الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فليقرأ العرب كتاب ’إنديك‘ عن كيسنجر

محمد المنشاوي *

قبل أن يتاح للجمهور يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر 2021، وصلتني نسخة من كتاب “مارتن إنديك” الجديد عن هنري كيسنجر ودوره فى المفاوضات التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. ومن بين مئات الكتب التي تناولت دور وإرث وسجل كيسنجر، ينفرد هذا الكتاب بالتركيز على تفاصيل مهمة كيسنجر عقب الحرب والتي أفضت إلى بناء آلية لعملية سلام الشرق الأوسط استمرت لعدة عقود.

ويعد كيسنجر من أكثر الشخصيات تأثيراً فى تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية فى النصف الثانى من القرن الـ20، والتي كان لها تأثير واسع على الشأن المصري والعربي والعالمي.

تناول ’إنديك‘ فى كتابه «سيد اللعبة.. كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط» (Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy)، تفاصيل هامة أتاحها له القدرة على الاطلاع على آلاف الوثائق التي رفعت عنها السرية من الأرشيف الأمريكي والإسرائيلي، ومقابلات واسعة ومتكررة مع كيسنجر نفسه، فضلا عن لقاءات جمعت الكاتب بكبار مسئولي ملفات عملية السلام فى الدول المعنية.

جدير بالذكر أن إنديك شغل سابقاً منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل مرتين، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى والمبعوث الأمريكي الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية.

  • ••

يعيد إنديك القارئ إلى السبعينيات، حين أجرى كيسنجر مفاوضاته مع أنور السادات، وجولدا مائير، وحافظ الأسد، وحسين بن طلال، وفيصل بن عبدالعزيز آل سعود، ليسرد بالتفصيل الطريقة التي تمكن بها من المناورة مع قادة الشرق الأوسط نحو السلام.

ويرى إنديك أن كيسنجر نجح فى التوصل إلى 3 اتفاقيات- اثنتان بين مصر وإسرائيل، وواحدة بين إسرائيل وسوريا عقب حرب تشرين الأول/ أكتوبر- وإنهاء الحرب. ويرى كيسنجر أن الاتفاق بين إسرائيل وسوريا حافظَ على السلام فى مرتفعات الجولان لمدة 40 عاماً، ومهد اتفاقاً ضد الاشتباك لإخراج مصر من الصراع مع إسرائيل، وأرسى الأسس لمعاهدة سلام بين البلدين.

ولعب كيسنجر عقب حرب تشرين الأول/ أكتوبر دوراً رئيساً ممهداً لعملية سلام الشرق الأوسط، وسيطرة واشنطن على مساراتها وطبيعتها ونتائجها.

وينقل الكتاب عن كيسنجر قوله إن «السلام فى الشرق الأوسط كان مشكلة وليس حلاً، والرغبة فى السلام تحتاج إلى إيجاد نظام مستقر فى هذا الجزء الشديد التقلب من العالم».

  • ••

وفى الوقت الذى عانت فيه الولايات المتحدة من تبعات تدخلها المكلف فى فيتنام من ناحية، ومن ناحية أخرى تدهور مكانة ريتشارد نيكسون وتركيزه بسبب فضيحة ووترجيت، استخدم كيسنجر دبلوماسيته الماهرة لتهميش الاتحاد السوفيتي فى خضم الحرب الباردة وبناء نظام شرق أوسطي بقيادة الولايات المتحدة.

وبدلاً من محاولة حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بضربة واحدة، كما كان يأمل جيمي كارتر وبيل كلينتون لاحقاً، كتب ’إنديك‘ أن وساطة كيسنجر لوقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاقيات محدودة مؤقتة كانت أسلوباً حكيماً، لأنها حافظت على استقرار هش من دون أن تهدف إلى الكثير.

يؤكد إنديك أن «الواقعية الكيسنجرية» هي الحل لمعضلة السياسة الخارجية الليبرالية الطموح، ويقول إن «التدرج الواقعي لكيسنجر وفر طريقاً وسطاً بين الطموح فى السلام الشامل من جانب، واليأس والجمود وبقاء الأوضاع كما هي عليه. وآمن كيسنجر بأن الطريق نحو السلام لا بد أن يبقى تدريجياً وبطيئاً، وقد يكون غير متكافئ فى كثير من الحالات».

ويوضح الكتاب أن كيسنجر آمن بأن السلام سيتحقق عندما يستنفد العالم العربي كل البدائل، ويعتاد مع مرور الوقت وجود إسرائيل. ومن خلال اختيار عملية تدريجية، بدلاً من الاندفاع السريع نحو تسوية شاملة، قدمت دبلوماسية كيسنجر اعتماداً على طريق طويل نحو السلام. وفى غضون ذلك، كان الهدف هو الاستقرار، وتجنب أي شيء يمكن أن يعكر صفو عملية السلام مع تعليم الطرفين الصبر وبناء بعض الثقة المتبادلة.

  • ••

يُفصل الكتاب ما عده كيسنجر مناورة ومبادرة جادة قام بها أنور السادات، ولم تلتفت إليها واشنطن إلا متأخرا، فقد أرسل مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل إلى واشنطن فى شباط/ فبراير 1973 حاملاً مبادرة للسلام.

قابل كيسنجر إسماعيل واستمع إليه، وأجل الرد من دون جدية ومن دون استعجال على الرغم من تأكيد إسماعيل على ذلك.

عرض كيسنجر الفكرة على نيكسون، ثم ناقش الأمر مع السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، إسحاق بيريز، الذى قلل من أهميتها ورَفَضَها، كما فعلت جولدا مائير التي قضت على المبادرة، وقالت «انسوها».

وتعهد كيسنجر بالعودة للمبادرة بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي كانت مقررة فى ديسمبر، لكن السادات ذهب إلى الحرب فى تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه.

وقبل ذلك، فاجأ الرئيس المصري العالم بقرار طرد 20 ألفاً من الخبراء السوفييت من مصر يوم 18 تموز/ يوليو 1972، وكان رد الفعل الأمريكي دليلاً كافياً للتعرف على أهمية هذه الخطوة وخطورتها، فقد قال كيسنجر «لو اتصل الرئيس السادات تليفونياً بواشنطن وطلب أي شيء قبل طرد الخبراء من مصر، لكان حصل على ما أراد، إلا أنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجاناً».

ولكن الكتاب يشير إلى أن السادات اعتمد على حسابات مختلفة، ورأى أن التخلص من الخبراء كفيل بتحريره من عبء موافقة الاتحاد السوفيتي على أي عمل عسكري فى المستقبل.

ويقول إنديك متحدثا عن كيسنجر «تصورنا أن السادات غبي، ولا يمكن له القيام بشيء ذي قيمة، ولم يكن الأمر كذلك».

  • ••

ويوضح إنديك أن تجربة كيسنجر المبكرة أثناء فراره من ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية جعلته يشعر بخيبة الأمل إزاء «المثالية الويلسونية التي سعت إلى السلام لإنهاء جميع الحروب»، وهذا ما دفعه إلى التعامل مع ملف عملية السلام بحذر وتشكك كبير.

فى الوقت ذاته، كان من المعروف عن الرئيس ريتشارد نيكسون ميوله المعادية للسامية، وحساسيته من يهودية كيسنجر، ولم يعهد إليه بملف العلاقات العربية الإسرائيلية إلا فى السنوات الأخيرة من حكمه، ولم يشرف كيسنجر على ملف الشرق الأوسط إلا قبل اندلاع حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

وحاول كيسنجر تاريخياً، وخلال المفاوضات، حفظ سلامة إسرائيل وأمنها فى وقت عد فيه القادة الإسرائيليون وجوده فى دائرة صنع القرار الأمريكي كفيلاً بحماية مصالحهم لأنه يهودي، أما القادة العرب فاعتقدوا أن يهودية كيسنجر كفيلة بنيله ثقة إسرائيل، وهو ما سيدفعها إلى قبول تنازلات كبيرة.

وبين هذا وذاك، استغل كيسنجر رؤية الأطراف له لتحقيق ما رآه مصلحة أمريكية، والتي أراها تتطابق مع مصالح إسرائيل فى هذا الصراع الطويل.

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشئون الأمريكية

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.