بعد أن أثرى الساحة العربية بمؤلفات ساهمت في تشكيل فكر ووجدان أجيال كاملة، غيّب الموت المفكر والروائي السوري البارز «مطاع صفدي»، أمس الاثنين، عن عمر ناهز الـ87 عامًا، كان خلالها حاملًا لراية التنوير الفكري في العالم العربي سواء من خلال مؤلفاته الفكرية أو من خلال كتاباته في الصحف والمجلات العربية التي أضاء فيها على الكثير من أوجه الخلل في العالم العربي، والتي تحتاج للوقوف عندها. “العرب” نقلت جملة من آراء بعض الكتاب والمثقفين حول الراحل.
ولد المفكر السوري عام 1929، غلبت النزعة الوجودية القومية على مساره الفكري في البداية، لكنه انتقل فيما بعد لفلسفة ما بعد الحداثة التي أصبح واحدًا من روّادها وكتب العديد من المؤلفات في الحديث عنها، وعلى رأسها كتابه الهام “نقد الفكر الغربي-الحداثة ما بعد الحداثة”.
بدأ ’صفدي‘ رحلته مع الكتابة في خمسينات القرن العشرين، من خلال كتابة المقالات النقدية والكتابات القصصية، ثم كتب أعماله الروائية البارزة وهي “جيل القدر” و”ثائر محترف” و”الآكلون لحقوقهم”، إلا أن طغت الدراسات الفلسفية على أعماله فكتب العديد من المؤلفات الفكرية الهامة مثل “فلسفة القلق”، “الثورة في التجربة”، “استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية”، و”نقد العقل الغربي-الحداثة ما بعد الحداثة”، فضلًا عن ترجماته لعدد من المؤلفات الهامة ومقالاته في مجلة “الفكر العربي المعاصر” وغيرها من الدوريات.
يوصف ’صفدي‘ من قبل البعض بأنه فيلسوف إشكالي، آمن بإمكانية نجاح النهضة العربية الثانية لكن بالترافق مع حركة تنوير المجتمعات العربية بإخراجها من عقلها الأسطوري الغيبي إلى العقل الخلاّق. بعد انخراطه الطويل في العمل الحزبي من خلال “حزب البعث” استقال ووضع مؤلفاً بعنوان “حزب البعث، مأساة المولد مأساة النهاية” في العام الذي غادر فيه سورية إلى بيروت.
زمن الهول:
يأتي رحيل المفكر والأديب، في زمن الهول وتغوّل الاستبداد والفظاعة من القتل والخطف والذبح والتكفير والتدمير، زمن غياب العقل وتمزيق الجسد السوري، وهو المشهود له في إنتاج المعرفة وبناء المفاهيم وتشكيل الحقائق والتأثير في الرأي العام، وطرح رؤى ومواقف فكرية انحازت بشجاعة نادرة إلى ثورة شعبه، فساهم بكتاباته في دعم وتصحيح مسار الثورة التي سعى ومازال يسعى كثر لسرقتها وحرفها عن مسارها بما يخدم مصالح أعداء الحرية والمستقبل.
وكان الراحل أكد في نيسان/ أبريل الماضي في مقال له حمل عنوان “رحيل الرئيس إنقاذًا للدولة والثورة معًا” جاء فيه “ما دامت قضية بقاء النظام أو زواله لم تجدَ لها حلًا بين قطبيْ النفوذ الأجنبي في سورية الروسي والأميركي، فكأن السنوات الخمس والست العجاف التي عاشتها الشام ومعها معظم قضايا المنطقة الحيوية، كأنما لم تكن هناك حرب وأهوال وملايين الضحايا. كأن البلاد لا تزال في الأيام الأولى من انفجار ثورة الشباب الحرة”. وأضاف “هل من المعقول في شيء أن ينظر إلى الثورة كما لو أنها لم توجد قط، وأن الناس جميعًا ما زالوا سائرين، ولو نيامًا، في تلك المظاهرة الرمزية الكبرى التي كانت تنادي “الشعب يريد إسقاط النظام”.
«مطاع صفدي»، الذي اختار باريس مقرًا لإقامته، وهو مؤسس مركز الإنماء القومي ورئيس تحرير مجلة الفكر العربي المعاصر التي ظل يصدرها حتى الشهر الماضي، عرفت عنه النزعة القومية والفلسفة الوجودية، والقومية كمذهب فكري وسياسي يؤمن بوجوب العمل على إحياء الذات الحضارية والوجودية كموقف فلسفي يلزم بتحمل عبء الحرية. وكان أن انتمى في مطالع شبابه إلى حزب البعث في سوريا، لكن سرعان ما تركه بعد ما تبين له أن الحزب لم يكن يخدم الأهداف الحضارية العربية التي كان ينشدها.
فيلسوف حقيقي:
الكاتب السوري الدكتور بدر الدين عرودكي، نعى الكاتب والمفكر الراحل، في حديثه مع “العرب” قائلًا “مثلما شهد الأستاذ والمثقف والكاتب والروائي والفيلسوف والمناضل «مطاع صفدي»- وبهذه الصفات كلها- قبل أن يرحل نهاية حزب البعث التي سبق له أن استخلصها إثر تجربة حية وتحليل نظري صارم منذ عام 1966، شهد كذلك الثورة السورية التي حلم بها منذ ذلك الحين وكان فيها ومعها منذ انطلاقها من درعا ودمشق على سنواته التي أربت على الثمانين.. لكنه أيضاً رأى بأمّ عينيه كل ما كان سبق ورآه بعين التحليل الصارم من البقع والبثور ومواقع القيح التي استمر الاستبداد في استثمارها ضد السوريين كما كان وكما هو ديدنه منذ خمسين عاماً.
وتابع “شاباً كان لم يغادر فكره فضاء الشباب ونضارته وتفاؤله وكذلك ثوراته البركانية.. وككل فيلسوف حقيقي، لم يكن هذا الفكر يعرف الشيخوخة، وما كان له أن يعرفها وهو الذي أدركته التجربة نظرا وفعلاً ولم يكن قد غادر بعدُ العشرين من سنوات عمره”.
واستطرد ’عرودكي‘ “كان من أوائل الشباب الذين انضووا تحت راية البعث في بداية خمسينات القرن الماضي، لكنه كان أيضاً أول من ثار على هذا الانضواء حين لمست أصابع حساسيته الفكرية مواضع الخلل العضوي في هذا الجسم الذي تمكّن العسكر من اتخاذه ظلاً لمطامحهم ومبرراً لحماقاتهم ثم جرائمهم. فغامر في الكتابة الروائية والقصصية والمسرحية، ومارس الفلسفة والكتابة الفلسفية التي لم يتخل عنها يوماً، سواء في مشكلاتها الكبرى أو في تجلياتها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية”.
وأضاف في حديثه عن المفكر الراحل “كان إلى ذلك كله صاحب أحلام ثقافية لا حدود لها.. فمن الموسوعات التي حلم بإنجازها وأنجزها (موسوعة الشعر العربي) إلى مراكز الأبحاث، والمجلات الثقافية في صيغها المتوالية: ‘الفكر العربي’، ثم ‘الفكر العربي المعاصر’ وربيبتها ‘العرب والفكر العالمي’.. إلى آلاف المقالات وعشرات الكتب التي كانت تحاول على الدوام طرح الأسئلة التي تمليها عليه هموم المجتمع الذي ينتمي إليه والثقافة التي لم يتوقف عن المشاركة في بنائها إبداعاً ونقداً وتحليلاً. يرحل مطاع صفدي في غمرة المأساة التي يعيشها وطنه وثقافته وأهوال المستقبل التي تلوح في الأفق لهما.. وما أشدّ حاجتهما إليه وإلى أمثاله في غمرة هذه المحنة الكبرى..”.
ثائر محترف:
الكاتب والروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، قال “تعرفت عليه في وقت باكر من خلال أعماله، فكانت أول قراءاتي له رواية “ثائر محترف” ووجدتها عملاً عظيماً يجب التوقف عنده، وظلت تلك الرواية محفورة في وجداني وذاكرتي منذ قرأتها وحتى الآن، بعد ذلك قرأت له مجموعة قصصية وروايته “جيل القدر”، ثم تابعت أعماله وكتاباته الفكرية في مجلة “الفكر العربي المعاصر”، ومن أهم الكتب التي قرأتها له “نقد العقل الغربي-الحداثة وما بعد الحداثة” لأنه تناول فيه أحد المسائل المهمة المتعلقة بتفكيك الحداثة. لقد كان الراحل متطورا في تفكيره ومن كبار المفكرين في العالم العربي، أقدّم العزاء فيه للأمة العربية جمعاء”.
من جانبه، قال الناقد المصري حسام عقل في نعيه لـ «مطاع صفدي» “لا شك أن رحيل هذا المفكر يمثل ضربة من الضربات القاسمة لفكرة الحداثة الأدبية العربية عمومًا، فقد كان الراحل يجمع في حداثته على ما نقرأ له عبر سنوات وعقود بين الحس الحداثي ممثلاً في قضية أساسية وهي الحريات المدنية وما يتفرع عنها من قضايا أخرى ترتبط بها كالعدالة الاجتماعية والحياة النيابية السليمة وبين صون القيم التراثية واستبقاء القوائم للولاءات الكبرى في الثقافتين العربية والإسلامية، ويبدو ذلك بصفة خاصة في كتابيه نقد العقل الغربي وفلسفة القلق”.
واستطرد ’عقل‘ “يحسب لـ «مطاع صفدي» أنه ممن يؤمنون بالعمل المؤسساتي ووجوب انخراط الجميع في مؤسسات فاعلة عوض الجهود الفردية المبددة، وبدافع من ذلك أسس المركز القومي ليكون الاشتغال بالفعل الفكري على أسس حداثية قائمة على المؤسساتية، كان يؤمن بدور الدوريات الفكرية الناضجة في تغيير أنساق الوعي ويبدو ذلك بوضوح في مجلة “الفكر العربي المعاصر” التي رأس تحريرها”.
الروائي والناقد المسرحي العراقي عواد علي اعتبر أن مجلتي “الفكر العربي المعاصر” و”العرب والفكر العالمي”، اللتين أصدرهما «مطاع صفدي»، كانتا من أبرز مصادر المعرفة لنا نحن الشبان المهتمين بالاتجاهات النقدية والفكرية الحديثة في بغداد. وكانتا بالنسبة إليّ شخصياً مرجعا أساسيا في الكتابة عن المنهج السيميائي وتطبيقاته في النقد المسرحي. إضافة إلى أنني كنت أقرأ فيهما كتابات «مطاع صفدي» الفكرية، ومن خلالهما عرفت عن كثب عمقه الفلسفي ورؤيته النقدية الرصينة. لكنّني اكتشفت فيما بعد أنه واحد من أبرز الروائيين العرب الذين مثّلوا ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”التيار القومي” في الرواية العربية، من خلال روايتيه “جيل القدر” و”ثائر محترف” اللتين صدرتا عام 1960 و1961 على التّوالي.
واعتبر ’عواد‘ أن الرواية الأولى عمل سردي ذو طموح فكري مؤداه إثراء الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية ضمن إطار المواجهة الفكرية والسياسية التي كانت على أشدها في خمسينات القرن الماضي مع تيارين أيديولوجيين كبيرين هما الأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية الدينية، أيام النظام العسكري الدكتاتوري (أديب الشيشكلي)، وبعد سقوطه وعودة الحياة الديمقراطية، وصولا إلى الوحدة بين سوريا ومصر. ويمكن القول إن هذه الرواية تتوقف على حافة اليأس الذي عاناه الجيل القومي والحركة القومية.
أما الثانية فهي تتخذ الحرب الأهلية في لبنان عام 1958 إطارا لها، تنتهي إلى كسوف كامل يتجسد مادياً بصورة لا لبس فيها ربما لأنها عبّرت عن الهموم والأزمات والتطلعات والخيبات نفسها بطريقة أكثر حيوية وفنية نظراً للسياق الذي جرى اختياره لأحداثها.
وخلص إلى أنه رغم النقد الذي وجهه بعض النقاد إلى هاتين الروايتين، من الناحية الفنية، أو البنية السردية، فقد حاول فيهما مطاع صفدي بلورة “التيار القومي” في الرواية، من خلال مجموعة خصائص أشهرها أكثر من ناقد، منها: التأكيد على الأمة كإطار استنادي وكأساس انتماء في آن واحد بدلاً من صراع الطبقات وجعل الشخصية الروائية مركز الاهتمام بوصفه مرآة. فكل إنجاز يجب أن يتحقق فيه قبل كل شيء. وهذا ما يعطي لكل خيار ولكل سلوك فردي بعداً تاريخياً. عدم إيلاء الحدث أهمية بوصفه نقطة تمفصل في العمل الروائي على أساس أن الهدف ليس مجرد تقديم واقع ما أو وصفه، وإنما قول صيرورة الشخصيات نفسها.
إبداع فكري:
الكاتب السوري محمد عبيدو نعى الراحل بقوله “شهر واحد فقط يفصل بين رحيل جورج طرابيشي وغياب مطاع صفدي مع تواصل مشاهد الخراب الذي دمر كل شيء وأوصلنا إلى الهاوية، ومع غيابهما عاد الحديث في اشتغالات الفكر العربي عبر أكثر من نصف قرن، هما من طينة مثقفين سوريين كما ياسين الحافظ وإلياس مرقص وطيب تيزيني تركوا أثرا في كينونة أجيال تربت على كتاباتهم”.
وأضاف ’عبيدو‘ “بقي ’مطاع‘ أمينا في مساره لانشغالاته وهواجسه ورؤاه منذ بدأها أواخر خمسينات القرن الماضي كتابة وجدلا فكريا وفلسفيا وإبداعا أدبيا، هو لم يكتب عن التراث بقدر مقاربته الحداثة والمعاصرة وصولا إلى ما هو إبداعي في إنتاج الأفكار والقيم والمفاهيم.. تجربته تأسيسية وهو دوما كان يرى أن النهضة و التغيير في المجتمع العربي يسيران ضمن خطين متوازيين هما التجربة التي نعيشها والتجربة العالمية.. وهذا ما طبع مجلته “الفكر العربي المعاصر” التي أمدت جيلنا بأفكار الحداثة وجدل العقل والحفريات المعرفية في أعلى مستوياتها بالفكر الأوروبي، وإن كان نشاطه محصورا بالنخب أكثر من الجمهور الواسع رغم صلة مشروعه الفكري بمستقبل الإنسان العربي”.
آخر فرسان القدر:
بدوره اعتبر الشاعر والناقد التشكيلي العراقي فاروق يوسف رحيل «مطاع صفدي» غياباً لآخر فرسان “جيل القدر”. ذلك الجيل الذي لعب دوراً عظيماً في صناعة الأمل، في مرحلة قلقة، كان مخطط الخروج منها واضحا، لكن على الورق. كانت النظرية بالنسبة إلى صفدي هي الأهم. فلم يورط نفسه في الاشتباك بالواقع، بما أنتجه ذلك الواقع من تجارب ثورية (قومية) أرادت القفز بالمجتمع فوق النظريات.
لذلك التزم ’صفدي‘ الصمت ولم يعلق على ما كان يراه متعففاً من الدخول في صدام مع انقلابيين، سرقوا الشعار ولم يُمعنوا النظر في الفكرة. لربما وقف ذلك التعفف وراء شغف صفدي بالأفكار الجديدة وتحوّله من الحداثة إلى ما بعدها بخفة. كان ’صفدي‘ رجل ثورة حالما لم يمد يده إلى الواقع بقصد تغييره بقدر ما مد بصره بعيدا إلى المستقبل محذرا ومنذرا بلغة لا تخفي أناقتها ودقة معانيها.
وقال الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب إن رحيل المفكر ’صفدي‘ يشكل خسارة أخرى كبيرة للفكر العربي المعاصر في زمن لم يعد فيه فكر عربي. يحسب لـ «مطاع صفدي» محاولاته الجادّة في التأسيس لفكر عروبيّ حداثيّ ديمقراطيّ حرّ. وإذ كانت الثورة السوريّة العظمى ضدّ النظام الأسديّ المجرم اختباراً قاسيًا للمثقّف العربيّ والثقافة العربيّة، فإنّ «مطاع صفدي» كان واحدًا من المفكّرين الذين نجوا بوعيهم الرافض لأنظمة القمع مهما يكن لونها الأيديولوجي وذرائعها السياسيّة. لقد كنّا بحاجة إلى عقلاء يقرأون ما يحدث في سوريا من هذيان، وكان ’صفدي‘- رحمه الله- واحداً من العقلاء الذين تشبّثوا بضرورة البقاء خارج منطقة الهذيان رغم فداحة الدم وتأثيراته على الوعي. رحم الله «مطاع صفدي» المفكّر الشريف المجتهد الذي لم يخن وعيه النقديّ، ولم يخن دم أهله من ضحايا الطاغية في دمشق. سيمرّ وقت لكي نملأ الفراغ بعد رحيله.
أما الروائي والقاص المغربي مصطفى لغتيري فرأى أن “الحديث عن «مطاع صفدي» حديث متشعب وذو شجون، فالأمر لا يتعلق برجل عادي، بل بمدرسة فكرية وثقافية ووطنية وقومية وإنسانية، استطاعت أن تشكل بكثير من الألق ذهنية ووجدان أجيال من المثقفين، ويمكن تحديد الأقانيم الفكرية لهذا العلامة في الفكر القومي الذي انبثق من حب عميق وإخلاص لا غبار عليه للإنسان العربي، فقد آمن ’صفدي‘ بحق العربي في الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي وبناء كيان عربي موحد يحقق للإنسان العربي الحرية والتقدم المنشودين، لهذا كان احتفاؤه الكبير بالوحدة ما بين مصر وسوريا وقد مجّدها كثيرا في كتاباته”.
وأضاف “لغتيري” “كما أنه لامس إنسانيته من خلال تأصيل الفكر الوجودي في التربة العربية وخاصة عبر تمجيده للحرية التي تعد البنية العميقة للفلسفة الوجودية، ولم يكن هذا النوع من التفكير بذخاً لدى «مطاع صفدي»، بل ضرورة، إن لم نقل ضرورة الضرورات، عبر ربطه بواقع العرب ومصيرهم، الذي آمن دائماً بأنه اختيار لا بد منه، ولا يمكن سوى أن يتجلى في وطن مستقل وقوي يؤدي كتحصيل حاصل إلى الوحدة العربية المرتجاة”.
ضربة موجعة للفكر:
من جهته اعتبر الشاعر والروائي التونسي شفيق الطارقي رحيل المفكر «مطاع صفدي» ضربة موجعة للفكر العربي بكل المقاييس، في مرحلة نحن فيها أحوج ما نكون إلى الأصوات المنشقة وإلى الأفكار المكرّسة للوعي، المتنطّعة عن الجاهز والنمطي، مطاع لحظة مميّزة في الفكر العربي المعاصر، جمع فيما أنتج بين الفكريّ وبين الإبداعيّ، فأثبت جدارته في الصّناعتين، وتوّج حضوره بأعمال لها وجاهتها على الصّعيدين العلميّ والفنّيّ، مقنعا وممتعا”.
ويضيف “لم يكن فكر ’صفدي‘ بالمتعالي بل إنّ وشائج تصله بالواقع، براهن الأمّة وبأحوال العالم، يقارب الأحداث مقاربة المتفاعل ناهضاً بالمهمّة الأوكد لكلّ مفكّر حرّ في استنهاض الوعي وتحفيز الأنفس على التّغيير والتّطوير، لقد جاب آفاقا لم تكن من قبله مفتوحة، وأسّس لبدائل، مستحثّا قارئه العربيّ على إعادة النّظر في ذاته وفي الآخر، وعلى إعادة النّظر في أدواره بصفته عربيّا وبصفته إنسانا كونيّا. «مطاع صفدي» الفيلسوف الذي قارب القلق بأدوات معرفيّة أصيلة، و’مطاع‘ الذي ألّف بين الثّورة والتّجربة، فقرّب النّظريّ من العمليّ، ناظرا في الشّروط التّاريخيّة والموضوعيّة المنتجة للثّورة، و’مطاع‘ الباحث في الأنظمة المعرفيّة وفي استراتيجيّة التّسمية من منطلقات بنيويّة وتفكيكيّة وبآليّات ماركسيّة، و’مطاع‘ النّاقد للعقل الغربيّ بعد أن وعاه وتمكّن من أنساقه الفلسفيّة ومن مراحل تشكّله وتطوّره ومن شبكة المفاهيم الّتي تمثّله وتدير قوانينه، إنّه في كلّ ما جادت به قريحته واحد منسجم مع ذاته ومع هويّته ومع حيرته إزاء الواقع باحثا لها عن ضوابط تحدّها وعن يقين معرفي يؤصل حضورها، ولعله من المفكرين القلائل الذين زاوجوا بين عمق الفكرة وجمال العبارة، فقد كان خطابه في كل ما كتب أخّاذا، يبسط بين يديك أكثر الأفكار تعقيدا بلغة سلسة، منسابة لا تعدم جمالا، جامعا بين الوظيفتين التّأثيرية والجماليّة الإنشائيّة، وهو إلى ذلك أديب منوع، وروائي ألمعي، سالك فيما سرد لسمت الوجوديين”.
ويختم ’الطارقي‘ بقوله “هكذا تتّسع خساراتنا، ويبقى الأمل أن نقرأ ’مطاع‘، فالقراءة للمفكر أو للأديب هي أصدق أشكال التّرحّم، وأجملها، علينا أن نقرأه لنمتلئ بكيانه الزّاخر والمتعدد بأبعاده، المفكرون من طينته هم أنبياء عصرنا وفيما أفنوا حياتهم يمكث الأمل، الأمل في إنسان عربي جدير بهذا الوجود”.
الكاتب الصحافي السوري أحمد كمال قال إنه في زمن صار فيه انتماء الإنسان إلى لسانه العربي، تهمة ونقيصة وعنصرية، أطل مطاع الصفدي بهامته العالية ليقدم النموذج الساطع على عروبة حرة، ومتحررة، منحازة للإنسان دون تردد ودون وجل.
وفي حين دخلت فيه التنظيمات الحزبية القومجية أفواجاً تحت جنح أبشع الأنظمة المستبدة في الوجود، كان الراحل الكبير «مطاع صفدي» يقف مع الجماهير العربية التي تحارب هذه الأنظمة بكل ما أوتيت من قوة.
وفي وقت باتت العروبة معنى محاطاً بالشكوك حول فحواه ومؤداه، لم يتردد مطاع الصفدي في أن يصدح بأن الحرية والمساواة والثورة على كل ظلم، هي جوهر العروبة ومؤداها.
رحل «مطاع صفدي» بينما الجماهير الثائرة في أمسّ الحاجة إلى المثقف الذي يسير إلى جانبها، وبين صفوفها، على أرض الواقع، وتحتاج إلى المثقف الذي يتميّز عن حشد المثقفين المأزومين، الذين يقذفون شعوبهم، وهي في أصعب لحظات وجودهم، بأطر وقوالب نظرية خيالية، ويطلبون منهم قص أجسادهم وأرواحهم لتصبح على مقاس هذه القوالب السقيمة.
ورحل «مطاع صفدي» وقد اجتمعت كل وحوش الأرض لتمزق أشلاء أمته. رحل و”قاسم سليماني” يصبح في حلب ويمسي في بغداد ويأمر في بيروت وترفع صوره في صنعاء. رحل و”صالح مسَّلم” محتار في أيهما يحتل أولاً “عاصمة الرشيد” أم “بلد المتنبي وأبو فراس”. رحل والبحر الذي كان يوماً “بحيرة إسلامية” يبتلع كل يوم مئات من الذين يفضلون الموت غرقاً على العيش في وطنهم المسلوب.
رحم الله «مطاع صفدي»، ولا عزاء في رحيله إلا أن ما كتب يجيب على كل أسئلة الحيارى التائهين، في هذه اللحظة التاريخية المفصلية الأخطر.
الروائي العراقي محمد حيّاوي قال إن «مطاع صفدي» رحل ولم يشهد نتائج تنظيراته العميقة بشأن المشروع العربي وتبلور حركة ما أسماه الثورة العربية، مات تاركاً خزيناً ثرّاً من الطروحات الفكرية والرؤى الفلسفية التي تصلح كمنصة لتأسيس فلسفي فكري وجودي قومي عربي إن جاز التعبير، بعد أن نشط منذ خمسينات القرن الماضي في مجال ترصين الطروحات الفكرية القومية بإخلاص ومثابرة، منذ تأسيسه مركز الإنماء القومي ومجلة “الفكر العربي المعاصر” ذائعة الصيت. وعلى الرغم من كثرة المختلفين معه فكرياً والمناوئين لطروحاته، إلا أن الرجل بقي محتفظاً بأخلاقيات المفكّر ونبله وتواضعه وانفتاحه بعيداً عن التزمت والتعصب. لقد أثارت طروحاته المتعلّقة بكينونة العرب وماضيهم وآلية تكييف ذلك الماضي وفق وسائل العصر الحديث، الكثير من التساؤلات، وأجريت معه العشرات من الحوارات والمناقشات، خصوصاً فيما يتعلق بالثورة السورية مؤخراً.
كان ينظر إلى تلك المفاهيم كمتغيرات خاضعة للتطورات والتفاعلات في عمق المجتمعات العربية وليس كمقدسات صمّاء لا يرتقي إليها الشّكّ، وكان لا يخجل أو يتردد من مواءمة تلك الأفكار والمتغيرات على أرض الواقع العربي المضطرم بالتفاعلات، أحياناً يضعف إيمانه بالثورة نتيجة لكثر الأدران التي يعتقد أنّها قد علقت بها، وأحياناً يتفاءل بالتغيير الحاصل لا محالة كنتيجة حتمية لحركة التاريخ، لكنّه في جميع الأوقات وأحلكها سواداً لم يفقد إيمانه وعزيمته ومناداته بضرورة استعادة الكرامة المفقودة للإنسان العربي وهو جوهر فكره وفلسفته التي ما فتئ يطورها مستلهماً الطروحات الفكرية الغربية المتقدمة والموغلة في الحداثة، لا سيما الجديدة منها مثل طروحات جيل دولوز وميشيل فوكو وغيرهما من الفلاسفة الجدد.
لم ينطلق ’صفدي‘ من الماضوية العربية في جميع الأحوال، بل وجد نفسه ساعياً بين المعاصرة والحداثة كما يقول في أحد حواراته، وطالما اعتقد بأن المشروع الثقافي الغربي أعلى من مشروعنا الثقافي العربي وأنّنا نعيش على هامشه، مرّة نتصدى له بالسياسة ومرّة بالفكر، من دون أن نبتكر أو نجترح أيديولوجيا معينة تتجاوز الواقع العربي الراهن الذي يعيش مكانياً، من وجهة نظره، في حاضر العالم، لكن زمانياً عاجز عن مواكبة الحداثة والمعاصرة.
ورأى أن المفكر وعلى الرغم من إيمانه بحتمية الثورة، إلّا أنّه في السنوات الأخيرة بات يُحذّر من الهزائم العربية المتتالية وضياع الذات العربية وسط فوضى الإخفاقات السياسية والعسكرية، ناهيك عمّا أسماه الفواجع الثقافية.
وختم ’حياوي‘ قائلا بالتأكيد غياب مطاع صفدي في مثل هذا الوقت الحرج عربياً وهذه المرحلة التي لم تشهد حسماً حقيقياً بعد، لا على صعيد الثورة ولا على صعيد المعركة الفكرية والاشتباك الفلسفي، سيترك فراغاً حيوياً يصعب تعويضه في الحقيقة، وليس لجدل الحداثة وتأطيرها بالبعد الواقعي بديل، على الأقل في هذه المرحلة الشائكة، وربما يعدّ غيابه عن الساحة هزيمة عربية أخرى من نوع الهزائم المتآلفة ضد العرب منذ بداية التاريخ على حدّ قوله.
تاريخ فكري:
رأى الكاتب الروائي والصحافي ماجد صالح الســـامرائي أن ’صفدي‘ هو المفكر الذي لم يغادر قضيته. وقال: يوم كنتُ ألتقي «مطاع صفدي»، في بغداد تسعينات القرن الماضي، وفي بيروت الألفية الثالثة، كنتُ أشعر أنني ألتقي “تاريخاً” فكرياً وإبداعياً مختلف الأطروحات في ما يكتب في الفكر، ومغايراً في إبداعه للسائد الإبداعي في كل مكان، سواء في عصره الذي ابتدأ مع أواخر خمسينات القرن العشرين، أو في ما تواصل معه، بما حمل من تميّز، في ستينات القرن نفسه.. ولم يكن في ما يكتب بعيداً عن أحلامنا، نحن الجيل الذي كان هو من معلميه البارزين.. والذي تشرفنا بالتسمية التي وهبتها المرحلة لنا “جيل القدر”.
وقرأنا “جيل القدر” الرواية التي كتبها «مطاع صفدي» باحثين فيها عن صورة جيلنا، أو صورة جيله الذي نعرف، وقد خاض التجربة، كما علّمنا أن نخوضها، من أجل قضية..
وقرأنا كتابه الفكري “الثوري والعربي الثوري” باحثين فيه عن هواجس المفكر الذي يكتب في زماننا عن شؤون زماننا، فكنا كمن يستطلع ما تقوله الكلمات التي يقرأ، ونتطلع الى أن نكون بما نقرأ: تكويناً فكرياً، وتطلعاً الى الغد الذي تنكّب جيل مطاع صفدي مهمة بنائه على أسس من المثل الثورية التي حملها كتابه هذا.
ثم، من بعد، انكسرت به، وبنا، “قوادم الأحلام”، فإذا واحدنا يجد نفسه في صورة “الفارس القديم”، ولكن من دون أن نذهب، أو يذهب بنا في مسارات اليأس، بل ظلّ الفكر عنده ذلك الأفق المفتوح على المستقبل الذي كان يعنيه أكثر ما يعنيه، وقد “منعه” موقفه هذا من التردد على “شواهد الماضي”.
اليوم.. نحن في حاجة إلى إعادة قراءة «مطاع صفدي» لندرك أيّ مفكر كان في إهابه، وأي مفكر كان.. هو المتقدم على عصره، دائماً، وأيّ شخصية، لها ما له من تاريخ، خسرت ثقافتنا العربية بغيابه؟
الجيل الذهبي:
اعتبر باسم فرات المفكر الراحل من الجيل الذهبي، وهو مصطلح ينطبق على تلك الصفوة من الكتاب والمبدعين الذين ولدوا قبل قرار تقسيم فلسطين، والذين صاغوا وعينا بنتاجاتهم في مجالات عدة، كالشعر والرواية والقصة والمسرح والنقد والفلسفة وترجمات خطاب الحداثة وما بعد الحداثة؛ وما أنجزوه من كتب ومقالات نقدية تفكيكية للتراث والمجتمع العربي وبناه الفكرية والاجتماعية والثقافية عموما.
جيل أثمرت جهوده وطروحاته خلق شعور بأن الوحدة العربية ضرورة تحتاجها شعوب المنطقة كافة. أي حتى أولئك غير العرب، ومثال ذلك الأحزاب الشيوعية التي كان قادة بعضها ليسوا عرباً مثل الحزب الشيوعي السوري، بل حتى الحزب الشيوعي العراقي المعروف عنه أنه حزب الأقليات، وأن سيطرة اليهود لم تجعله يجاهر بعدائه للوحدة العربية، وإن كان تحمّسه لها باهتاً، ليصبح تجاهلاً وربما عداءً بعد سيطرة أقليات عرقية عليه، لا تملك حضوراً ثقافياً في تاريخ المنطقة.
«مطاع صفدي» الذي نشأ مع بزوغ نهضة القومية العربية وساهم في عصرها الذهبي، شهد أفولها وانكماش الذات العربية (هوية ثقافية) إلى هويات فرعية صغيرة معادية ومناهضة للعروبة والوحدة العربية، بل مناهضة لوحدة تراب بلده سورية نفسها؛ لتصبح العروبة سُبة وشتيمة وعاراً يلاحق من يراها فضاءً حضارياً ثقافياً صنعته شعوب المنطقة كافة، ويرفضها رفضاً قاطعاً هوية عرقية.
عرفت الراحل كقارئ في سن مبكرة، لكن محاولاتي في تذكر المجلة والمادة التي قرأتها له أول مرة في بداية مراهقتي باءت بالفشل، مثلما باءت بالفشل أحلام أجيال متتابعة. ما أقسى أن تساهم في صناعة حلم عظيم، ثم تشهد فشله وتبدده، لينقلب نقيض ما عملت لأجله، فيصبح القبض على وحدة تراب بلدك، قبضا على الجمر.
الكاتب اليمني صالح البيضاني رأى في رحيل المفكر العربي البارز «مطاع صفدي» ما يعمّق خسائر العرب الفكرية في وقت هم أحوج ما يكونون فيه لرواد الفكر القومي العروبي الذي يشارف على الانقراض في زمن كتابي مفرط في البراغماتية وأبعد ما يكون عن القضايا الجمعية التي باتت مهجورة مثل مقبرة العقل العربي تماماً.
كان ’صفدي‘ من الكتاب العرب الذي تشبثوا بقضيتهم حتى النهاية ونذروا أعمارهم وأعمالهم لها وفي سبيلها، ما أدى إلى إثراء المكتبة العربية والمشهد العربي معا بالكثير المواقف/الكتب/الروافد. وبالاطلاع العابر على سيرة الراحل «مطاع صفدي» نجد أنها حافلة بالإنجازات التي صبت كلها في جدول توجهه السياسي والفكري والفلسفي والإبداعي الذي ينبثق من إيمانه بالعروبة وقيمها المسلوبة وتاريخها المغدور، وسعيه الحثيث للنهوض بفكرة القومية العربية من طبيعتها الكلاسيكية ومستنقعها السياسي، ليعمل على التأصيل لها ثقافيا وفلسفيا بعيدا عن ضجيج الشعارات الجوفاء التي حوّلت القومية من فكرة إلى مطيّة.
المصدر: العرب اللندنية في الثلاثاء 07 حزيران 2016
التعليقات مغلقة.