الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تحولات الأصدقاء فى مجلس الأمن.. ماذا وراء الموقفين الصيني والروسي؟

مصطفى كامل السيد *

لا شك أن مصريين كثيرين قد انتابتهم الدهشة من حديث المندوبين الصيني والروسي وهم يتابعون جلسة مجلس الأمن التي ناقشت النزاع حول السد الإثيوبي بين مصر والسودان من جانب والحكومة الإثيوبية من جانب آخر. تربط مصر بروسيا والصين علاقات وثيقة تمتد إلى أكثر من سبعة عقود، ولم تتأثر هذه العلاقات كثيرا بسقوط حكم الحزب الشيوعي فى الاتحاد السوفيتي السابق، ولا بتحول الصين عن السياسات الراديكالية التي ارتبطت بالزعيم ماوتسي تونج مع تبنى سياسات الإصلاح التي دعا لها خلفه وغريمه دنج هشياو بنج وسار على نهجها رؤساء الصين الذين تبعوه. وما زالت تربط مصر بالبلدين علاقات متعددة الجوانب تمتد إلى المجالات الاقتصادية والعسكرية والعلمية، وتتكرر اللقاءات بين الرئيس المصري وكبار المسئولين فى البلدين سواء فى عواصم الدول الثلاث أو محافل دولية. لقد بدت الدول الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر تعاطفا مع الموقف المصري من هذين البلدين على الرغم من أن الصحف المصرية حتى وقت قريب كانت تكثر من التخوف من مواقف محتملة للرئيس الأمريكي جو بايدن وتتشكك فى نوايا بريطانيا بالنسبة للسياحة فى مصر. وضع المندوب الصيني الدول الثلاث المتنازعة حول السد الإثيوبي فى كفة واحدة بدعوته لها باستمرار التفاوض حول نتائج بناء هذا السد متغافلا عن التعنت الإثيوبي الذى أدى إلى فشل المفاوضات السابقة. وانفرد المندوب الروسي بالتحذير من اللجوء إلى العمل المسلح قاصدا بذلك الحكومة المصرية، وكأن العمل الأحادي الذى قامت به الحكومة الإثيوبية ليس هو السبب فى التفكير فى اللجوء إلى أساليب أخرى لتسوية هذا النزاع.

هناك مصريون ليسوا بالقليلين كانت لهم أسباب إضافية للشعور بخيبة الأمل من موقف البلدين. منهم من كان معجبا بالتجربة التاريخية للصين فى ظل حكم الحزب الشيوعي الذى احتفل بمرور مائة عام على نشأته، سواء تجربته النضالية فى مقاومة الاحتلال الياباني وجنرالات الحرب قبل وصوله إلى السلطة فى بكين فى ١٩٤٩، أو فى ظل التوجهات الراديكالية لماوتسى تونج، أو إنجازاتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية التي ترافقت مع سياسات الإصلاح منذ سنة ١٩٧٨. كما يذكر هؤلاء مساندة الاتحاد السوفيتي لمصر طوال الخمسينيات وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، والسلاح السوفيتي الذى كان عنصرا هاما فى انتصارات أكتوبر ١٩٧٣. ولكن كما يقولون جرت مياه كثيرة فى أنهار الفولجا وميكونج والنيل. لم تعد روسيا هي الدولة التي تساند الحقوق المشروعة للشعوب العربية، ولم تعد الصين هي التي تقف إلى جانب التفسير الصارم للأيديولوجية الشيوعية، كما لم تعد مصر هي قائدة النضال العربي ضد الاستعمار والصهيونية. فما الذى جرى فى موسكو وبكين ودعا حكومتي البلدين إلى أن يظهرا عدم الاكتراث بقضية وجودية للشعب المصري؟ ما الذى جمع بينهما فى هذا الموقف؟ وهل هناك أسباب خاصة بكل منهما؟ وماذا يتعين علينا أن نفعل أمام هذه الأوضاع الجديدة؟

مصالح مشتركة للبلدين:

لكل من البلدين مصالح مشتركة مع إثيوبيا دعتهما لاتخاذ هذا الموقف. أولا كل منهما دولة منابع لأنهار دولية، وترفضان مثل إثيوبيا من حيث المبدأ خضوع هذه الأنهار لأى تنظيم دولي. هناك أنهار أولانج وأولو وباسفيك بين روسيا وفنلندا، وبروهلانداجا الذى تشترك فيه روسيا مع بولندا أو نهر بسو المشترك مع جورجيا أو بو لونتو الذى تشترك فيه روسيا مع منغوليا ونهرا الدنيبر والدون، وتشترك فى الأول مع بولندا وبيلاروس، وتشترك فى الثانى مع أوكرانيا، ولا ترتبط روسيا بعلاقات ودية مع بعض هذه الدول، وخصوصا ما كان منها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي التي تخشى امتداد النفوذ الروسي إليها. هذا هو حال الصين أيضا التي تشترك مع كازاخستان وروسيا ومنغوليا فى حوض نهر الأوب، وتشترك فى النهر الأحمر مع لاوس وفيتنام. ولهذا السبب لم ينضم أي منهما مع إثيوبيا أيضا إلى اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالأنهار الدولية والمعروفة باسم اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية لمجاري المياه الدولية فى ١٩٩٧. بل إن المندوب الصيني فى مداخلته فى جلسة مجلس الأمن فى أول يوليو تجنب استخدام تعبير الأنهار الدولية مشيرا إلى نهر النيل باعتباره نهرا عابرا للحدود.

كما يشترك البلدان، وكذلك مع إثيوبيا، فى مواجهتهما لمشاكل أقليات تحتج على أوضاع تمييزية ضدها. هذا هو حال الصين مع أقليات عديدة منها أقلية الأويغور المسلمة فى إقليم شينجيانج، وحال روسيا مع الشيشان المسلمين، كما تتعدد الأقليات فى إثيوبيا، وتخوض الحكومة حربا خاسرة ضد أقلية التيجراي التي طردت قوات الحكومة الاتحادية من عاصمتها وأسرت آلافا منهم، وتوشك على إعلان انفصالها عن حكومة أديس أبابا. لذلك تعتبر الدولتان أن قضايا القوميات هي شأن داخلي لا يجب أن تكون موضع اهتمام لا من المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة أو من جانب أي منظمات أو دول أخرى تحت أي مسمى. ولذلك وقفت الدولتان إلى جانب الحكومة الإثيوبية عندما ناقش مجلس الأمن هذه القضية.

كذلك تسعى كل من الصين وروسيا إلى تأكيد مكانتهما الدولية فى جميع قارات العالم، وبعناصر القوة التي تتميزان بها ويتنافسان فى ذلك مع الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية. وسيلة الصين فى كسب النفوذ هي باستخدام أدواتها الاقتصادية من مساعدات واستثمارات ومشروعات صناعية وزراعية وتشييد البنية الأساسية، ووسيلة روسيا هي بمد المعونة فى المجالين العسكري والتكنولوجي، وقد اهتمت كل منهما بالقارة الإفريقية، فدعت الصين الدول الإفريقية لمشاركتها فى منتدى للتعاون الصيني الإفريقي فى سنة ٢٠٠٠ بنت له مقرا فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وكانت بعض لقاءاته على مستوى القمة، انتظمت منها ثلاث فى بكين سنة ٢٠٠٦، وجوهانسبرج ٢٠١٥، وبكين فى سنة ٢٠١٨، ولحقها الاتحاد الروسي الذى عقد مؤتمر قمة مع الدول الإفريقية فى منتجع سوشي فى سنة ٢٠١٩، كما عقد المنتدى الإفريقي الروسي الاجتماعي فى سنة ٢٠٢٠ محتذيا بذلك نموذج المنتدى الاجتماعي العالمي الذى يدعو له ناقدو العولمة والمنتدى الاقتصادي العالمي فى دافوس والذى عقدوا جلساته فى عدد من مدن أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.

كما تشترك الدولتان فى أنهما لا يلقيان بالا للأوضاع الداخلية فى الدول التي يتعاونان معها، وعلى عكس الحكومات الغربية التي تضع مسائل حقوق الإنسان وحكم القانون ضمن جدول أعمال تعاونها مع دول الجنوب، لا تهتم الحكومتان بهذه المسائل، بل وتوثقان صلاتهما بالحكومات التي تتلقى انتقادات مماثلة من جانب الدول الغربية. وكانت الحكومة الإثيوبية من الحكومات التي وجهت لها مثل هذه الانتقادات فيما يتعلق بتعاملها مع قوى المعارضة، وخصوصا محاولة قمعها للاحتجاجات السلمية فى إقليم تجراي التي انقلبت إلى حرب أهلية ومقاومة مسلحة.

علاقات الدولتين بإثيوبيا:

لكل من الدولتين علاقات متميزة بإثيوبيا، وليس ذلك بمستغرب، فهي ثاني دولة إفريقية من حيث عدد السكان بملايينها المائة وسبعة عشر بعد نيجيريا وقبل مصر، ولها موقع مهم فى إقليم القرن الإفريقي شمال شرق القارة، وهى مقر الاتحاد الإفريقي واللجنة الاقتصادية لإفريقيا. وتحظى بمكانة خاصة فى الوجدان الإفريقي بتاريخها الطويل، وحفاظها على استقلالها باستثناء فترة الاحتلال الإيطالي القصيرة. وقد أقامت الدولتان علاقات دبلوماسية مع إثيوبيا منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، ومرت هذه العلاقات بفترات فتور، ولكنها انطلقت بعد الإطاحة بالحكم العسكري فى سنة ١٩٩١.

وتسعى الصين لأن تقدم من خلال تواجدها الاقتصادي فى إثيوبيا نموذجا مشرقا لما يمكن أن تقوم به لمساعدة الدول الإفريقية على تحقيق تنميتها. ولذلك تنخرط الصين فى مشروعات هامة فى هذا البلد الإفريقي، فهي التي تبنى من خلال قرض تقدمه له شبكة الكهرباء التي تنقل الطاقة الكهربية من سد النهضة إلى جميع أنحاء إثيوبيا، وهى التي أقامت خط الترام فى العاصمة أديس أبابا، وأقامت أيضا خط السكك الحديدية الذى يصل العاصمة بميناء جيبوتي المجاورة، فضلا عن استثمارات هامة فى قطاعات الزراعة والصناعة والتشييد، كما تستأجر العديد من المصانع المملوكة للدولة، وتوسعت تجارتها مع إثيوبيا بدرجة كبيرة منذ سنة ١٩٩١، مع فائض هائل لصالح الصين. أما روسيا فقد ركزت على دعم القدرات المسلحة للجيش الإثيوبي، ونسقت دعمها العسكري من خلال لجنة عسكرية مشتركة عقدت عشر اجتماعات على مدى العقدين الماضيين، وكانت آخر إنجازاتها فى هذا الصدد إبرام اتفاقية لدعم القدرات الفنية للجيش الإثيوبي، فضلا عن مساعدة إثيوبيا على النهوض بقدراتها فى الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.

هل لدينا أوراق فى مواجهة الدولتين؟

علاقة كل من الصين وروسيا بإثيوبيا ومصر هي مثل لتعقد العلاقات بين الدول فى فترة ما بعد الحرب الباردة. خلال الحرب الباردة اتسمت العلاقات الدولية بالصراع الإيديولوجي الذى كان يفرض قدرا من الاتساق والقدرة على التنبؤ. الدول الرأسمالية الكبرى توثق علاقاتها بالنظم المحافظة فيما كان يسمى بالعالم الثالث وتدخل معها فى تحالفات عسكرية أو تساندها عندما يتعرض أمنها القومي للخطر، والدول الاشتراكية تساند ما يسمى بالنظم التقدمية أو المكافحة للاستعمار أو الملتزمة بسياسة عدم الانحياز ابتعادا عن الدول الاستعمارية السابقة. أما فى عالم ما بعد الحرب الباردة وسقوط الأيديولوجيات الكبرى، فلا يوجد هذا القدر من الاتساق فى علاقات الدول. كل قضية تستحق موقفا خاصا. ومن ثم تدخل الصين فى علاقات وثيقة مع مصر وإثيوبيا فى نفس الوقت، وتفعل روسيا نفس الأمر، تنخرط الأولى فى مشروعات اقتصادية طموحة فى مصر وإثيوبيا، وتقدم روسيا السلاح وتبنى محطات نووية فى البلدين، ولا تريان أي غضاضة فى ذلك طالما أن ذلك يحقق مصالح لكل منهما فى البلدين. ولا يبدو أن إثيوبيا أو مصر يمكن أن تطلب من أي منهما أن تتوقفا عن التعاون مع الدولة الخصم، لأنهما يعتمدان عليهما اعتمادا كبيرا.

مثل هذه العلاقات بين قوى كبرى فى النظام العالمي ودول صغيرة أو متوسطة أمر مألوف ومقبول طالما أن هذه العلاقات لا تؤثر على أمن الإنسان والأمن القومي فى دول أخرى ترتبط معها نفس هذه القوى الكبرى بروابط وثيقة. فى واقع الأمر لا تنعدم الخيارات أمام الدول المتوسطة ذات النفوذ الإقليمي أو حتى الدول الصغيرة. يمكن، وهذا أضعف الإيمان، أن تصارح هذه القوى الكبرى بالتناقض فى مواقفها، وأن تضعه على جدول الحوار معها، ويمكن لها أن تجد شركاء آخرين بدلا من هذه القوة الكبرى التي تتعاون مع خصومها. ولا أظن أن الحكومة المصرية، لو توافرت لها الإرادة، عاجزة عن عمل ذلك.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.