الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سفراء إسرائيل لدى الأمم المتحدة وإهانة المجتمع الدولي – من ‘هيرتزوغ’ إلى ‘إردان’

عبد الحميد صيام *

وكأن التاريخ يعيد نفسه في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 وقف السفير الإسرائيلي حاييم هيرتزوغ، على منصة الجمعية العامة أمام المجتمع الدولي، ومزق قرارا اتخذته الجمعية العامة للتو، يعتبر الصهيونية حركة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري. وقف هيرتزوغ خلف المنصة وعيناه تلمعان غضبا وأوداجه منتفخة ومظاهر الحنق واضحة على محياه، وقال إن 72 دولة صوتت لصالح القرار عبارة عن ثلة من الكذابين والأنظمة الديكتاتورية. «بالنسبة لنا، الشعب اليهودي، هذه ليست أكثر من قطعة من الورق وسنعاملها على هذا النحو» وقام بتمزيق القرار ونثره بكل صفاقة وعاد إلى مقعده.

ويوم الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وقف السفير الإسرائيلي الجديد “جلعاد إردان” وهو يمسك تقرير حقوق الإنسان الصادر وذكـّر الحاضرين بما فعله سلفه هيرتزوغ بتمزيق قرار «الصهيونية حركة عنصرية». وقال مستذكرا تلك الحادثة «في هذه الهيئة بالذات ومن على هذه المنصة، قام سفير إسرائيل في ذلك الوقت، حاييم هيرتزوغ بتمزيق قرار اتهام الصهيونية بأنها حركة عنصرية أمام الحضور في قاعة الجمعية العامة بالأمم المتحدة. وهذا بالضبط ما ينبغي عمله لهذا التقرير المعادي للسامية، والمشوه، والأحادي الجانب». وأضاف: «يجب ألا يكون للانحياز المهووس لمجلس حقوق الإنسان ضد إسرائيل، الذي يجسده هذا التقرير، مرة أخرى، مكان في أي هيئة معنية بحقوق الإنسان، إلا سلة المهملات وسأتعامل معه بالطريقة نفسها». وقام بتقطيع الجزء من التقرير المخصص لانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس، ورماه بعد أن أهانهم جميعا حيث قال: «عار عليكم عار عليك عار عليكم».

ما بين التاريخين كم تطاول المندوبون الإسرائيليون على المجتمع الدولي والأمم المتحدة، السفير السابق داني دانون، زوّر التاريخ أمام عيون العالم، وعمل معرضا عن القدس في 8 آذار/ مارس 2018 ووضع تحت قبة الصخرة المشرفة عنوان المعرض: «القدس 3000 سنة من الوجود اليهودي»!. وقد افتتح المعرض بنيامين نتنياهو، الذي قال في كلمة قصيرة أمام جمهور صغير جداً معظمهم من الصحافيين ورجال الأمن «إن المعرض يبرز الحقيقة بشأن القدس الذي يريد البعض محوها». في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016، أصيب السفير الإسرائيلي “داني دانون” بالإحباط والقهر، إثر اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار 2334 (2016) الذي يطالب بوقف كل أشكال الاستيطان ويعتبر الاستيطان انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي. فما كان من دانون إلا أن طلب الكلمة، ورفع نسخة من التوراة قائلا: «الدولة اليهودية ستستمر في استعادة أرض أجدادنا»!. كما قال، إن لديه «طابو من الرب يمنح ملكية حصرية لليهود في أرض إسرائيل»! أي فلسطين. وتعهد دانون وهو ممسك بالتوراة قائلاً: «لدينا ثقة كاملة في عدالة قضيتنا.. سنظل دولة يهودية تستعيد بفخر أرض أجدادنا، حيث حكم الملك داود من القدس»!. هذه نماذج عن الاستهتار الذي تتعامل به إسرائيل مع المجتمع الدولي، بدون أي اعتبار لبروتوكولات التعامل الدبلوماسي والتصرف الحضاري المقبول. فهذا الكيان، بخلاف 192 دولة، يعتبر نفسه فوق القانون وما ينطبق على بقية الدول لا ينطبق عليه.

الفرق بين زمنين:

إسرائيل لم تتغير، بل زادت وحشية في عدوانها على الفلسطينيين والعرب. فما الفرق بين تمزيق قرار 1975 أيام هيرتزوغ وتمزيق تقرير 2021 أيام إردان؟ الحقيقة المرة هي أن الفرق في الحضور العربي ودوره وفاعليته. في عام 1975 صعد السفير السعودي (اللبناني المسيحي) جميل البارودي وألقى كلمة قوية هزأ فيها السفير الإسرائيلي، وهزأ معه سفير الولايات المتحدة آنذاك، باتريك موينهان، الذي انتصر للموقف الإسرائيلي، وقال مخاطباً السفير الإسرائيلي: «تتهم 72 دولة بالكذب… لو قلت هذا في بلادنا فستجر للمحكمة لإثبات الكذب أو دخول السجن». ثم خاطب موينهان قائلاً: «إذهب ونظف شارع الـ42 (كان شارع المخدرات والإباحية) قبل أن تتهم هذه الدول بالقذارة». وكان يومها الدكتور والأكاديمي المشهور “فايز الصايغ” مستشار البعثة الكويتية، الذي صعد المنصة وألقى كلمة بليغة ومنطقية ورصينة حول الصهيونية، ولبلاغتها نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» كاملة في اليوم التالي. كانت المجموعة العربية موحدة وقوية وفاعلة، تخرج من القاعة عندما يلقي المسؤول الإسرائيلي كلمته، ويخرج معها العديد من الوفود، فتبدو القاعة شبه فارغة. فبعد رئاسة عبد العزيز بوتفليقة للجمعية العامة في دورتها التاسعة والعشرين عام 1974 وإدخال منظمة التحرير الفلسطينية كعضو مراقب في الأمم المتحدة واستقبال ياسر عرفات في قاعة الجمعية العامة، وإلقاء كلمة فلسطين لأول مرة، واعتماد القرار 3236 الذي يتحدث عن حقوق الشعب الفلسطيني بالتفصيل، بما فيها حق مقاومة الاحتلال، تابعت المجموعة العربية في الدورة الثلاثين 1975 هجومها الشامل دبلوماسياً، فاعتمدت قرار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، الذي أصاب الصهيونية في مقتل بوصف العقيدة الصهيونية بالعنصرية، وهو ما كان أشبه بالزلزال. وقد أقرت إسرائيل والمنظمات الصهيونية خطة شاملة لإلغاء هذا القرار مهما كلف الثمن. وقد حدث ذلك بعد غزو العراق للكويت عام 1991. كانت المجموعة العربية تصول وتجول بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر في الأمم المتحدة مدعومة بالكتلة الاشتراكية ومجموعة دول عدم الانحياز والمجموعة الافريقية ما عدا جنوب افريقيا العنصرية ومجموعة المؤتمر الإسلامي. في تلك المرحلة (1974-1980) استطاع العرب أن يدخلوا اللغة العربية لغة رسمية سادسة في منظومة الأمم المتحدة، وأدخلوا منظمة التحرير عضواً مراقباً، وأنشأوا قسما خاصا في قسم الشؤون السياسية في الأمانة العامة، تحت عنوان «قسم حقوق الشعب الفلسطيني» وأنشأوا لجنة دولية لمتابعة انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما أنشأوا وحدة إعلامية للتعريف بالقضية الفلسطينية، ما زالت قائمة حتى الآن، لكنها هزلت كثيراً وأصبحت أقرب إلى منبر للتطبيع الفلسطيني الإسرائيلي. في تلك المرحلة اعتمد مجلس الأمن الدولي عددا من القرارات المهمة التي تتعلق بالأوضاع داخل فلسطين المحتلة والانتهاكات الإسرائيلية مثل قرار لا شرعية المستوطنات وقرارات تتعلق بالقدس واعتبار كل التغييرات الثقافية والديموغرافية، باطلة لا قيمة قانونية لها. كما اعتمدت الجمعية العامة سلة من القرارات المهمة جدا حول حقوق الشعب الفلسطيني ومصادره الطبيعية وتقديم الدعم له وحماية تراثه. تغيرت الدنيا وضعف العرب الذين تنازعوا فذهبت ريحهم بعد الانقسامات والشروخ التي حدثت ابتداءً من اتفاقيات كامب ديفيد 1979 وصولا إلى احتلال العراق للكويت (1990) وتوقيع اتفاقيتي أوسلو (1993) ووادي عربة (1994) وصولا إلى اتفاقيات إبراهيم للتطبيع (2020). فهل نلوم إلا أنفسنا؟

التقرير الموجع:

في بداية كلمته، قال السفير إردان: «منذ إنشاء هذا المجلس قبل 15 عاماً، وهو يوجه اللوم والإدانة لنا، ليس 10 مرات مثل إيران، أو 35 مرة مثل سوريا، بل 95 مرة مقارنة مع 142 قرارا لبقية الدول مجتمعة». لكن لم يسأل نفسه السفير لماذا هذا الكم من الإدانات. وهل هناك دولة في العالم تنتهك حقوق الإنسان لشعب آخر يخضع للاحتلال، إلا هذا الكيان المارق. فالاحتلال نفسه المخالف للقانون الدولي هو أكبر جريمة حرب تدين الكيان الصهيوني وتجعل منه عرضة للمساءلة في كل تفاصيل تصرفاته. فانتهاكات إسرائيل لكل بنود اتفاقية جنيف الرابعة المعنية بمعاملة المدنيين أيام الحرب والاحتلال، والاتفاقية الثالثة المعنية بمعاملة الأسرى تملأ مجلدات. على العكس من ذلك فالمجتمع الدولي أصبح في كثير من الأحيان يتردد في اعتماد قرار جديد يدين انتهاكات إسرائيل. ولا أدل على ذلك من أن مجلس الأمن لم يعتمد إلا قرارين منذ عام 2009 وأربع حروب. قرار 1860 (2009) لوقف الحرب على غزة وقرار 2334 (2016) المذكور أعلاه حول الاستيطان. والتقرير الذي صدر عن مجلس حقوق الإنسان ليس مخصصا لإسرائيل، بل هو تقرير سنوي يقدمه المجلس للجمعية العامة عن حالة حقوق الإنسان في العالم. فهو يقدم ملخصاً لانتهاكات حقوق الإنسان في أكثر من 300 صفحة، ويشمل عدداً كبيراً من الدول، وكذلك يستعرض دورات مجلس حقوق الإنسان العادية والاستثنائية والقرارات التي اعتمدت ومدى الالتزام بها. ويرد موضوع انتهاكات الكيان الصهيوني تحت أربعة عناوين:

– حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس والالتزام بنظام المساءلة والعدالة، ويستغرق نحو ست صفحات.

– المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية والجولان المحتل، في نحو سبع صفحات.

– حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في ثلاث صفحات.

– ضمان احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وفي إسرائيل، في نحو أربع صفحات.

وفي رأينا أهم ما جاء في هذا الاستعراض وهذه القرارات موضوع المساءلة، وهو ما تخشاه إسرائيل لأن هذه التقارير ما جاء فيها تثبت بلا شك تورط إسرائيل في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فكيف ستنجو من العقاب وكل هذا الكم من الوثائق والحوادث المفصلة صادرة عن سلطة مرجعية وتتمتع بمصداقية عالية مثل مجلس حقوق الإنسان. فهل من يستفيد من هذه التقارير لتعزيز المحاججات والمرافعات أمام محكمة الجنائيات الدولية؟ لهذا نفهم رد فعل السفير المنفلت من كل عقال أدبي أو دبلوماسي.

* كاتب فلسطيني ومحاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.