الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكرى اختفائه، «المهدي بن بركة»… من المعارضة والنضال الأممي إلى “الأسطورة”!

كريم الهاني *

موقع مرايانا يعود إلى بعض خبايا اللغز السياسي الأشهر في تاريخ المملكة المغربية…

نحن الآن بالعاصمة الفرنسية باريس، أمام مقهى “ليب” تحديدا. لنأخذ من أيام هذا المكان، الـ29 من تشرين أول/ أكتوبر 1965… في ظهر هذا اليوم، بهذا المقهى أمامنا، يرتقب أن يلتقي المعارض المغربي المهدي بن بركة بمخرج سينمائي فرنسي، والهدف تدارس إعداد فيلم حول حركات التحرر في العالم، بعنوان “كفى Basta”.

لا شيء يشي بأن هذه اللحظات، ستنقش نفسها في ذاكرة التاريخ المغربي إلى اليوم. يصل بن بركة في سيارة أجرة، قبيل الموعد، مع شخص آخر. ترجلا، ثم عبرا الشارع إلى المقهى، وحينما صارا على بعد خطوات منه، تقدم إليهما شرطيان فرنسيان.

تأكد بن بركة من كونهما شرطيين، ثم طلبا منه التأكد من هويته. سحب جواز سفره من الجيب، طالعاه، أعاداه إليه، ثم أخبراه بأنهما سيأخذانه إلى موعد مهم مع شخصية ما، دون أن يحددا له من تكون. أضافا، حتى يطمئن، أن الأمر يتعلق بمسؤول سياسي فرنسي بارز.

طلب بن بركة من مرافقه أن يخبر المخرج بتأجيل الموعد، ثم رافق الشرطيين في سيارة من طراز بيجو 403. لم يكن يعلم أنه، منذ هذه اللحظة، قد اختفى إلى الأبد، أو إلى اليوم على الأقل.

هذه الأيام، تحل الذكرى الـ55 لاختطاف المهدي بن بركة. الأرجح أنه اغتيل بعد ساعات من اختطافه؛ وإن اختفى حينذاك كجسد، فإلى اليوم هو مختف كجثمان. أما في حكم الذاكرة، فهو حاضر، لم يُنسَ.

لم يُنسَ في حكاية انقلب فيها السحر على الساحر، فبينما أُريدَ بتصفيته، تصفية فكره وحضوره وتاريخه النضالي “الاستثنائي”، لا زال المهدي بن بركة إلى اليوم، شاخصاً في ذاكرة المغرب، كضحية/بطل لإحدى أكثر قصص الاغتيال جدلاً في تاريخه.

كان بن بركة سياسياً لا يُشق له غبار بشهادة التاريخ… ليس من هؤلاء الذين يستكينون للسلطة، إنما من هؤلاء الذين يقولون “لا”، في وقتٍ كان فيه قولها، قد يؤدي إلى الموت، وهو المصير الذي لقيه في النهاية.

المهدي بن بركة:

ولد المهدي بن بركة بالعاصمة الرباط، ذات يوم من كانون الثاني/ يناير 1920. درس بثانوية مولاي يوسف، وكان نابغة. من هؤلاء الذين يعوضون أساتذتهم في إلقاء الدروس في حال غيابهم.

لم تسعفه الحرب العالمية الثانية لتحقيق حلمه بدراسة الرياضيات في فرنسا، فتوجه إلى الجزائر التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، على غرار المغرب ودول عديدة، ثم أجيز هناك في الرياضيات بداية الأربعينات، كأول مغربي يحقق هذا الإنجاز.

في إقامته بالجزائر، بدأت المكامن النضالية لـ بن بركة تتفتق، إذ ترأس اتحاد طلاب شمال إفريقيا؛ ثم، حين عاد إلى المغرب، لم يتأخر كثيراً حتى انخرط في الحياة السياسية. انتخب في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وكان من بين أصغر من وقعوا على وثيقة 11 كانون الثاني/ يناير، ثم صار بعد ذلك بسنة؛ أي عام 1945، أميناً عاماً للحزب.

التحق بن بركة في غضون ذلك بالمدرسة المولوية، وأصبح أستاذ ولي العهد حينذاك، الحسن الثاني، في مادة الرياضيات، قبل أن يقع الشقاق فيما بعد، بعدما فرقت بينهما الأهواء السياسية.

لكن، قبل ذلك، كانت تحركات المهدي بنبركة نشطة على نحو أقلق المستعمر الفرنسي، الذي اعتقله عام 1951، ونفاه إلى الصحراء، قبل أن يفرج عنه بعد ثلاث سنوات، لينشط بعد ذلك في نضال يروم إعادة الملك من المنفى، وطرد المستعمر.

مواقف كثيرة برز بها بن بركة، جعلت له محبة خاصة عند الملك محمد الخامس. هذا الأخير عينه بعد استقلال المغرب رئيساً للمجلس الاستشاري الذي تم حله عام 1959، في ذات السنة التي انشق فيها بن بركة وعدد من رفاقه عن حزب الاستقلال، وأسسوا حزباً جديداً اسمه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

لن تجري انتخابات برلمانية حتى 1963، فانعدمت بذلك الحياة السياسية في المغرب تقريبا، لكن حزب الاتحاد الوطني كان قد جاء ليرفع يافطة معارضة الملك.

سيتعرض بن بركة عام 1962 لمحاولة اغتيال في بوزنيقة، أصابته بجروح خطرة اضطر على إثرها للسفر إلى ألمانيا قصد العلاج؛ فاستُبعد بذلك من معركة مقاطعة الاستفتاء على دستور 1962.

في 1963، بعدما تقرر إجراء أول انتخابات بعد الاستقلال، أبرز بن بركة مقدرة عالية في قيادة حملة الحزب الانتخابية، وفاز بمقعد في البرلمان عن دائرة يعقوب المنصور في الرباط.

لاحقاً، قرر المهدي بن بركة مغادرة التراب الوطني بعدما بدا له أن الديمقراطية بالمغرب ضرب من الخيال، وأن خصومها يحتلون أجهزة السلطة في المملكة… ثم صدر في حقه حكم غيابي بالإعدام، بعدما اتُهم بالمشاركة في ما سمي حينذاك بـ”مؤامرة ومحاولة اغتيال الملك”.

كان بن بركة قبل ذلك قد كلف بالتنسيق الأممي، إذ عين رئيساً للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث الذي سينعقد عام 1966 بهافانا، عاصمة كوبا. هكذا، كان يدعو خلال مجموع تحركاته، تحضيراً للمؤتمر، إلى القضاء على رواسب الاستعمار ورفض ما أسماه الاستقلال الشكلي.

أثناء ذلك، كانت وعود انفتاح ديمقراطي تستقطب المهدي بن بركة للعودة إلى أرض الوطن، حتى أن الملك، الحسن الثاني خاطبه قائلاً: “بودي أن يعود أستاذي في الرياضيات. لدي معادلة في صالح المغرب أود أن أحلها معه”.

لكن في صباح الـ29 من تشرين الأول/ أكتوبر 1965، وبعدما كان في طريقه إلى موعد مع مخرج سينمائي فرنسي في باريس لإعداد فيلم حول حركات التحرر… رافق شرطيين في سيارتهما فاختفى، وإلى اليوم، لا يُعرف طريق لجثمانه ولا تفسير لتفاصيل اختفائه.

باقتضاب مخل، كان هذا هو المهدي بن بركة، مناضل أممي ورجل في طليعة المعارضة السياسية في المغرب، أرّق السلطة دائماً وسهدها إلى أن ظل لغز قاتله ومكان دفنه، لا يُحل ولا يُفك حتى اليوم.

اللغز الأعقد في تاريخ المملكة:

إن لغز اختطاف بن بركة واغتياله، يتكون بالمجمل من 3 أسئلة: من المسؤول عن تصفية بن بركة؟ كيف تم ذلك؟ وأين يوجد جثمانه؟

54 سنة مرت اليوم، ولا زالت هذه الأسئلة معلقة بلا جواب؛ أو لنقل إنه ثمة روايات متعددة، لكن أيا منها لا تعطي أجوبة حاسمة للأسئلة المطروحة حول اختفاء بن بركة.

المؤكد في الموضوع أن قصة شريط “كفى Basta” فخ مدبر، وأن كل من شاركوا في “اصطياد” بن بركة، ضالعون في اختطافه واغتياله… لكن، من يقف وراء ذلك؟ كل الروايات تحمل شيئاً من الصدق، وكثيراً مما لا يؤكدها.

اعترف الشرطيان أمام المحكمة بأنهما اختطفا بن بركة باتفاق مع المخابرات المغربية، وأنهما أخذاه إلى فيلا في ضواحي باريس. وهناك، شاهدا محمد أوفقير وزير الداخلية، وأحمد الدليمي مدير المخابرات المغربية، رفقة رجالهما، وأكدا أن بن بركة لقي حتفه بعدما عذب أثناء التحقيق معه.

قد يكون متفقاً على هذه الرواية، لكن، ما كان مصير جثة بن بركة؟ بعض من شاركوا في الجريمة قالوا إنها دفنت على نهر السين، قرب الفيلا التي احتجز فيها، بيّد أن كثيراً من الشهود، انتحروا أو قتلوا!

بداية هذه الألفية، سيخرج العميل السابق للمخابرات المغربية، أحمد البخاري، بتصريحات صحفية، قال فيها إن التخطيط لاختطاف بن بركة دام 7 أشهر، وإن جثمانه نقل بعد اغتياله على متن طائرة عسكرية مغربية، وأذيب في حوض أسيد في مقر سري بالمغرب.

آخرون قالوا إن رأسه، فقط، نقلت إلى الرباط وعرضت على طاولة عشاء في أحد القصور الملكية، فيما قال آخرون إن جثمانه كله دفن في معتقل سري يعرف بـPF3، وآخرون صرحوا بأنه مدفون تحت السفارة المغربية بفرنسا.

أياً كان القول، يظل هذا اللغز معقداً بالنظر إلى من امتدت إليهم أصابع الاتهام، فالموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية أيضاً متهمتان بتدبير اغتياله، ذلك أن الشخصيات التي كانت تُحضّر لمؤتمر القارات الثلاث، كانت تضرب مصالحها.

وهذا باختصار، بعضٌ فقط مما جاء في هذا اللغز…

الأسطورة:

صحيح أن المغرب كان قد خطى خطوات حثيثة في سعيه إلى طي صفحة الماضي، وقبل ذلك كشف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، متوجاً ذلك بالعمل الذي كلفت به هيأة الإنصاف والمصالحة، لكن مع ذلك… لا أحد اقترب من ملف بن بركة!

بعد تصريحات أحمد البخاري، تقدم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بشكوى أمام القضاء للتحقيق معه، فقالت السلطات إن هذا الملف قد فقد. طلبت عائلة بن بركة في فرنسا من قاضي التحقيق الاستماع إليه، فمنعته السلطات من السفر، إذ كان متهماً… بإصدار شيك دون رصيد.

قبل سنوات، رُفع غطاء السرية عن 89 وثيقة من أجهزة المخابرات الفرنسية، بعدما كانت تحت بند أسرار الدفاع، إلا أنها لم تكن ذات علاقة بالقضية، على عكس ما كان قد طلبه قاضي التحقيق.

بالمجمل، يبدو، وفق من تابعوا هذا الملف عن كثب، أن أيادٍ كثيرة متورطة في لغز مقتل بنبركة والمكان الذي يرقد فيه، بما يجعل ثمة نوع من الإجماع، يروم ألا يحل لغز هذه القضية أبدا.

اليوم، لا يكل ولا يمل البشير بن بركة، رئيس معهد “المهدي بن بركة.. ذاكرة حية”، ونجل المهدي بن بركة، عن مراسلة أولي الأمر، بخاصة في فرنسا، بهدف “التذكير بمسؤولية الدولة الفرنسية والمغربية في عملية اختطاف المهدي بن بركة، ورفع السرية عن الوثائق التي تخص القضية، والمحاطة بذرائع أسرار الدولة”.

بعد مرور 54 سنة على اختطاف بن بركة واغتياله، أولئك الذين ضلعوا في هذه القضية بهدف محو بن بركة من الأذهان ومن الذاكرة، لم يكونوا على علم أن لغزها… سيجعل منه اليوم “أسطورة” بحق… أسطورة لا تنسى!

* كاتب صحفي مغربي

المصدر: مرايانا

التعليقات مغلقة.