الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ملف عبدالناصر

أحمد بهاء الدين *

     سوف يبقى كبيراً، بعد أن يختفي كل الذين هاجموه وأيدوه، وظلمهم وأنصفهم، وعاداهم أو صادقهم، ولقد تعرض لهجمة شرسة ولمّا تمضِ على رحيله سنوات قليلة، هجمة لا هي بالنقد ولا بالتقييم والتحليل، لأن النقد والتقييم والتحليل أمور واجبة، لكى نعرف تاريخنا وماذا حدث فيه، وحاضرنا وماذا نفعل به، ومستقبلنا وكيف نسلك الطريق إليه.

     وكل عهدٍ فى مصر وفي الدنيا، له خطاياه وكوارثه، وفى الديمقراطيات التي يتحدثون عنها يُقيمون فى أمريكا تورطها عبر عشر سنوات وثلاثة رؤساء فى فيتنام، بما راح فيها من ضحايا وأموال.. ويُقيمون فى إنجلترا قبل الحرب، كارثة عدم الاستعداد للخطر النازي وكوارثه على الحلفاء؟.. وفى فرنسا يُقيمون أربعة عشر عاماً من الحروب الاستعمارية الفاشلة انتهت آخرها فى الجزائر.

     القادة يخطئون، والمجتمعات كلها تخطئ.. ولكن القول بأنه لم يكن هناك سوى الخطأ هو الضلالُ الخطير.. لا نقول هذا استهانة بالأموال والأرواح والحريات الشخصية.. كلا، وليكن هذا كله منشوراً ومعروفاً للناس حتى لا يتكرر، ولا نقول هذا تكريساً لكل ما فات، فإن التغيير يجب أن يحدث، والديمقراطية دقت ساعتها، ولكن نقول هذا لأن كل مرحلة لها منطقها وظروفها التي تحاكم بها ومن خلالها، وللشعوب حاسة فى الحكم على رجالاتها من خلال ما خرجوا يحاربون من أجله ولو لم ينجحوا فيه.

     كان يقول مؤرخو العهد الملكي: إن عرابي انتهت ثورته بكارثة احتلال الإنجليز لمصر، وسعد زغلول انتهى حكمه بكارثة إخراج الجيش المصري من السودان وفصله عن مصر، ومصطفى النحاس انتهى حكمه والأحكام العرفية معلنة والقاهرة تحترق.. ولكن الشعب له رأيٌ آخر: هؤلاء هم أبطال حركته وتاريخه، وليس الطرف المقابل لهم: الخديو توفيق إزاء عرابي، والقصر والإنجليز إزاء سعد، وأحزاب الأقلية والقصر والإنجليز إزاء النحاس.. كذلك من يقول إن عبدالناصر انتهى حكمه بهزيمة 1967، فإنهم يعرفون، رغم كل قصور كان، أن الذين هزموه هم قوى الاستعمار والرجعية، لأنه خرج قبل 22 سنة يطلب أموراً عزيزة لبلاده، قلبت عليه الأعداء، وأوقعته آخر الأمر في الشرك.

     محمد على الكبير رجل عظيم، هذا صحيح، ولكن كان صاحب مذبحة المماليك في القلعة، وبعد ذلك طاردهم وأعوانهم فيما يشبه الحرب الأهلية، ثم تملك الأرض كلها وأثقل كاهل الفلاح إلى أقصى الحدود، ثم أنفق المال على إيجاد أداة القتال، وسار بجنوده إلى السودان وشبه الجزيرة العربية واليونان وسوريا حتى قلب تركيا، ولكن من خلال هذا كله وبإدخال عوامل المكسب والخسارة أقام أول دولة لمصر الحديثة، وهز المنطقة هزاً عنيفاً من سباتها، ودق أكبر مسمار فى نعش الإمبراطورية العثمانية.

     عبدالناصر أيضاً غيَّر خريطة مصر من الداخل، وغيَّر العالم العربي، وأسهم فى تغيير الدنيا كلها.. حارب بسياسته ودعوته فى كل أرض عربية، وحارب بنفس الأسلحة فى آسيا وأفريقيا، وأرسل قواته محارباً بالسلاح فى اليمن، وخاض مع إسرائيل حربين، وانتهى كما انتهى محمد على: تحالفت عليه الدنيا لتهزمه وتعيده إلى داخل حدوده، ولكن التغيير حدث.. رحل الاستعمار عن مصر والعالم العربي.. صار لمصر والعالم العربي وضع آخر تماماً.. انتصرت حركة التحرر فى أفريقيا وآسيا.. لعبت سياسة عدم الانحياز دورها الفعال فى العالم.. ليست هذه مصر فاروق المهترئة، إنها مصر 23 تموز/ يوليو المهيبة حتى فى أيام نكستها.

     وفى الداخل.. قلبَ صفحة وفتحَ صفحة جديدة تماماً.. فلم يعد ممكناً العودة إلى الصفحة السابقة.. إنما الممكن هو الاستمرار إلى صفحة تالية.. أنصف ملايين العمال والفلاحين، أقام مئات المصانع.. أوجد قاعدة الصناعة فى صورتها المادية وهى المصانع، وفى صورتها البشرية وهى مئات آلاف الفنيين والخبراء والمديرين والعمال المهرة.. كان أول من أمم مرفأً دولياً كالقناة بنجاح، فخلق السابقة فى العالم كله، وأول من كسر احتكار السلاح، فغير معطيات دولية كثيرة، تصدى للمعسكر الغربي فى قواعده ومناطق نفوذه فى العالم العربي حتى أخرجها، وتصدى للمعسكر الشرقي في العراق 1958، حتى أعاد الأمور إلى الإرادة العربية المحلية.. ولا بأس بعد هذا كله إذا مات مثخناً بالجراح ممتطياً صهوة جواده، محارباً لا راكعاً ولا مستكيناً، ولكنه، كمحمد على، ترك مصر جديدة مهيبة فى الداخل والخارج، حتى وإن كانت آخر جولة، فى الحالتين، كسبها الأعداء الأقوياء.. لهذا حين تنحى، وحين مات، خرجت الملايين تبكيه.. مظاهرات موجهة؟.. كلا.. فقد عمت العالم العربي أكمله إلى حيث لا يمكن أن تصل ذراعاه.

يطالب البعض بفتح الملف.. مرحباً بشرط فتح كل الملفات.

* كاتب و مفكر مصري و رئيس تحرير الأهرام سابقا

المصدر: الأهرام في 27 أيلول/ سبتمبر 1974

التعليقات مغلقة.