الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

21 درساً للقرن الحادي والعشرين جديد المؤرخ “يوفال هيراري”

لطفية الدليمي *

يوفال هيراري يتناول في كتابه مجموعة كبرى من المعضلات، ويرى أنّ التعامل الأفضل معها لا يكون بنكرانها بل بالاختيار الحكيم لما يستحقّ التفكّر فيه منها أولا، ثمّ في تحديد كمّ القلق الواجب إزاءها ثانياً. وهو مؤرخ من طراز جديد ينظر إلى الحضارات بوصفها حضارة متصلة بعيداً عن اختلاف الأعراق، وقدرة هراري تتمثل جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم.

ليس بمقدور أيّ كائن بشري أن يتغافل، أو حتى يصطنع الغفلة، عن القلق بشأن طائفة كبرى من الموضوعات التي باتت همّا إنسانيا يتشاركه الجميع في العالم، وتأتي موضوعات الإرهاب، وفرط الاحترار المناخي، والصعود الدراماتيكي المتوقع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات الذكاء العميق، وتراجع التعاون العالمي في مقدمة تلك الموضوعات؛ لكن ثمة الكثير من الموضوعات الأخرى التي قد يغفل عناها الكثيرون لأنها لا تمثّل حتى الآن، ربما، مخاطر جدية بات يستشعرها الإنسان في حياته اليومية.

نشر في أميركا في 2018 كتاب جديد للمؤرخ ’’يوفال نوح هراري‘‘ حمل عنوان “21 درسا للقرن الحادي والعشرين”، ومن المتوقّع أن يحقق هذا الكتاب مبيعات تصل إلى عدة ملايين من النسخ  على شاكلة ما حققه كتابان سابقان له “البشر العاقلون: موجز تأريخ البشرية”،  و”الإنسان الفائق: موجز تأريخ الغد”. في الأول رحلة استكشافية لإعادة قراءة التأريخ البشري وامتحان المواضعات الراسخة بشأنه، وفي الثاني دراسة مستقبلية للآفاق والمخاطر المحدقة بالكائن البشري.

أما الكتاب الذي نحن بصدده “21 درسا للقرن الحادي والعشرين” فهو دراسة بحثية معمّقة للوضع البشري المعاصر وامتحان العناصر الفاعلة فيه من وجهة نظر تنطوي على قدر غير قليل من الجدّة، وبما يجعل هذا الكتاب، كسائر كتب هراري، مساءلة فلسفية للأفكار أكثر من  كونه محض دراسة تقنية كتلك التي نشهدها في الأدبيات الخاصة بالمستقبليات والتنبؤات وديناميات الصيرورة البشرية في جوانبها كافة.

يُعرَف عن هراري (المولود عام 1976) وهو من المؤرخين الجدد في اسرائيل ولعه الطاغي بالموضوعات المتعلقة بإعادة مساءلة الوضع البشري وبخاصة في الجوانب المعنية بالإرادة الحرة، والوعي، والذكاء- المعرفي والاصطناعي معاً-، وهو يفرد تأكيدا خاصا في كلّ كتاباته على “الثورة المعرفية” والكيفية الثورية التي نقلت حال الإنسان العاقل إلى ما هو عليه في يومنا هذا، ولا ينسى هراري بالطبع دراسة كلّ الثورات الأخرى (الثورة الزراعية، الثورة العلمية…) وتأثيراتها الحاسمة في تشكيل معالم الحضارة البشرية. يُعرَفُ عن هراري كذلك أنه نشأ في عائلة يهودية علمانية ذات جذور لبنانية وأوروبية شرقية، وهو يتبع في حياته نمطا بوذيا خاصا ويمارس التأمل اليومي لمدة ساعتين: واحدة صباحا والأخرى مساء، ويرى أنّ بوسع التأمل أن يكون أداة بحث أصيلة تفتح مغاليق مجهولة أمام العقل البشري. يعرَفُ عن ’هراري‘ كذلك معارضته الراسخة للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين (والقضية الفلسطينية بعامة) ويرى أن السلطات الإسرائيلية تمارس نوعا من السيطرة والاستبداد تجاه الشعب الفلسطيني نابعا من الشعور الطاغي بالتفرّد المعرفي والفائقية التقنية، وهو لا يفتأ يذكّر بأنّ هذه الغطرسة الإسرائيلية شبيهة بذلك النوع من الاستبداد والعبودية الرقمية التي سيخضع بها البشر لسطوة الآلات المفكّرة بعد بلوغ الذكاء الاصطناعي تخوما غير مسبوقة في العقود القادمة.

المعضلات العظمى:   

يتناول هراري في كتابه مجموعة كبرى من المعضلات، و يرى أنّ التعامل الأفضل مع هذه المعضلات لا يكون بنكرانها بل بالاختيار الحكيم لما يستحقّ التفكّر فيه منها أولا، ثمّ في تحديد كمّ القلق الواجب ازاءها ثانيا. يتساءل هراري في مقدمة كتابه “ماهي التحديات الأعظم والتغيّرات المهمة التي تواجهنا اليوم؟ وما الذي ينبغي أن نهتمّ بشأنه من تلك التحدّيات؟ وما الذي ينبغي أن نعلّمه لأطفالنا؟”.

هيكل الكتاب:

يتوزّع الكتاب، إلى جانب مقدمته الثرية، على خمسة أقسام، متبوعة بعناوين فرعية ذات دلالة درامية، هي: “التحدي التقني”، ويتناول: التحرر من الوهم ، العمل، الحرية ، المساواة. “التحدي السياسي” ويتناول: الجماعة البشرية، الحضارة، القومية، الدين، الهجرة. “اليأس والأمل”، ويتناول: الإرهاب، الحرب، التواضع ، الإله، العلمانية. “الحقيقة”، ويتناول: النكران، العدالة، ما بعد الحقيقة، الخيال العلمي. ويختم هراري كتابه بعنوان غريب هو “المرونة والقدرة على التكيف في أشكال جديدة” وفيه: التعليم، المعنى، التأمّل.

يختلف هراري عن غيره من دارسي المستقبليات وتأريخ الأفكار والباحثين في الوضع البشري بعامة، حيث أنه لا يكتفي بتعريف المواضعات السائدة ومن ثمّ كتابة الوصفات الأنيقة والمختصرة اللازمة للتعامل معها، بل نراه دوما في كلّ كتبه يمتلك ولعا طاغيا في مساءلة الأفكار المعروضة وتعريفها، ومن ثمّ تناول شتى وجهات النظر بشأنها في سياق منظور ثري بالاستبصارات الفلسفية المدعمة بالوقائع التأريخية.

التجارب الفكرية:

   تعدّ التجارب الفكرية خصيصة فارقة تميّز أطروحات هراري ومقارباته الخاصة في دراسة التأريخ، وقد نجح نجاحا فائقا في نقل التجارب الفكرية من حقل الفيزياء النظرية إلى ميدان دراسة التأريخ. يطرح هراري على سبيل المثال في كتابه هذا تجربة فكرية ذكية لفهم الكيفية التي صنع بها البشر حضارة عالمية وبلغوا بهذا شأوا بعيدا، ويكتب في هذا الشأن “تخيّلْ محاولة تنظيم ألعاب أولمبية عام 1016. يبدو الأمر مستحيلا بشكل واضح؛ فالآسيويون والأفارقة والأوربيون لا يعرفون بوجود الأميركيين، وإمبراطورية ‘سونغ’ الصينية لا ترى أي إمكانية لوجود كينونة سياسية في العالم يمكن أن تعادلها بأي شكل من الأشكال؛ بل حتى ليس ثمة أحد من المشاركين يمتلك علما يرفعه أو نشيدا وطنيا يردّده في احتفاليات الفوز…”.

لماذا يبدو العالم في حالة انكفاء؟

 يتساءل هراري: بعد كلّ هذه الفتوحات العالمية في ميادين العلم والتقنية، لماذا يبدو الأمر وكأنّ العالم في حالة تراجع وانكفاء؟ يجيب هراري على هذا التساؤل الجوهري بأنّ السبب يكمن في أننا لم نعُد نطيق أبدا أدنى مظاهر البؤس والشقاء بالمقارنة مع ما كان سائدا قبل عقود خلت، ومع أنّ حجم العنف السائد في العالم أصابه تراجع عظيم (على غير ما يتوقع كثيرون) فإننا لا نفتأ نوجّه أبصارنا نحو هؤلاء الذين يموتون كلّ سنة بسبب الحروب لأنّ غضبنا أزاء مشاهد اللاعدالة والظلم قد نما نموا غير مسبوق، وتلك مزية أخلاقياتية العظمى يتغافلها الكثيرون نتيجة سوء فهم مزمن وإدراك قاصر يعجز عن رؤية الصورة العالمية في إطارها الشمولي.

العالمي والشخصي:

 يختصّ هراري في كتابه هذا بميزة فريدة تكمن في قدرته على جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم، ونراه يكتب بهذا الشأن في مقدمته للكتاب:

 “مع أنّ هذا الكتاب يتخذ منظورا عالميّ الأبعاد لكني لا أطرح المستوى الشخصي جانبا، بل على النقيض أنا أسعى للتأكيد على الروابط المتينة بين ثورات عصرنا والحيوات الفردية للكائنات البشرية. الإرهاب، على سبيل المثال، هو معضلة سياسية عالمية بمثل ما هو آلية سايكولوجية ذاتية، ويعمل الإرهاب من خلال الضغط على زرّ الخوف الماكث عميقا في عقولنا ومن ثمّ اختطاف الخيال البشري الخلاق للملايين من الأشخاص والاستحواذ عليه وتوجيهه نحو وجهات شريرة، والحال مشابه مع الديمقراطية الليبرالية التي تجري ممارستها لا في أروقة البرلمانات ومحطّات الاقتراع فحسب، بل أيضا على نطاق العصبونات والوصلات العصبية.

إنّه لمن الكلام المقطوع بصحته (الكليشيهات) القول أنّ القناعات الشخصية هي التي تحدّد شكل الهياكل السياسية، ولكن في عصر بات فيه العلماء والمؤسسات والحكومات يتلمّسون وسائل القدرة على تدجين العقل البشري فإنّ الحقيقة البدهية السابقة تكون أكثر مجلبة للشر ممّا سبق في عصور مضت، وعلى أساس هذه الحقيقة فإنّ هذا الكتاب يوفّر للقارئ مرتسمات بشأن سلوك الأفراد وسلوك المجتمعات ككيانات كلية”. 

* كاتبة عراقية

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.