الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

دومينو الشرق الأوسط: حروب المياه(1/3)

عبد الحسين شعبان *

حروبٌ متى تنفجر؟

يحتفل العالم سنوياً منذ العام 1993 بيوم المياه العالمي، حيث تم اختيار يوم 22 آذار/مارس سنوياً ليكون مناسبة لجذب الانتباه إلى أهمية المياه العذبة والدعوة إلى الإدارة المستدامة لموارد المياه في العالم.  

في ضوء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بيوم المياه العالمي (22 كانون الأول/ديسمبر 1992)، وعلى خلفيته قرّر المجلس الوزاري العربي للمياه في دورته الأولى المنعقدة في الجزائر في العام 2009 تحديد الثالث من آذار/مارس من كل عام للاحتفال باليوم العربي للمياه.

وإذا كانت الحروب وأعمال الإرهاب والعنف والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية، هي التي تتصدّر المشهد السياسي، لكن المياه قد تكون أكثر خطورة في اندلاع الحروب وتأجيج الصراعات وإشعال النزاعات، خصوصاً بازدياد الطلب عليها في ظلّ النمو السكاني المتصاعد وارتفاع درجة الاحتباس الحراري، فضلاً عن شحّ المصادر ونسب الهدر العالية التي يعاني منها العديد من دول العالم، ناهيك عن الجفاف والتصحّر وغير ذلك.

وإذا لم يعانِ العالم حتى مطلع الخمسينيات الماضية من مشكلة شحّ المياه إلّا على نحو محدود جداً ولعدد لا يتجاوز أصابع اليد من البلدان، فإن أكثر من 26 بلداً بما فيها بلدان الشرق الأوسط تعاني اليوم من ظاهرة شحّ المياه الذي أصبح سلعة استراتيجية تتجاوز أهميتها النفط والغذاء. ويعود السبب إما إلى فجوة الموارد المائية أولاً، والمقصود بذلك الطبيعية، ولا سيّما السطحية والجوفية والصناعية (التحلية والمعالجة)، وثانياً إن متوسط نصيب الفرد من المياه العذبة سنوياً لا يمكن تأمينه، حيث يقدّر بنحو 1000 متر مكعب وهو المعدّل المتوسط؛ ويضاف إلى ذلك أن الماء أصبح سلاحاً فعّالاً في الصراع الدولي، وله أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وجغرافية وجيوسياسية وصحية وبيئية.

أولاً- الأمن المائي:

1- الحق في الماء: أصبح الاهتمام بمسألة المياه عالمياً بفعل ندرتها أولاً، ومن ثم زيادة نسبة التصحّر والتلوث والتغييرات المناخية والبيئة ثانياً، فضلاً عن محاولات تسييسها واستغلالها اقتصادياً ثالثاً، وذلك من خلال الاستقواء بها على حساب الآخرين، ولهذا عمدت الأمم المتّحدة إلى إيلاء اهتمام كبير بها، خصوصاً وقد أدركت يوماً بعد يوم خطورة شحّ المياه على المستوى العالمي، حيث تفيد دراسات معتمدة من جانبها إلى أن 1.5 مليار نسمة يعانون من عدم وجود مياه صالحة للشرب وأن نحو 3 مليارات نسمة آخرين ليس لديهم نظام صرف صحي، وأن ما يزيد عن 35 ألف شخص يموتون يومياً نتيجة النقص الفادح في المياه أو بسبب استخدامهم لمياه ملوثة أو غير صالحة للشرب.

كما تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن 5.3 مليار نسمة، أي ما يعادل ثلثي سكان العالم سيواجهون نقصاً فادحاً في المياه، بعد نحو عقد من الزمان، لا سيّما في ظل التوزيع غير العادل للمياه بما فيه من كميات الأمطار وازدياد السكان، حيث تقدّر نسبة الزيادة سنوياً نحو 90 مليون نسمة وارتفاع نسبة استهلاك المياه، وفي الوقت نفسه سوء استخداماته، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وارتفاع نسبة الاحتباس الحراري وزيادة نسبة مياه البحار.

باختصار يعتبر الماء سلعة تجارية نادرة، ولعلّ هذا ينطوي على مخاطر شديدة على الصحة والأمن والمستقبل، فضلاً عن انعكاساته على التنمية، ناهيكم عن أن نسبة 2.5% إلى 3% من كميات المياه في العالم هي مياه صالحة للشرب وهي نسبة ضئيلة جداً وتشحّ باستمرار، كما أنها في تناقص منذ قرن من الزمان، على الرغم من بناء السدود والخزانات والتقدّم العلمي والتكنولوجي ووجود اتفاقيات دولية لتنظيم استخداماته من دول المنبع وصولاً إلى دول المصب أو على الصعيد  الداخلي.

ولعلّ الحق في المياه هو حق من حقوق الإنسان، وهو حق جماعي وحق فردي في الآن ذاته، أي حق كل فرد في الحصول على مياه نقية وبكمية مناسبة، كما أن حقه في الصرف الصحيّ، هو الآخر لا يمكن الاستغناء عنه، الأمر الذي يحتاج إلى تنسيق أفضل على مستوى الموارد الخاصة بالطاقة مثل النفط والغاز والكهرباء وغيرها، فضلاً عن الحوكمة الرشيدة.

وجاء في القرآن الكريم: “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ[1]“، وهذا ما يؤكد أن الماء هو مهد الحياة والحضارة الإنسانية، وهو مكوّن لا غنى عنه لجميع الكائنات الحية، وهو في الوقت نفسه منتج الثروات ومطهّر الأجسام وملهم الإنسان، لا سيّما بالعلوم والفنون والآداب، ودائما ما تقام الحضارات والمدن على ضفاف الأنهار وبالقرب من سواحل البحار والبحيرات وتقوم على تنظيم استخدامه قوانين وأعراف وتفصل في نزاعاته محاكم وقضاء.

2- الماء والحياة: إن إلقاء نظرة سريعة على الأرقام المتعلّقة بالمياه العذبة، كافية لأن تؤكد لنا حجم المخاوف الحقيقية على مستقبل الإنسانية، فكم هي شحيحة ومتناقصة لدرجة تثير قلقاً مستمراً، فالمياه العذبة لا تمثل أكثر من 3% من مجمل المياه الموجودة في العالم، فنحو 77.6% من هذه النسبة على هيئة جليد، و21.8% مياه جوفية، والكمية المتبقيّة لا تتجاوز 0.6% هي المسؤولة عن تلبية احتياجات أكثر من سبعة مليارات من البشر في كل ما يتعلّق بالنشاط الزراعي والصناعي وسائر الاحتياجات الحياتية. وإذا كان مثل هذا الأمر على النطاق العالمي، فإن أزمة المياه ترتبط على نحو مباشر بقضايا الحروب والسلام والحقوق والتنمية في منطقة الشرق الأوسط[2].

وتبلغ مساحة العالم العربي عُشر مساحة اليابسة، إلّا أنه لا يحتوي إلّا على أقل من 1% فقط من كل الجريان السطحي للمياه على المستوى العالمي، ونحو 2% من إجمالي كميّة الأمطار في العالم، ولذلك يعدّ من المناطق الفقيرة جداً في مصادر المياه العذبة، وهو ما ينعكس على مستوى التأمين المائي للفرد، والأمر لا يتعلّق ببلدان الخليج العربي فحسب، حيث الصحارى الواسعة، بل حتى في البلدان ذات الوفرة المائية قياساً بغيرها، بسبب انخفاض كمية المياه والشحّ الذي تعاني منه وقلّة كمية الأمطار والإدارة غير الرشيدة، فضلاً عن التحدّيات التي تواجهها البلدان العربية من دول الجوار العربي والاستثمار غير السليم من جانبها[3].

وعلى الرغم من أن أزمة الخليج الثانية والتي نجمت عن احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 والحرب التي تبعتها في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 وفيما بعد احتلال العراق في العام 2003 طغت على الاهتمامات السياسية الأخرى في الشرق الأوسط، إلاّ أن مشكلة المياه أو ما يطلق عليه “الأمن المائي والغذائي”، ظلّت إحدى الهواجس الكبرى المعلّقة والتي تراكمت خلال العقود الأخيرة، وليست ثمة مبالغة إذا اعتبرناها إحدى المعارك الصامتة والمحتدمة في آن، التي تشهدها المنطقة منذ عقود من الزمان ليس لاحتمال بلوغها مرحلة الصدام العسكري المسلح فحسب، بل بسبب أهميتها الاقتصادية وأبعادها السياسية والجغرافية الخطيرة وانعكاساتها على الأمن القومي العربي عموماً والأمن المائي والغذائي، وخصوصاً الأمن الإنساني بما له من تأثيرات لفرض النفوذ والهيمنة[4].

العرب وحروب المياه:

ظهرت مشكلة المياه إلى العلن، بل طفت إلى السطح على نحو سريع، وتفاقمت على مرّ السنين، حيث لم تحجبها أية معركة أخرى وظلت إحدى المشاكل المنذرة بحروب اقتصادية حقيقية، سواءً بمعناها السياسي أو الاجتماعي أو القانوني، فضلاً عن احتمال تطورها إلى نزاع مسلّح، خصوصاً بالارتباط مع الجوانب الأخرى المشار إليها. وهذه المشكلة تشمل الأنهار الرئيسية التالية: دجلة والفرات والنيل وبانياس والليطاني ونهر الأردن، إضافة إلى شط العرب وملحقاته والمياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويدخل في نطاقها الدول العربية التالية: العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر والسودان، وذلك ارتباطاً مع الدول المحيطة، لا سيّما تركيا وأثيوبيا وإيران، إضافة إلى “إسرائيل”[5].

وفيما يتعلق بمياه الأردن والمياه الجوفية ونهر الليطاني ومياه الجولان وبحيرة طبرية وغيرها فإن “إسرائيل” لا تزال مستمرة في مشاريعها في شفط أو تحويل بعضها واستثمارها لصالحها على حساب الأردن ولبنان وسكان البلاد الأصليين، الأمر الذي يتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين البلدان العربية التي تواجه مخاطر مائية، فضلاً عن أن مصيرها واحد.

إن التقديرات التي تقول بكون المياه إحدى الصراعات الموازية للصراعات القائمة، بل هي لغم غير موقوت يمكن أن ينفجر حتى دون إنذار، هي تقديرات سليمة، والإشكالية والمشكلة موجودتان وقائمتان، ولم تعودا كامنتين أو غير منظورتين، وهما تمتدان إلى جوهر الصراع في المنطقة ونعني به الصراع العربي- الصهيوني ولبّه القضية الفلسطينية، وإلى صراعات إرادات ومشاريع للقوى الإقليمية والدولية، فلتركيا مشروعها العثماني الأيديولوجي ولإيران مشروعها الفارسي الأيديولوجي، حتى وإن تغلّف المشروعان بمسحة سياسية أو نزعة طائفية أو دينية، لكنهما مشروعان قائمان، إضافة إلى المشروع الصهيوني الأكثر خطراً، خصوصاً بعلاقته العضوية بالمشاريع الإمبريالية القديمة والجديدة، بما فيها صفقة القرن الجديدة، في حين هناك غياب لمشروع عربي موحد، أو حتى لمشروع وطني على مستوى كل بلد عربي يمكن بالتنسيق مع المشاريع الوطنية العربية الأخرى أن يجد مشتركات إنسانية ومصالح متبادلة.

وقد تعاظمت إشكالية ومشكلة المياه منذ عقود من الزمان بين تركيا وسوريا والعراق، وكذلك بين العراق وإيران، إضافة إلى مشكلة نهر النيل بين أثيوبيا والسودان ومصر، والتي ازدادت خطراً بالتعاقدات “الإسرائيلية” – الإثيوبية لبناء سدود على نهر النيل؛ وكذلك باستمرار “إسرائيل” في الهيمنة على الجولان السوري ومحاولتها استغلال مياه نهر الليطاني اللبناني ومياه الأرض الفلسطينية المحتلة، وإقدام إيران على تحويل مياه نهر قارون وعدد آخر من فروع شط العرب إلى داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن تجدّد مشاكل شط العرب، بخصوص اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران الموقعة في 6 آذار (مارس) العام 1975، وأخيراً وليس آخراً محاولة بعض الدول الأفريقية، ولا سيّما أثيوبيا المستفيدة من منبع ومرور نهر النيل استغلاله، دون مراعاة مصالح  السودان وجنوبه بعد تأسيس جمهورية جنوب السودان، إضافة إلى القلق المصري المشروع من الأضرار التي قد تتسبب بالأمن المائي المصري، فضلاً عن الأمن المائي على المستوى العربي.

والمقصود بالأمن المائي القدرة الدائمة المستمرة في الحاضر والمستقبل، على توفير الماء غير الملوّث، الصالح للاستخدامات الإنسانية اللّازمة للحياة على أن تكون هذه القدرة، غير مشروطة أو مهدِّدة لطرف خارجي طبيعي أو صناعي، وبكميّات وطاقات تخزينية لمدة مناسبة للاستهلاك وبالقدرة على توفير خزانات محميّة سياسياً وأمنياً وعسكرياً[6]. ومثل هذا الأمر موضوع بالغ الحيوية والخطورة على قضية السلام في الشرق الأوسط.

ثانياً: “إسرائيل” من “الأسلحة في الحرب إلى المياه في السلام”

إذا قيل في الحرب العالمية الأولى “من يملك النفط يكسب المعركة”، وهو قول صحيح آنذاك، فيمكن القول إن “من يسيطر على مصادر المياه ويتحكّم فيها ويستثمرها هو الذي ستكون له اليد الطولى في الحرب المقبلة” لأن لا تنمية من غير مياه، ولا حياة صحيّة من دون ماء، ولذلك يمكن أن تكون المياه هي الشرارة التي سيشعل فتيلها من يتمكّن من وضع اليد عليها.

يتبيّن اهتمام “إسرائيل” بجميع قواها وكتلها السياسية المختلفة بالمياه وهو ما تضمّنه برنامج الليكود منذ وقت مبكر حول احتفاظه بالأراضي العربية المحتلة الذي كان يبرر أن نسبة تزيد على 50 % من مصادر المياه العذبة المستهلكة تأتي من الضفة، وتضمّنت برامج كتل أخرى فقرات مماثلة في انتخابات الكنيست لأكثر من مرة.

لم توفّر الحركة الصهيونية سبيلاً إلّا واستخدمته للاستيلاء على المياه العربية، وكان ثيودور هيرتزل الأب الروحي للحركة الصهيونية ومؤلف كتاب دولة اليهود[7] منذ العام 1885 قد كتب عن ضرورة ضم جنوب لبنان وجبل الشيخ . أما بن غوريون فقد أكّد في العام 1947 على ضرورة شمول سيطرة “إسرائيل” على منابع نهري الأردن والليطاني، إضافة إلى ثلوج جبل الشيخ واليرموك؛ وفي العام 1955 قال إن اليهود يخوضون معركة المياه مع العرب وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مستقبل “إسرائيل”.

وكان الدبلوماسي الإسرائيلي الذي أدار الموساد ديفيد كمحي قد وجه رسالة إلى وزير خارجية الولايات المتحدة جورج شولتز عقب توقيع اتفاقية 17 أيار (مايو) 1983 (الملغاة) مع لبنان اشتراط انسحاب “إسرائيل” بحصولها على حصة من مياه الجنوب اللبناني. وفي العام 1985 كتب شمعون بيريز في ما أطلق عليه “الشرق الأوسط الجديد”: “احتجنا إلى أسلحة في الحرب ونحتاج إلى مياه في السلام“[8] .

وقد دخلت “إسرائيل” موضوع المياه مباشرة من خلال المعركة التي بدأت في الستينيات الماضية حينما حاولت سوريا التفكير بتحويل نهر بانياس، الذي ينبع من سفوح الجولان (أحد روافد نهر الأردن) وقامت بإطلاق تهديد مباشر لسوريا إدراكاً منها لأهمية المياه على اقتصادها، الأمر الذي استدعى عقد القمة العربية الأولى عام 1964، وهي القمة العربية الأولى بعد قمة إنشاء الجامعة العربية التي التأمت في العام 1946.

ولإدراك “إسرائيل” أن الماء واحد من مصادر الطاقة الأساسية، فقد سعت إلى تهديد الأمن القومي العربي حيثما استطاعت باستخدام سلاح المياه في المعركة، سواءً كان مباشرة أو بصورة غير مباشرة، من خلال دول أخرى، وهكذا سارعت لتقديم خدماتها لأثيوبيا لإضعاف مصر وقامت عبر شركة “تاحال” بتقديم تصاميم ودراسات لبناء عدد من السدود على نهر النيل في أثيوبيا، وقد تحرّكت باتجاهين:

الأول– السعي لإعادة العلاقات الديبلوماسية مع العديد من الدول الإفريقية التي ظلّت مقطوعة منذ العام 1967 ونجحت في ذلك؛

والثاني– تزويد أثيوبيا بالسلاح لمواجهة “الثورة الإرتيرية” في حينها، وما أن نجحت هذه الأخيرة وحصلت أريتريا على الاستقلال، باشرت “إسرائيل” إلى إقامة أوثق العلاقات معها، علماً بأنه بين عام 1967 وعام 1973 أقدمت نحو 30 دولة أفريقية على قطع علاقاتها مع “إسرائيل” بسبب حروبها العدوانية ضد الشعب العربي الفلسطيني، لكنها بدأت باستعادة تلك العلاقات، بل تعويضها منذ أن وقّع السادات اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية الصلح المنفرد 1978-1979، وحتى أواسط الثمانينات استعادت “إسرائيل” جميع علاقاتها المقطوعة تقريباً، بما فيها مع الدول الاشتراكية السابقة (أواخر الثمانينيات)، بل حصلت على امتيازات باعتبارها “الدولة الأكثر رعاية” أو “حظوة”.

أما فيما يتعلّق بتركيا، فهي أول دولة إسلامية تعترف بـ”إسرائيل” منذ العام 1949، وتوطدت علاقتها معها، وخصوصاً في مجال المياه[9]. على الرغم من تدهور العلاقة لاحقاً، خصوصاً بعد حصار غزة وإعلان الحرب عليها 2008-2009، وفيما بعد مهاجمة “إسرائيل” “أسطول الحرية”، وقتل 9 من الأتراك كانوا ينقلون مساعدات إنسانية على ظهر السفينة “مرمرة”، واضطرار تركيا إلى مطالبتها بالاعتذار الرسمي وتخفيض العلاقات إلى مستوى سكرتير ثاني بدلاً من سفير، لكن العلاقات التجارية الاقتصادية لم تتأثر، بل ازدادت وثوقاً حتى مع تدهور العلاقات السياسية!

وإذا كانت “إسرائيل” قد اهتمت بالمياه منذ وقت مبكّر، لكنها في الثمانينات من القرن الماضي شهدت تطوراً ملحوظاً في استراتيجيتها، وكان قد تزامن ذلك الاهتمام مع تدفّق مئات الآلاف من اليهود السوفييت إليها، وقد خططت لإسكان قسم منهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الذي دفع إسحاق شامير يومها للحديث عن ضرورة الاحتفاظ بهذه الأراضي وعن “دولة “إسرائيل” الكبرى”[10].

ومع مقدّمات حرب الخليج وما بعدها، قامت “إسرائيل” بمحاولات سطو “دولية” على نهر الأردن، وسعت إلى سرقة مياهه وسيّرتها بموازاة الساحل الجنوبي بهدف إرواء صحراء النقب، كما أقدمت بعد عدوان العام 1967 على سحب المياه الجوفية من الأراضي المحتلة، وحالياً فإن أكثر من 60 % من مياه نهر الأردن تذهب إليها في حين لم يتجاوز ما كانت تستفيد منه من حوض النهر “عبر أراضيها” أكثر من 3%، ثم أقدمت على سرقة أخرى وذلك بالاستيلاء على مياه نهر بانياس- جنوب سورية- العام 1967 وهو الذي يفسر تمسّكها الشديد، بمرتفعات الجولان.

وكانت “إسرائيل” قد وضعت عينها على نهر الليطاني اللبناني منذ وقت طويل، وفي العام 1978 أطلقت اسم “عملية الليطاني” على غزوها للبنان والجنوب اللبناني بشكل خاص. جدير بالذكر أن طول نهر الليطاني يبلغ 170 كلم ويقطع أكثر من نصف طول لبنان من الشمال إلى الجنوب ثم يتحول إلى الغرب، ويصب فيه 16 نهراً ونبعاً، ومياهه أفضل أنواع المياه بالمواصفات والجودة، ونحو 80% منه يقع في سهل البقاع و20% يمرّ في الجنوب، ويصب في البحر على مسافة 8 كيلومتر شمال مدينة صور، وهذه المياه هامة لـ”إسرائيل” وضرورية لتزويد الجليل المحتل بالمياه من دون ضخّ مكلف وكان ذلك أحد أهداف الغزو “الإسرائيلي” للبنان واحتلال العاصمة بيروت العام 1982[11].

أما بخصوص الجولان فظلّت القوى الصهيونية تردد “الجولان أبو فلسطين” لأنها تضم مياه نهر الحاصباني وبانياس والوزان والدان والأردن واليرموك وبحيرة طبريا ومساحة الاحتلال حوالي 1200 كلم2، وكانت زيارة ليبرمان إلى الجولان تأكيداً جديداً على التمسك “الإسرائيلي” به، بعد قرار ضمه الذي اتخذه الكنيست العام 1981[12]، وهي جزء لا يتجزأ من استفزازات ليبرمان للمجتمع الدولي على نحوٍ مستمر[13].

هوامش:

[1] – انظر: القرآن الكريم- سورة الأنبياء ، الآية رقم 30.

[2] – انظر: عبد الحسين شعبان، العرب وحروب المياه، مجلة الغدير اللبنانية، العدد 76، العام 2019 (وهي مجلة ثقافية، فصلية محكّمة).

[3] – انظر: سعيد، أحمد محمود- حرب المياه والعرب، جريدة رأي اليوم (الالكترونية)، 9 آذار (مارس) 2018.

[4] – حتى الآن يبدو أن نظرية الدومينو لا تزال تفعل فعلها في الشرق الأوسط ونجحت إزاء المنطقة العربية، فكلّما يراد إطفاء بؤرة من بؤر التوتّر يتم نقل الصراع إلى ميدان آخر وبشكل أكثر احتداماً وعنفاً، وهكذا فبعد الحرب العراقية – الإيرانية التي دامت ثماني سنوات واستنزفت الموارد ودمرت طاقات البلدين وألحقت أضراراً بشرية ومادية هائلة، (1980-1988) دخلت المنطقة فيما يسمى أزمة “السلاح الكيمياوي” في أعقاب حرب الخليج الأولى، وخصوصاً ما تركته جريمة قصف مدينة حلبجة الكردية في 16-17 آذار (مارس) العام 1988، ثم ما لبثت أن دخلت في دوامة غزو الكويت وما تبعها من حروب وحصار واحتلال للعراق في العام 2003، فضلاً عن حرب “إسرائيل” على لبنان العام 2006 وحربها المفتوحة على غزة 2008-2009  و2012 و2014 و2021 وحصارها المستمر عليها منذ العام 2007.

[5] – حول حرب المياه في الشرق الأوسط: راجع شعبان، عبد الحسين- عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994،  انظر كذلك: شعبان، عبد الحسين – المياه والسلام: الأمن المائي في الشرق الأوسط ، كتاب القانون الدولي والشؤون الدولية، مجموعة دراسات بتنسيق بوعزّة عبد الهادي (الجزائر – عمان) 2014، وكذلك الموعد، محمد سعيد- مجلة الهدف (حلقتان) الحلقة الثانية 7/4/1990. قارن أيضاً: رياض، محمود- مطلوب موقف عربي من مهزلة مؤتمر المياه في اسطنبول، جريدة الحياة، 8 أكتوبر (تشرين الأول) 1991. كذلك الرميحي، محمد – مجلة العربي 2 العدد 311 أكتوبر 1984، ملف بعنوان المياه العربية وحديث عن الخطر المستتر، مجلة العربي، العدد 323، تشرين الأول (أكتوبر) 1985، وكذلك التغلبي، نشأت – معركة المياه والهجرة السوفييتية تعيدان أجواء 1967، مجلة الحوادث 23/2/1990، حيث يقول: إن هجرة اليهود ومعركة المياه هما أكثر ما يواجه العرب في هذه المرحلة، وتقرير خاص للشرق الأوسط 8/4/1990، الشرق الأوسط يشهد حرب المياه في التسعينيات، تقرير 80% من مياه العرب تتحكّم بها مصادر أجنبية 23/4/1992.

[6] – انظر: حتّر، علي- الأمن المائي العربي في بلاد الشام والعراق ومصر، مجلة فكر، عدد خاص حول الأمن المائي العربي، العدد 112 (ملحق) إعداد مركز الدراسات والتخطيط، مجموعة باحثون، دمشق، 2011 ص 6 -7-8 .

[7] – عنوان الكتاب The Jewish State وقد صدر في العام 1896 عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال (بازل) السويسرية 1897، والذي عبّرت فيه الحركة الصهيونية عن تكثيف مساعيها لإنشاء وطن قومي لليهود، وكانت الخطوة الأولى التي تحققت لها هي الحصول على وعد بلفور عام 1917، الذي قرر فيه وزير خارجية بريطانيا السير آرثر بلفور دعم فكرة “إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”، وذلك إثر اتفاقية سايكس – بيكو السرية العام 1916 التي تقرر فيها تقسيم البلاد العربية، وأن تكون فلسطين من حصة بريطانيا ، حيث تقرر الانتداب عليها لاحقاً. أما الخطوة الثانية فقد جاءت من الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1947 بإصدار القرار رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين، وكانت الخطوة الثالثة تأسيس “إسرائيل” في 15 أيار (مايو) العام 1948.

[8] – أنظر شعبان، عبد الحسين- بالمر- غولدستون: أي مفارقة وأي قانون؟، جريدة الاقتصادية (السعودية)، الجمعة 23/9/2011.

[9]– جدير بالذكر أن العلاقات التركية- “الإسرائيلية” شهدت تطوّراً ملحوظاً ونمواً مضطرداً، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي وفي درجة التمثيل الدبلوماسي (على مستوى سفارة) وكانت الاستراتيجية الأمريكية بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 تتعامل من خلال محورين: المحور الأول- معاهدة التحالف الاستراتيجي مع “إسرائيل” عام 1983. والمحور الثاني- نظام إقليمي تلعب فيه تركيا اليد الطولى (بغياب إيران بعد الثورة العام 1979) ويسعى هذا المحور إلى إقامة “سوق شرق أوسطية”، إضافة إلى الوساطة التركية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”. أنظر:شعبان، عبد الحسين- العلاقات التركية- الإسرائيلية، مجلة نضال الشعب العدد 437 في 7/7/1986 قارن: صحيفة السفير (اللبنانية) 17/كانون الأول/ديسمبر 1986.

[10] – انظر: جريدة الشاهد- حروب المياه، 4 شباط (فبراير) 2018.

[11] – أنظر: حتر، علي (مؤلف جماعي) الأمن المائي العربي، مصدر سابق ص 37.  قارن كذلك:  Amir Shaban,Mouin Hamza – The Litani River , Lebanon Assessment and current challenges, Springer PP. with several 180 (2018) ويعتبر الليطاني نهراً وطنياً لبنانياً وينبع من ينابيع العليق (نحو 1000 متر) غرب بعلبك ويجري في سهل البقاع ويصب في البحر المتوسط شمال صور، وله روافد عديدة منها: نهر البردوني ونهر شتورا ونهر قب الياس ونبع سبع نايل ونهر عمّيق ونبع الخريزات ونبع مشغرة (كل هذا في الضفة اليمنى). أما في الضفة اليسرى فهناك نهر يحفوفا ونهر الغزيّل ومجموعة من العيون ، ويلتقي النهر في جنوب سهل البقاع بمياه عين الزرقا ونبع الغلّة؛ ويوضح مؤلّفا كتاب “نهر الليطاني” أمين شعبان ومعين حمزة بعض محطات توليد الكهرباء، إضافة إلى البحيرة الصناعية الكبرى في لبنان، ويشيران إلى التحديات الطبيعية والاصطناعية التي تواجه النهر.

[12] – انظر: حتر، علي، المصدر السابق ص 39.

[13] – جاءت الزيارة عشية مطالبة فلسطين الأمم المتحدة الاعتراف بها كعضو مراقب في الأمم المتحدة العام 2012 ، بالتزامن مع إقرار  “إسرائيل” مشروعاً استيطانياً جديداً ببناء مئات الوحدات السكنية في القدس الشرقية، علماً بأن الأمم المتحدة أصدرت قراراً خاصاً بإدانة الاستيطان، وهو القرار  2334 العام 2016 الذي تبناه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 23 ديسمبر 2016، والذي حث على وضع نهاية للمستوطنات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونص القرار على مطالبة “إسرائيل”  بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء “إسرائيل” للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967.

………………………

يتبع.. 2/3 – (هل تشتعل حرب المياه في المنطقة؟)

ــــــــــــــــــــــــ

* باحث أكاديمي ومفكر عراقي

المصدر: بوست 180

التعليقات مغلقة.