ماجد الشيخ *
في حالنا وأحوالنا العربية اليوم، هناك مجموعة من أنواع “الورم الخفي” التي “تتعامد” و”تتآفق” لتشكّل جوهر بنى سلطوية عديدة في تلوناتها وأطيافها المختلفة، حيث تتلوّن وتمتاز بالعنصرية والتمييز والتفرقة وإشاعة روح الاختلاف والخلاف والتنافر والتباعد، بكل أطيافه العرقية والقومية والطائفية والمذهبية والعائلية والقبلية والعشائرية والطبقية؛ وهذه كلها تشهد لأمراض عديدة مزمنة ومستعصية، مضافة إلى متلازمة السلطة، لا سيما في مجتمعات لم تعتد العيش إلا في ظل الأورام الخبيثة التي ورثتها عن عصور غابرة، كانت شهدت مختلف الصراعات التي حتّمت وجود مثل تلك الأمراض المتأصلة، واستمراريتها في ثنايا مسلكيات السلطويات والعنصريات التي تمادت كثيراً من أجل الاحتفاظ بعناصر قوتها وإكراهاتها الغالبة، وطموحات الطمع بكل شيء ضماناً لهيمنتها وسطوتها على الآخرين، كل الآخرين المختلفين وغير المختلفين.
في غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح، وتلاشي قدرة التغيير وإمكاناته، وحضور طغيان إرادة السلطة، بكل ما تحمله من إرث استبدادها وورمها الخفي والمعلن، في أروقة دولة منهوبة ومسلوبة ومنكوبة، صدف وهيمنت عليها جماعات التحاصص التسووية، وورثة الآباء السياسيين الذين رحلوا ولم يتركوا خلفهم سوى موبقات سلطوية. لذلك بقيت وتبقى كل خطط الإصلاح ومشاريعه في بلادنا مجرد حبر على ورق، في غياب القوانين الدستورية وأجهزة الرقابة والمحاسبة، ودور البرلمانات المشاركة شراكاتٍ تواطؤية مع السلطات الأخرى، التنفيذية والقضائية، شراكات زبائنية تمّحي معها كل مسؤولية ونزاهة، ومحاسبة على نهب المال العام، ومجمل الأخطاء والخطايا المرتكبة.
في ظل أوضاع شمولية ينخرها الاستبداد، من الاستحالة توفر نيات حقيقية أو إرادات سياسية للإصلاح، فالسلطة الديكتاتورية، مركزية وغير مركزية، تركن على الدوام إلى استمرار معاندتها حضور الدولة، بل تعمل على تغييبها، طالما أن من المفترض أن يمنع حضورها أو على الأقل يحد من طغيان مافيات السلطة وطغمها الفاسدة. هذا الحضور تؤكده الدولة عبر مؤسساتها وقيامها بأدوارها المفترضة، على حساب بهلوانيات السلطة وكيدها وورمها الخفي والمعلن، من أجل استمرار مصالحها على حساب كل المصالح الأخرى، فلا حضور للبرلمانات، المفترض أنها تمثل المصالح الشعبية والوطنية العامة، بقدر ما سعت وتسعى إلى خدمة زعامات السياسة ومحاصصات الطوائف على حساب مصالح (وتطلّعات) القوى الشعبية والاجتماعية وقواعدها التي جاءت بنواب يزعمون أنهم ينوبون عن الشعب، وهم في الحقيقة والواقع لا ينوبون إلا عن ذواتهم، ولا يعبرون إلا عن مصالحهم ومصالح شركاء لهم، يخونون الدولة بكل ما مثلت وتمثل من معايير التمثيل الصحيح لكل مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كذلك شكّلت فوقية الانتقال من “الشمولية المستبدة” إلى “الديمقراطية” المحكومة بسقف “محكم” من سقوف النظام الاستبدادي، عمليةً معزولةً عن إرث الديمقراطية الحقة؛ ديمقراطية التعدّد والتنوّع الطبيعي، لا ذلك التعدّد الزائف، المرضي الذي آلت إليه تجربة بلدان عدة، سعت شكلياً إلى الخروج من أزمة حكم ومأزق سياسة، ووضع سياسي متفلّت واقتصادي واجتماعي مزرٍ، عبر تسمية أحزاب أو الدعوة إلى تشكيل أحزاب وتيارات وزجّها في معمعان تسويات فوقية لا ديمقراطية؛ في ظل حكم استبدادي واصل التماهي وحكم التحاصصات التوافقية وغير التوافقية القائمة بين طغم الزعامات الاستزلامية.
ولهذا.. ومع انهيار الدولة وتكلسها، وانتكاس مشروعها أو مشاريعها الوطنية، بدأت تبرز إلى الوجود تلك التمظهرات المختلفة والمتباينة لهويات ضيقة، حتى داخل القرية الواحدة والمدينة الواحدة، وداخل الطائفة والمذهب الواحد؛ هويات تذرّر “ريفية”، وصلت إلى ذاك العائلي والانقسامات والتفككات اللانهائية، التي لم تزل تعمل في ظل التفسير أو التفسيرات التآمرية لمآلات السلطة وممارستها، أو حرمان الآخرين منها، بل وحيازتها والقبض عليها تحقيقاً لمصالح نرجسية وأنانية، توغل في ضيقها عبر أشكال من التسييس الديني والتدين السياسوي، حيث تكمن عقدة الانقسامات والتذرّرات والتشظيات التي نعيشها في راهن أيامنا، وتعيشها معنا كل تشكيلات النزعات السلطوية وتمظهراتها؛ بكل تلوناتها ومستوياتها، من سلطة الأب والعائلة إلى سلطة الفقيه الدينوية إلى سلطة النظام.. وبنية الدولة الفاشلة.
وفي غياب التحدّيات التي تواجه السلطة؛ تجاهلها أو القفز عن وجودها ونكرانها، تنقاد الدولة إلى أحضان مافيات سلطوية عائلية وطائفية وفئوية وزبائنية، بكل أطيافها المشرفة على مكامن الفساد والإفساد التي تتربّع على موائدها طغم لم تستسغ حضور الدولة أو وجودها، بقدر ما انحرفت بمصالح لها خارج مهامها الطبيعية، لتلتحق بركب كل من وما يتحلّق حولها من زبائنية التجار والفجار، مستغلة وظيفتها ومهامها المعيارية المعروفة، لحرف مسيرة الدولة وتشويه صورتها وقلب مسيرة السلطة وحرفها كذلك، وتفريغ تحدّياتها التي تدخل في صميم وظائفها، وقد تخلّى سلطويوها عن المهام المنوطة بهم، وإلا لا شيء يمكن إصلاحه، فالتغيير أوجب ما يكون في هذه الحالة.
وإذا كان للدول من الفشل نصيب، فإن للسلطة منه أكثر الأنصبة القائمة والمحتملة، سيما في ظل أشكال من المسلكيات اللاديمقراطية السائدة في بلاد الإخضاعات السلطوية، حيث استبداديو السلطويات المتناسلون كالفطر، وحيث الأشكال التزيينية الديكورية، تمنع أو تحدّ من تطوير الحرية الاجتماعية والحريات السياسية، ومن أن تبلور ثقافة ديمقراطية أو تؤسس لحيثيات ديمقراطية تربوية حقيقية، وسط سيادة مفاعيل هلاكي السلطة والسلطة المطلقة. فالأشكال السائدة راهناً لن يكون في مستطاعها كذلك أن تولّد آليات إنتاج الممارسة (سلطوية أو معارضة)، في إطار كيفية انبثاق السلطة في بلادٍ تشكّل أمثال هذه السلطة فيها المعلم الوحيد “الثابت”، العصيّ على الإصلاح والتغيير أو التداول. فيما الديمقراطية بالتأكيد تقبع في مكان آخر، حيث بنية المؤسسات الناظمة والدستورية القائمة والفاعلة، القادرة على إنتاج حلول ومخارج عملية للأزمات والإشكالات السياسية والمجتمعية، وما يتفرّع عنهما من إشكالات متلازمة ونظرية نشوء السلطة، وأكثر بكثير إزاء انسجامها ونظريات إنتاج الدولة.
الفراغ السياسي الذي تعيشه سلطاتنا ومجتمعاتنا، في غياب ثقافاتٍ منتجةٍ، وفي غياب مشروعات سياسية – ثقافية في أروقة السلطة، ومطاردة الثقافة السياسية الفاعلة والمنتجة في مجالاتها؛ كل هذا مهّد ويمهّد لاستقبال والقبول بأنماط من مسلكيات وقيم استبدادية، ما جعل ويجعل من إرهاب القتل العبثي المعولم يمتح من أيديولوجيا شمولية كامنة، تسود الآن وتنمو تحت أجنحة السلطة الشمولية ذاتها، وخروجها “التنافسي” على حواضنها السابقة، لا يعني أنها باتت تمتلك برنامجاً أو مشروعاً سياسياً أو أية رؤى جديدة، بل هي في “انطلاقتها المتجدّدة” هذه، إنما هي تعيد إنتاج عداواتها وتوسيعها وفق صيغ جديدة، في مركزةٍ لأهدافها وتوجهها صوب العداء المطلق لإمكانية بناء دولة حديثة ومجتمع حديث، ما أبقى ويبقي السلطة الحاضنة و”خوارجها” الجدد عند حافّة البقاء على الاستبداد المقيم، في تماهٍ مطلق ومطبق لتنمية روح الاستعداء المتواصل لفكرة السياسة ومجموع القيم الثقافية التي تتطلّب إدراكاً معرفياً وإحاطات معرفية دائمة.
لذا تشكّل المعرفة، بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في واقع الحال، دالة سلطة، بمعنى أن “كلاً من السلطة والمعرفة يتضمن الآخر مباشرة، حيث لا توجد علاقة قوى من دون مجال معرفة يمثل البنية المترتبة عليها، ولا أي معرفة لا تفترض مسبقاً ولا تؤلف في الوقت نفسه علاقات قوى”. لهذا ليس هناك ما يضمن، بالضرورة أو بالاضطرار، أن تتضمّن السلطة معنى الدولة. على العكس، يمكن للدولة أن تتضمّن معنى السلطة، ولكن ممارستها في نطاق الدولة تبقى مختلفة ومناقضة لممارستها وسلوكها في نطاق آخر؛ بعيداً عن متناول الدولة، نطاق ما قبل الدولة، أو ما بعدها، أي على أنقاضها، على ما هو الحال في بلدان عديدة متطاحنة ذاتياً في داخلها أو بفعل تدخلات إقليمية وتوظيفها في مصالح خارجية، فيما سلطة (أو سلطات) الأمر الواقع تقوم مقام الدولة وعلى أنقاضها، بل هي تمنع قيام الدولة لمصلحة تلك السلطة أو السلطات المتناحرة، وتسعى إلى الإبقاء على سلطتها أو سلطاتها البديلة عن الدولة.
* كاتب وصحفي فلسطيني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.