الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ثنائية الحكم فى السودان

عبد الله السناوي *

إلى أين من هنا فى الأزمة السودانية المتفاقمة؟

بأي سيناريو ممكن تصعب العودة إلى شراكة السلطة بين المكونين المدني والعسكري على الصورة التي كانت عليها قبل فضها بالقوة بإعلان الطوارئ وحل مؤسسات المرحلة الانتقالية واحتجاز أعداد كبيرة من الوزراء والسياسيين.

الشراكة مسألة توازن فى القوة لا مسألة عطف وإحسان.

عندما يغيب التوازن تتقوض فكرة الشراكة كلها.

وقد كانت مليونية (30) تشرين الأول/ أكتوبر، بأعدادها واتساع نطاقها، رسالة قوية أن العودة إلى الماضي شبه مستحيلة، وأن مدنية الدولة خيار أخير.

إذا ما أخذت الإضرابات والاعتصامات مدى يقارب العصيان المدني فإن التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة يصبح ممكنا ويكتسب استئناف الحوار بين المكونين المدني والعسكري دون شروط مسبقة جدواه وواقعيته..

هناك الآن ميل دولي متواتر ومتصاعد للبحث عن صيغة عملية لإنهاء الأزمة بين المكونين المدني والعسكري دون أضرار كبيرة تلحق بمصالحها فى ذلك البلد العربي والإفريقي الجوهري.

بقوة الحقائق على الأرض قبل الضغوطات الدولية يكتسب هذا السيناريو مداه الواقعي.

القضية ليست أن يعود أو لا يعود رئيس الحكومة المقال «عبدالله حمدوك»، إذا لم تتوافر عناصر الشراكة الحقيقية فى بنية صنع القرار.

هناك فارق جوهري بين شراكة الإذعان وشراكة الأنداد.

بإرث التاريخ فإن الصدام بين المدنيين والعسكريين ليس جديداً، ولا مستغرباً.

التاريخ ماثل فى المشهد المأزوم، لكنه لا يعيد نفسه، فهناك أحوال جديدة وحسابات مختلفة لموازين القوى والضغوطات الدولية لا يمكن تجنب كلمتها.

على مدى خمس وستين سنة تعاقبت على الحكم تجارب مدنية باسم الديمقراطية والتعددية تتلوها انقلابات عسكرية باسم الأمن والاستقرار، قبل العودة مرة أخرى إلى تجارب مدنية جديدة تلقى المصير نفسه.. كأننا أمام باب دوار جيئة وذهابا ــ كما يقول السودانيون.

لم يقدر للحكم المدني الأول، الذى أعقب إعلان الاستقلال مطلع عام (1956)، أن يستمر لأكثر من عامين على خلفية صراعات حزبية وطائفية استدعت الانقلاب الأول بقيادة الفريق «إبراهيم عبود».

جرت وقائع الانقلاب الأول بإيعاز من رئيس الحكومة المدنية «عبدالله خليل» لقائد الجيش أن يستلم السلطة ــ حسب شهادات ووثائق سودانية ثابتة.

كان ذلك دليلا على هشاشة البنية السياسية التي أعقبت الاستقلال وغياب أية قواعد حديثة فى إدارة الشأن العام.

بعد ست سنوات تقوض حكم الفريق «عبود» بانتفاضة شعبية واستلمت السلطة حكومة انتقالية مدنية شكلتها جبهة «الهيئات». كان ذلك عام (1964).

امتد الحكم المدني الثانى لست سنوات أخرى انتهت بانقلاب عسكري ثانٍ بقيادة العقيد «جعفر النميري» عام (1969).

كان التخبط السياسي وتغيير الحكومات على فترات قصيرة متعاقبة أحد المحركات الرئيسية لانقلاب «نميري»، الذى أزاح «الديمقراطية الثانية» بتحالف مع قوى سياسية يسارية وقومية قبل أن ينقض عليها وينقل دفة تحالفاته إلى التيارات الإسلامية.

كانت قمة المأساة انتقال حلفاء الأمس إلى الصدام المفتوح وإعدام رفاق سابقين على خلفية محاولة انقلاب فاشلة ضده عام (1971).

بعد ستة عشر عاما انقضى عهد «نميري» بانتفاضة شعبية ثانية أفضت إلى انقلاب ثالث عام (1985) قاده وزير الدفاع «عبد الرحمن سوار الذهب»، الذى قرر من اللحظة الأولى اختصار المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة.

لم تنجح «الديمقراطية الثالثة» فى ترسيخ دولة القانون والمؤسسات وحل معضلات المجتمع السوداني بكل تنوعه العرقي واحتياجاته المعيشية.

بانقلاب رابع وصل العميد «عمر البشير» إلى السلطة عام (1989) برعاية وتخطيط وتنفيذ «الجبهة الإسلامية القومية» التي يتزعمها «حسن الترابي».

على عكس الانقلابات السابقة حاول الانقلاب الرابع إخفاء هويته، اعتقل «الترابي» للتمويه حتى تصورت السلطات فى مصر على عهد «حسنى مبارك» أن الانقلاب قريب منها فسارعت بتأييده!

بعد عشر سنوات أطاح «البشير» براعيه ونكل به، لكنه حافظ على الهوية الأيديولوجية للنظام بقدر ما تسمح مصالحه.

بين الأسباب، التي سمحت بنجاح انقلاب «البشير»، التخبط السياسي فى الحكومات التي تعاقبت فى مدى زمنى ضيق بأكثر مما هو طبيعي بين عامي (1985 ــ 1989).

فى المراوحة بين نظم حكم مدنية لم تستقر قواعدها ولا ترسخت أصولها الديمقراطية ولا أضفيت عليها نظرة حديثة ونظم عسكرية تعددت انقلاباتها فى أزمان مختلفة بتوجهات متناقضة وتكرر فشلها يتبدى حجم الأزمة السودانية الحالية.

قبل إطاحة «البشير» أخذ العمل الشعبي الاحتجاجي مدى غير مسبوق، لكنه لم يكن بوسعه حسم سؤال السلطة بمفرده.

طرحت للمرة الأولى فى التاريخ السوداني مسألة «الشراكة» بين المدنيين والعسكريين كمرحلة انتقالية إثر الانقلاب الخامس على «البشير» تمهيدا لنقل السلطة كاملة لحكومة مدنية منتخبة، كما تردد وقتها كحلم فى المتناول.

كانت شراكة السلطة الانتقالية عملاً إجبارياً فرضته اعتبارات وتوازنات القوى أكثر من أن يكون اختياراً حراً.

كان أحد السيناريوهات الرئيسية، التي طرحت نفسها مبكرا، تبنى خيار الفريق «عبد الرحمن سوار الذهب»، باختصار المرحلة الانتقالية قبل انتخاب حكومة مدنية بأسرع وقت ممكن.

استبعد ذلك الخيار بذريعة أن مهام المرحلة الانتقالية تتطلب وقتا أطول، ومالت قوى «الحرية والتغيير»، قاطرة ثورة ديسمبر (2019)، إلى أن تمديدها يساعد على تكريس نفوذها السياسي وكسب الانتخابات النيابية عندما يحين وقتها.

كان ذلك رهاناً خاطئاً، فقد دبت داخلها الصراعات التي وظفت لضرب فكرة الثورة نفسها وخَفَّ بالوقت وزنها السياسي فى الشارع تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

لم تكن الحقائق الأساسية خافية على أحد عند خط البداية، فقد اضطرت «قوى الحرية والتغيير» إلى طلب مهلة يومين إضافيين حتى تعدل بالحذف والإضافة فى قائمة ممثليها لمجلس السيادة، حيث امتلكت بعض أطرافها حق الفيتو على أسماء بعينها، أو على تجاوز القواعد المتفق عليها فى الاختيار.

لم يتسق ذلك الخيار مع مبدأ رفض المحاصصة الحزبية والجهوية وأن يقتصر الاختيار على الكفاءة وحدها.

لاعتبارات عملية كان ذلك شبه مستحيل فى أوضاع تحكمها الجهويات والصراعات المعلنة والمكتومة.

لم يكن يحق لأحد من قيادات «الحرية والتغيير»، أو «تجمع المهنيين»، حسبما اتفق وأعلن، أن يتولى أي موقع تنفيذي، سيادي أو وزاري، خلال المرحلة الانتقالية تجنبا لأية مشاحنات حزبية، أو أن تفتقد التحالفات تماسكها وقدرتها على الإشراف العام على مدى الالتزام بنصوص الوثيقة الدستورية، وقد كانت تلك مفارقة فى بنية السلطة الجديدة.

طول المرحلة الانتقالية، كما تشققات قوة «الحرية والتغيير»، أفضت إلى اختلال التوازن بين المكونين المدني والعسكري.

لم يكن العسكريون على استعداد لنقل رئاسة المجلس السيادي إلى المدنيين، ولم يكن المدنيون قادرين على فرض كلمتهم.

هكذا جرت الإطاحة بالانتقال الديمقراطي باسم إصلاح المسار.

لم تكن ردة الفعل الشعبية الغاضبة تعبيراً عن قوة حضور «الحرية والتغيير» ولا مدى شعبية رئيس الحكومة المدنية «عبدالله حمدوك» بقدر ما كانت انعكاساً حقيقياً لإرادة عامة ترفض العودة إلى الماضي بعد كل الأحلام التي حلقت والتضحيات التي بذلت.

هذه هي الحقيقة الكبرى فى الأزمة السودانية.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.