منى فرح *
تحولات تكتونية حصلت منذ بدء المفاوضات الدولية حول البرنامج النووي الإيراني قبل عقد من الزمن وحتى اليوم. فالتوازن الاستراتيجي تغير بشكل كبير في غضون عامين، وبالتالي، ينبغي على النظام العالمي الاستعداد لتقبل أن إيران باتت قاب قوسين أو أدنى لكي تصبح دولة نووية، لا سيما بعدما أثبتت سياسة العقوبات الأميركية فشلها في إبقاء طهران تحت السيطرة. هذا ما يناقشه الدبلوماسي الإيطالي السابق ’’ماركو كارنيلوس‘‘ في “ميدل إيست آي”، في هذا التقرير.
“بطريقة يستحيل شرحها، وكما لو كان الأمر من أعمال السحر، أجمع محللون استخباراتيون ودبلوماسيون على المبالغة إلى حد الإفراط في الخوض في مسألة البرنامج النووي الإيراني.
في أيلول/ سبتمبر، اعتبر “معهد العلوم والأمن الدولي” أن إيران على بعد حوالي شهر واحد فقط لتمتلك ما يكفي من اليورانيوم؛ عالي التخصيب؛ لإنتاج قنبلة نووية، وهو تقييم قيل أن مسؤولين أميركيين شاركوا فيه.
لكن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية المنتهية ولايته، تامير هايمان، أكد أن إيران لا يزال أمامها طريقاً طويلاً لتقطعه قبل أن تتمكن من امتلاك قنبلة نووية، وهو تقييم ردَّده رئيس الموساد السابق يوسي كوهين قبل عامين.
وبينما كان محللون أميركيون يركزون على اليورانيوم عالي التخصيب المطلوب لتشغيل جهاز نووي، كان نظراؤهم الإسرائيليون يتحدثون عن جهاز جاهز للاستخدام. في الوقت نفسه، صرح المبعوث الأميركي الخاص لإيران، روبرت مالي، مؤخراً أنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الاستعداد لـ”عالم تكون فيه طهران متحررة من كل القيود على برنامجها النووي”.
فإيران؛ التي لديها ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لإنتاج قنبلة نووية؛ هي اليوم- وأكثر من أي وقت مضى- عامل تغيير في اللعبة؛ لدرجة أنها دفعت برئيسي وزراء إسرائيليين سابقين، هما إيهود باراك وإيهود أولمرت، إلى التساؤل عمَّا إذا كان ينبغي على تل أبيب التصريح علانية عن حقيقة ووضع برنامجها النووي. فحتى الآن، لم تؤكد إسرائيل أو تنكر امتلاكها أسلحة نووية. وقد جادل باراك بأنه مع احتمال عبور إيران لـ “نقطة اللاعودة، يجب علينا مراجعة مواقفنا”. بينما شدَّد أولمرت على أن مثل هذه الخطوة لن تخدم سوى النظام في طهران الساعي لامتلاك سلاح نووي بهدف ردع إسرائيل.
خيار عسكري:
لا يعتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أن بلاده يجب أن تغير سياستها بما يخص الغموض الذي يكتنف برنامجها وأسلحتها النووية، بل عليها أن تبقى ملتزمة بسياسة “الموت بألف طعنة”(1) مقابل إبقاء الجمهورية الإسلامية مقيدة وتحت السيطرة. وكان بينيت ومسؤولون إسرائيليون آخرون قد زاروا واشنطن مؤخراً، لكن لا يبدو أنهم حصلوا على الكثير من الولايات المتحدة بخصوص الخطة (ب) المحتملة؛ أي اعتماد الخيار العسكري المتفق عليه في حالة فشل المحادثات النووية بشكل نهائي.
الحقيقة المجردة هي أن قدرة إسرائيل على إملاء سياستها على واشنطن قد تضاءلت. ففي عام 2015، شعر رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بالثقة الكافية لمخاطبة مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، ونجح أيضاً في الضغط على الإدارة الأميركية وجعلها تنسحب من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018.
الآن، يتمسك القادة الإسرائيليون بالدلالات اللغوية، ويحللون كل تصرف يصدر عن كبار المسؤولين الأميركيين بحثاً عن إشارات على أن السياسة تتغير. في آب/ أغسطس، أخبر الرئيس الأميركي جو بايدن رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت أنه إذا تم استنفاد جميع الخيارات الدبلوماسية، فإن واشنطن ستدرس “خيارات أخرى”. وفي الأسبوع الماضي، عاد وأكد وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين أنه سيتم الأخذ بـ” أي خيار وبكل خيار” بعين الاعتبار.
في المعجم الدبلوماسي، فإن مصطلحات مثل “فحص” و”مراعاة” تُلزم المُتحدث بالقليل جداً. فواشنطن تناور بخصوص ما إذا كانت مستعدة لترخيص توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، وإسرائيل تلعب اللعبة نفسها فيما يتعلق بوجود ترسانتها النووية العسكرية.
على مدى العقد الماضي، تحول موقف كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من الإصرار على أن إيران لا تستطيع تخصيب اليورانيوم، إلى التعامل مع فكرة أن الجمهورية الإسلامية باتت قريبة جداً من العتبة النووية. الجانب المأساوي لهذا الخطأ في التقدير هو أن الطرفين أوقعا نفسيهما فيه: واشنطن من خلال انسحابها من الاتفاق النووي عام 2018، وتل أبيب من خلال الضغط المستمر على إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتحقيق هذه الغاية.
ورطة إسرائيل:
المؤرخ الإسرائيلي “بيني موريس” لخص ورطة إسرائيل بما يلي: إما أن تدمر المنشآت النووية الإيرانية، أو أنها ستضطر إلى التعايش مع “إيران نووية” في السنوات المقبلة.
من غير الواضح ما إذا كان لدى إسرائيل القدرة على تدمير برنامج إيران النووي. فهي حتى لو حصلت على قنابل خارقة للتحصينات من الولايات المتحدة، فإن نتيجة تنفيذها هكذا هجوم غير مؤكدة، وكذلك رد فعل إيران وحلفائها الإقليميين.
وبغض النظر عن الدلالات، لا يبدو أن واشنطن مستعدة للقيام بهذه المهمة لصالح إسرائيل. إن مستقبل إدارة بايدن؛ التي لا تركز على الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط؛ يتوقف على مشروعي إنفاق رئيسيين عالقين في الكونغرس. فلماذا يسحب بايدن البساط من تحت الحرب في أفغانستان، التي استمرت عقدين، ليبدأ تدخلاً جديداً أكثر خطورة في إيران؟ حتماً لن تكون هكذا خطوة أفضل استراتيجية للبقاء في البيت الأبيض بعد العام 2024.
ما يثير الفزع حقاً هو أن العديد من النُقَّاد – في واشنطن وتل أبيب وأماكن أخرى – ما زالوا يعتقدون أن العقوبات ستُجبر إيران على الامتثال للشروط التي تمليها إسرائيل والولايات المتحدة على برنامجها النووي وغيره. وكان بايدن قد سعى في البداية إلى التوصل لاتفاق مُعزز مصحوب بالتزام إيراني بالحد من أنشطتها الإقليمية. ومن غير المفاجئ أن طهران رفضت العرض، وطالبت بدلاً من ذلك بضمانات محددة ودقيقة بشأن امتثال الولايات المتحدة- وهو ما يبدو أن واشنطن لا تستطيع توفيره.
بالطبع، القيادة الإيرانية غير متحمسة على الإطلاق لأن تنخدع مرة أخرى بانسحاب أميركي جديد. إن استعادة الصفقة في هذه المرحلة سيكون أمراً معقداً، لكنه ليس مستحيلاً. ومع ذلك، فإن المشكلة الرئيسية هي أنه مع مرور الوقت، تبدو الصفقة الأصلية أقل جاذبية لكلا الجانبين.
تجاهل قراءة المستقبل:
يبدو أن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين يعتقدون أن الظروف التي كانت موجودة عندما بدأت المفاوضات النووية؛ قبل عقد من الزمن؛ لا تزال قائمة حتى اليوم. في ذلك الوقت، كان الافتراض هو أن إيران لم تأت إلى طاولة المفاوضات إلا لتتخلص من العقوبات. بينما في الواقع، هي كانت مستعدة للحديث فقط بعد أن تخلت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن شرط الإدارة السابقة بأن تُعلق طهران تخصيب اليورانيوم قبل أي حوار.
ومن المفارقات اليوم أن إيران تطالب الولايات المتحدة بإظهار الجدية التامة للعودة إلى الصفقة، مثل الإفراج عن 10 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة.
قبل عقد من الزمان، ضغطت روسيا والصين على إيران من خلال العقوبات المعتمدة دولياً، والتي كانت فعَّالة. لكن اليوم، تقود الولايات المتحدة معركة العقوبات وحدها، ويتبعها الأوروبيون على مضض فقط بما يتعلق بالعقوبات الثانوية.
ولا يبدو أن موسكو وبكين تريدان معاقبة طهران ولا حتى لومها أو معاتبتها. بل على العكس تماماً: فقد انضمت إيران مؤخراً إلى منظمة شنغهاي للتعاون؛ ووقعت اتفاقية اقتصادية كبيرة مع الصين. فطهران تؤمن بقدرتها على تجاوز العقوبات الأميركية. وحتى الآن، لم تفز سياسة الضغط الأقصى التي تقودها الولايات المتحدة. بل يبدو أن إيران هي التي تمارس الضغط من خلال الاقتراب من العتبة النووية.
في كثير من عواصم العالم، تمت قراءة المستقبل بشكل خاطئ؛ أو لم تتم قراءته على الإطلاق. لقد تغير التوازن الاستراتيجي في أقل من عامين. فمع اقتراب نهاية عهد ترامب أوائل عام 2020، اغتالت الولايات المتحدة اللواء قاسم سليماني، وساهمت “اتفاقات إبراهام” بين إسرائيل وبعض الدول العربية في تشديد عزلة إيران.
لكن اليوم، ها هو الرئيس بايدن ينفصل عن غرب آسيا ويركز على المحيطين الهندي والهادئ. ونتنياهو لم يعد في السلطة. وقد تفقد “اتفاقات ابراهام” الكثير من زخمها إذا لم تنضم لها الرياض، التي بدأت وأبو ظبي تجريان محادثات مع طهران، فيما الأخيرة تعزز قبضتها (بواسطة وكلائها) على لبنان وسوريا واليمن.
إنها تحولات تكتونية. وربما ينبغي على النظام العالمي الحالي أن يستعد الآن لتقبل أن إيران باتت قاب قوسين أو أدنى لكي تصبح دولة نووية”.
– النص مترجم عن “ميدل إيست آي” على الرابط:
https://www.middleeasteye.net/opinion/iran-us-isreal-nuclear-threshold-running-out-leverage
(1) مصطلح من أيام الإمبراطورية الصينية للتعبير عن شكل من أشكال التعذيب والإعدام. وفي علم النفس يعني الطريقة التي يحدث بها تغيير سلبي كبير.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحفية ومترجمة لبنانية
المصدر: بوست 180
التعليقات مغلقة.