على حقبة ماو تسي تونغ، وعلى الشكل الآتي:
ـ دينغ شياو بينغ رئيسا بين الأعوام 1978 ـ 1988.
ـ لي بينغ رئيسا للوزراء منذ عام 1988، بعدما أفسح له دينغ شياو بينغ المجال لقيادة البلاد، فيما استمر دينغ موجها ومشرفا من عل.
ـ جيانغ زيمين رئيسا بين 1993 و2003.
ـ هو جين تاو رئيسا بين 2003 و2013.
ـ شي جين بينغ منذ عام 2013 إلى..؟.
من الواضح بعد التدقيق في هذا القائمة، ان طارئاً ليس عادياً اقتحم المشهد السياسي الصيني الذي حاول دينغ شياو بينغ تكريسه عبر الخروج من التاريخ الإمبراطوري للصين والممتد رجوعاً إلى آلاف السنوات والمتجدد مع المرحلة الشيوعية من عام 1949 إلى عام 1976، والمنقطع بين 1978 و2003، والعائد من جديد مع شي جين بينغ بتجديد ولايته الرئاسية عام 2022 لمرة ثالثة، وقد يكون لمرات غير محصورات وغير معدودات.
ثمة مقولة شهيرة لدينغ شياو بينغ خرجت منها نظرية “اشتراكية السوق”، وهي “لا يهم إذا كانت القطة بيضاء او سوداء، المهم أن تأكل القطة الفئران”، ورمزية هذه المقولة أنها لا تأخذ بحصرية النظرية الاشتراكية للتنمية الاقتصادية كما كان يقول الشيوعيون الصينيون، إذ أن الهدف من نظرية اقتصادية ما هو التنمية، وإذا جاءت الأخيرة عن طريق “السوق” وهو التعبير المجازي عن الرأسمالية، فلا ضير ولا ضرر من ذلك، فالمُراد هو الهدف والنتيجة، وهذه من دون ريب هي فلسفة المنفعة التي أوصلت الصين إلى الموقع الإقتصادي الثاني على مستوى العالم قاطبة.
ما الغاية من هذا التمهيد؟
الغاية منه إضافة عامل قلق جديد في الصين، يجري الحديث عنه مع قائمة العوامل السياسية التي سبق الإتيان عليها، والعامل المُضاف عنوانه الصراع أو النزاع بين تيارين صينين “تيار بكين” و”تيار شانغهاي”، أي بين مجموعات الضغط السياسي ومجموعات الضغط الإقتصادي، وكان الزميل بسام خالد الطيارة قد كتب مقالة موفقة (https://thefreedomfirst.com/2022/05/30/الصين-احتدام-الصراع-بين-عشيرة-شانغه/) حولها استعرض فيها عناصر الصراع بين التيارين، فأحدهما (تيار بكين) يبغي فرض سطوته والثاني (تيار شانغهاي) يخشى إضعافه ويعتمد على قوته الاقتصادية إذ “من الواضح أن شي جين بينغ يرغب في إضعاف عشيرة شانغهاي من خلال سياسة “صفر كوفيد”، وبالمقابل، فإن المسؤولين الذين عملوا مع تيار جيانغ زيمين استغلوا هذا التململ من هذه السياسة القاسية لإثارة المشاكل وتشويه سمعة قيادة بكين”.
وعلى ذلك يرتسم المشهد على هذا النحو:
ـ مع الاستمرار في استراتيجية إغلاق المدن والاحترازات المشددة من وباء “كورونا”، تحقق القيادة الصينية هدفين: الوصول إلى “صفر كوفيد” على ما تقول وتزعم، وفي الوقت نفسه تقليص نفوذ “تيار شانغهاي” أي مجموعة الضغط المناوئة للرئيس الصيني والتي تتخذ من الاقتصاد واجهة للمواجهة مع القيادة الصينية الحالية.
ـ يعتبر “تيار شانغهاي” ويضم بين أجنحته قيادات تقليدية في الحزب الشيوعي الصيني أو أبناءهم أو أقرباء لهم أو مقربين منهم، أن نزعة التفرد بالسلطة التي يخطو نحوها الرئيس الصيني، يمكن أن تؤدي إلى خفض أو إطاحة نفوذهم الحزبي، ومؤدى ذلك أن تتراجع مواقع تأثيرهم العامة، مما ينتج على وجه اليقين تأثيرات سلبية على أحجامهم ومواقعهم الاقتصادية.
وفي الطريق نحو السلطة الفردية بات شي جين بينغ يمسك برئاسة الدولة وقيادة الحزب واللجنة العسكرية المركزية، وفي تقرير المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي دخلت أفكاره سراجاً منيراً للمرحلة الصينية المقبلة، فالتقرير شدّد على “أفكار شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد بوصفها مرشداً” وقد تدخل في صلب التعديلات الدستورية المقترحة التي تعيد إحياء الذاكرة الماوية، ولا يبقى أمامه سوى احتواء مجموعات الضغط الاقتصادية أو السيطرة عليها، وهي مجموعات نشأت ونمت وتطورت على مدى العقود الأربعة الماضية، وكان لكل من تعاقب على مواقع السلطة والنفوذ في الصين حجم او حصة او جناح فيها الى ان اصبحت هذه المجموعات عبارة عن خليط لتبادل المصالح والمنافع المشتركة بين أربابها وأسياد المال والأعمال في الصين وفي خارجها.
قبل الختام سؤال: هل يستطيع الرئيس الصيني المضي في طريق القبض على كل السلطات بما فيها “السلطات الاقتصادية” وبما يعني الصدام مع مجموعات الضغط؟
وماذا لو تصدت المجموعات إياها لسياسة ”وضع اليد” عليها؟
في الختام قولان مأثوران من الصين:
ـ الأول تمثله مجموعات الضغط الاقتصادية “الأعمى يرى المال والأطرش يسمع رنين الذهب” وقد تظاهر أتباع هذا القول في الشوارع وقد يتظاهرون مجدداً.
ـ الثاني يمثله الرئيس شي جين بينغ “كل أرض تحت السماء هي أرض الملك وكل موارد الأرض في خدمة الملك”، وهذا ما يعمل عليه الرئيس شي جين بينغ ومعه الجيش والشرطة.
ربما السؤال المطروح على الصين الآن وبعد الآن: لمن ستكون الغلبة: للذهب أم لإمبراطور الصين الجديد؟.
* كاتب لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.