صبحي حديدي *
مرّت، قبل أيام، الذكرى الأربعون لإلغاء عقوبة الإعدام بصفة نهائية في فرنسا، بلد الطبيب (نعم!) جوزيف إنياس غيوتين الذي اقترح في سنة 1789 آلة تتيح القتل «الرحيم غير المؤلم» استمدت تسميتها من اسمه: «المقصلة» التي استُخدمت للمرة الأولى لإعدام المواطن نيكولا جاك بلتييه، وسرعان ما انتقلت إلى ألمانيا وإيطاليا والسويد والمستعمرات الفرنسية في أفريقيا وغويانا والهند الصينية. ليس من دون دلالة خاصة، قاسية وحمّالة إشارات شتى، أنّ آخر استخدام للمقصلة، وقبل إلغاء العقوبة عموماً، تمّ لإعدام المهاجر التونسي حمودة جندوبي، بصفة غير علنية، في أحد سجون مرسيليا يوم 10 أيلول (سبتمبر) سنة 1977.
وكان فرنسوا ميتيران مرشح اليسار في الانتخابات الرئاسية لعام 1981 قد قطع على نفسه عهداً بإلغاء هذه العقوبة في حال فوزه بالرئاسة، الأمر الذي تحقق بالفعل يوم 17 أيلول؛ حين قدّم وزير العدل الجديد روبير بادنتر مشروع قانون يلغي العقوبة نهائياً، فصوّتت عليه الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) في اليوم التالي بأغلبية 363 ضدّ 117. وكان التصويت عابراً للحساسيات الإيديولوجية والخلافات الحزبية، اتفقت عليه شرائح واسعة في صفوف اليمين واليسار على حدّ سواء.
ولم يكن التوافق هذا غريباً، بالنظر إلى تكاتف عنصرَين بارزين، على تناقضهما: 1) التاريخ الدامي، والوحشي غالباً، الذي اقترنت به وسائل تنفيذ أحكام الإعدام، قبل عقود من ابتكار المقصلة (إحدى هذه الوسائل كانت ربط أطراف المحكوم بأربعة ثيران وإطلاقها في اتجاهات متخالفة لتقطيع جسده)؛ و2) القيمة المعنوية عالية التأثير، على المستويات الفلسفية والأدبية والحقوقية، للشخصيات التي أبدت معارضتها لعقوبة الإعدام ونشطت ضدها، وكان في صفوف هؤلاء أمثال فكتور هيغو وفولتير وجان جوريس ولامارتين، فضلاً عن ألبير كامو في أواسط القرن المنصرم.
وفي مقالته الشهيرة «تأملات حول المقصلة: المقاومة، العصيان، والموت» 1966، وهي نصّ لامع وثمين سوف تظلّ الإنسانية في حاجة إلى الاهتداء به في كلّ نقاش حول الأمر، كتب كامو: «عقوبة الإعدام تقوّض حسّ التضامن الإنساني الوحيد غير القابل للنقاش، أيّ التضامن ضدّ الموت، ولا يمكن أن تُشَرْعِن تلك العقوبة إلا حقيقةٌ مطلقة أو مبدأ أعلى، واقعان ما فوق الإنسان». كذلك أضاف كامو: «تنفيذ حكم الإعدام ليس مجرّد موت. إنه يختلف عن القضاء على الحياة، كاختلاف معسكر الاعتقال عن السجن. إنه يضيف إلى الموت قاعدة، وإصراراً مسبقاً علنياً برسم الضحايا القادمين، وتنظيماً يشكّل في حدّ ذاته عذاباً معنوياً أشدّ رهبة من الموت. عقوبة الإعدام هي الجرم الأشدّ ارتكاباً عن سابق عمد وتصميم بين كلّ الجرائم، ولا يُقارن بها أيّ فعل إجرامي مهما كان محسوباً. ذلك لأنه كي تصحّ المقارنة، ينبغي على عقوبة الإعدام أن تُنزل بمجرم أعلم ضحيّته مسبقاً بموعد موتها الرهيب على يديه، وتركها منذ تلك اللحظة تحت رحمة شهور طويلة من عذاب الانتظار. مثل هذا الوحش لا نصادفه في الحياة اليومية».
واليوم، في هذه الذكرى الفرنسية الأربعينية، تقول الأرقام العالمية إنّ 109 دول ألغت عقوبة الإعدام، وتحتفظ بها 55 دولة؛ وفي هذا العام، بلغ عدد تنفيذ أحكام الإعدام 2397 حالة؛ وينتظر 99432 شخصاً تنفيذ الحكم في زنازين مختلفة على امتداد العالم. الأعمق دلالة، والأشدّ خطورة بالطبع، هو أنّ أحدث استطلاعات الرأي في فرنسا تشير إلى 55٪ من مؤيدي إعادة تطبيق عقوبة الإعدام؛ بينهم 85٪ من أنصار حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف الذي تقوده مارين لوبين؛ وهذا ليس مفاجئاً، بالطبع، قياساً على ما يفاجئ في قليل أو كثير: 71٪ من أتباع «الحزب الجمهوري» الذي يزعم تمثيل التيار الديغولي في المشهد السياسي والحزبي الفرنسي.
ليس مفاجئاً، في المقابل، أنّ الهياج الشعبوي الأقرب إلى سعار جَمْعي من حول شخصية الصحافي الرجعي العنصري إريك زيمور، واحتمالات ترشحه لرئاسة فرنسا في انتخابات العام المقبل، ينطوي كذلك على إحياء عقوبة الإعدام؛ ليس، هذه المرّة، من منطلقات قضائية وجزائية بقدر التركيز على أنّ الجرائم التي يرتكبها المهاجرون عموماً، وأتباع الديانة الإسلامية خصوصاً، لا تليق بها عقوبات السجن مدى الحياة، بل يتوجب مواجهتها بالعقاب الوحيد الملائم: الإعدام. وضمن ما يشبه «نوستالجيا» متكاملة، ديماغوجية تعزف على أكثر من وتر حساس واحد، يندرج إحياء عقوبة الإعدام بمواقف متطرفة معادية للمرأة والمثليين والأجانب، بعد إسقاط الكثير من عناصر الحرج «الجمهورية» حول الحريات العامة والتعددية الثقافية وظواهر ما بعد الاستعمار.
وثمة بُعد آخر لمسألة عقوبة الإعدام يتعمد الكثيرون إغفاله، من باب الحرج أو التضليل أو التعمية، وهو الجذور الدينية/ القربانية لهذه العقوبة، وأنها مطابقة (حرفية أحياناً!) لطرائق التقرّب من الآلهة في المعتقدات القديمة، وتقديم الأضحية على سبيل الزلفى إلى الإله؛ وليست هذه الخلاصة جديدة بالطبع، بل يصحّ التذكير بأنها ظلت في خلفية معظم النقاشات المعمقة حول عقوبة الإعدام. وكي لا يذهب المرء بعيداً، كان الوزير بادنتر نفسه، في سياق دفاعه عن مشروع القانون الخاصّ بإلغاء العقوبة، قد نشر مقالة شهيرة في صحيفة «لوموند» قبل يوم واحد من التصويت، قال فيها: «غريبة حقاً هذه العدالة التي عندنا، عدالة ذات استيحاء مسيحي في فرنسا لم تعد مسيحية رسمياً. عدالة ذات تقليد ملكي، في فرنسا جمهورية». ومن الواضح أنّ بادنتر لم يكن يقصد التاريخ الدامي للقيّمين على الأديان، وليس حرق الساحرات أو الهراطقة أو محاكم التفتيش، بقدر ما كان يشدد على الطابع الشعائري والطقسي الذي اتسمت به أشكال شتى من تطبيق العقوبة.
ولهذا، ورغم أنه يهودي وسليل أسرة جزائرية مهاجرة إلى فرنسا، يخشى زيمور على فرنسا المسيحية من ازدياد أعداد المسلمين، ويمجّد تاريخ فرنسا المسيحي والعناصر المسيحية في ثقافتها العامة، في الملبس والمأكل والمشرب واللغة؛ وليس حماسه لإحياء عقوبة الإعدام سوى جزء عضوي، كما يجوز القول، من جهازه الفكري حول حاضر فرنسا ومستقبلها، الأمر الذي يفسّر قسطاً غير قليل من شعبيته. ومن منطلق «شطارة» لفظية وبلاغية لا تخفى، يتفادى زيمور التذكير بما يقترن بعقوبة الإعدام من وحشية وبربرية يريد لفرنسا أن تطوي صفحتها، مقابل إلصاقها حصرياً بهذه «الثقافات الدخيلة» التي يجلبها المهاجرون إلى البلد؛ فيزعم أنّ حماسه للعقوبة «فلسفيّ الطابع» يصعب مع ذلك أن تتخفى طيّ عناصره السمةُ الشعائرية للإعدام.
يقين هذه السطور كان، ويظلّ اليوم أشدّ رسوخاً، أنّ على الديمقراطيّ العربيّ (خصوصاً ذاك الذي يعيش تحت وطأة نظام استبدادي دكتاتوري مقيت، ويناضل لإسقاطه وتغييره) أن يناهض عقوبة الإعدام أينما فُرضت، وأياً كانت الجهة التي تُنزلها، وبصرف النظر عن أسباب إصدارها. وبهذا المعنى فإنّ واجب الديمقراطي العربيّ، المتطلّع إلى غد أفضل لأبناء وطنه وللإنسانية جمعاء، أن يكون موقفه صريحاً في رفض عقوبة الإعدام من حيث المبدأ، في حدّ ذاتها؛ ولاعتبارات متشعبة: أخلاقية وحقوقية وفلسفية، من جهة أولى؛ وأخرى تخصّ موقع الإنسان في النظام الديمقراطي، بصرف النظر عن طبيعة التناسب المطلوبة بين ضخامة الجريمة وشدّة العقاب، من جهة ثانية؛ ولأنّ النظام الديمقراطي لا يستبدل بربرية الطغيان بأخرى ما تزال بربرية حتى بعد إخضاعها لعمليات «دمقرطة» تجميلية على أيّ نحو، من جهة ثالثة.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.