الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الكيماوي الاسدي: في مهب الدبلوماسيات المتضاربة دولياً وإقليمياً

مطاع صفدي *

كتبنا في هذه الزاوية (الرأي) من قبلُ أن العرب اشتكوا دائماً من طغيان التدخل الأمريكي في مختلف شؤونهم السياسية وسواها، لكنهم انتهوا حالياً إلى أن يشكو أكثرهم من انسحاب هذا التدخل..

فقد يصدق هذا التوصيفُ بقوة ووضوح على مجمل السلوك الأمريكي في الأزمة الكيماوية الراهنة، وآخر منجزات هذا السلوك سوف يتجلى في أساليب التقاعس التي تتبعها دبلوماسية أوباما في التهرب من تحمل مسؤوليتها الدولية عمّا يسمّى بحقوق الأمن الإنساني التي نصّت على رعايتها القوانيُن الدولية الصادرة أصلاً بإرادة أمريكا وأوربا، والمكتوبة بأقلام ساستهما وخبرائهما قبل سواهم. فقد أثبت تقرير لجنة الأمم المتحدة الباحثة في غوطة دمشق عن آثار المجزرة، والمقدّم أخيراً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أثبتت حيثيات التقرير وبراهينه العلمية، بما لا يدع مجالاً لأي شك أو مراجعة، أن المجزرة هي كيماوية، وأن الصواريخ التي حملت قنابلها هي صناعة سوفيتية من مخزون النظام، وآتية من مواقعه، وأن كل الآثار الأخرى في أرض المجزرة، إنما تقدم دلائل قاطعة وتحدد (هوية) الجاني الحقيقي.

هذا التقرير لم يسمِّ من هو الجاني، وإن طفحت نصوصه بكل الاستنتاجات الثبوتية، لكن اللجنة تركت مهمة تحديد الاسم والهوية لهؤلاء الساسة العالميين الذين صار عليهم ليس الكشف عن شخصية المجرم الأكبر فحسب، بل عليهم تحميله مسؤولية ما اقترفت يداه، مما هو الأفظع من المهالك الجماعية العظمى المصنّفة تحت مصطلح جرائم ضد الإنسانية.

لقد تنصّلت إدارة أوباما من اتخاذ أبسط المواقف المسؤولة، والمنتظرة من الدولة الأولى الحاكمة لسياسة العالم، والمؤتمنة ـ افتراضاً ـ على سلامته، تنصلت من أية مبادرة جدية في تحريك قضاء العدالة الدولية ضد مسلسل المذابح والفظاعات الجماعية التي دأب رجال الأسد على ارتكابها في حق المدنيين العزّل من أبناء الأحياء الفقيرة للمدن السورية وأريافها المكشوفة طيلة السنتين الماضيتين، أما بعد النكبة الكيماوية الهائلة وغير المسبوقة، فإن إدارة واشنطن ورفيقاتها الأوربية ليست في وارد تغيير شيء من نماذج سلوكها القديم إزاء دمشق، لن تعتمد قريباً أيةَ إثارةٍ فعالة لمؤسسات المقاضاة الدولية لمحاسبة جلاد العصر وزبانيته، هكذا إذن سوف يعرف الرأي العام الدولي قريباً بعض الأسرار الخطيرة التي انطوت عليها صفقة القرن بين عملاقي الحرب الباردة الجديدة، موسكو وواشنطن؛ ولعل سرها المركزي هو المتعلق بمصير الأسد ونظامه حتى كأنما صار أمراً مسلماً به، ذلك الرأيُ العجيب القائل أنه ربما لم تنعقد هذه الصفقة لو لم يتفق الطرفان على صيغة معينة حول ضرورة رحيل الأسد أو بقائه، بحجة الحاجة إليه للعب الدور الأخير في تنفيذ منطوق الصفقة، والانتهاء من الترسانة الكيماوية وإدارة عقابيلها الناجمة عن إجراءاتها العملية، ما يؤكد أن الأسد وزبانيته لن يمثلوا قريباً أمام قُضاة المحاكم الدولية الناطقين ـ افتراضاً ـ باسم الحق العام لإنسانية المدنية المعاصرة، لن تكون موسكو وحدها المسؤولة عن هذه الطعنة النجلاء الموجهة إلى وجدان كل إنسان حر في هذه المعمورة، بل سيكون شركاؤهم المجلّون هم قادة الغرب بجناحيه الأوربي والأمريكي، هؤلاء الأخيرون، الأوربيون خاصة كانوا أشبه بالعملاء المساعدين من الدرجة الثانية في إعداد بنود الصفقة، لكن كان لفرنسا مسعى متميز عندما لم يترك فابيوس، وزير خارجيتها، وسيلةَ إقناعٍ ومحاولةَ تفاهمٍ إلا واتبعها مع صاحب الوجه الشمعي، وزير خارجية بوتين، ساعياً إلى وضع عملية التفكيك الكيماوي من قبل حكومة الأسد تحت سلطة البند السابع من قرارٍ صادر عن مجلس الأمن في القريب العاجل، كان رجل فرنسا غير متفائل بسير سليم لعملية التفكيك هذه، فلن يكون الأسد أميناً على سلامة الإجراءات إن بقيت دولته هي المشرفة على التنفيذ، أو على الأقل إن شاركت بعض أجهزتها في التفاصيل العملية المعقدة، فكيف يمكن للمُدان الأول في أبشع جريمة ضد الإنسانية عرفها تاريخ الطغيان الهمجي، كيف يمكنه أن يساهم بملء حريته في إعداد أهم لائحة اتهام تُساق ضده.

لقد ذهبت مساعي الخارجية الفرنسية أدراج الرياح، فالكلمة أو الفكرة لن تكون فاعلة لدى أصحاب الضمائر المتحجرة، هذا الغرب الأوربي، حتى عندما يكون جاداً، ليست لديه وسائل القوة الحقيقية لفرض القناعة؛ دبلوماسيةُ الاتحاد الأوربي عامة، وليست فرنسا فحسب، فاقدة لأسنانها منذ زمن سحيق، اعتادت الاكتفاء بالأدوار المساعدة، حتى لا نقول التابعة، لأمريكا، قائدة المعمورة، وليس أوربا فقط..

غير أن هذا العملاق الأمريكي بات تمثالاً هائلاً من الشمع، تتناثر ذراته تحت ضربات الخيبات الدولية، وتحت المطرقة الروسية، وخاصة في المسألة السورية. فبعد أن انتزع بوتين من يد زميله أوباما سلاحَ الضربة العسكرية، يريد أن يمنعه من استخدامه كعنصر تهديد سياسي، لن يسمح بوتين بوضع النظام السوري تحت سلطة البند السابع، ولقد أكد وزير خارجيته أن التسوية/الصفقة لم تأت علي هذا البند أو على أي نوع من التهديد باللجوء إلى القوة، ذلك أمر جيد ولا شك إن كان المقصود هو إبعاد أشباح الحروب عن سورية الوطن، غير أنه هو الوعد المعطى إلى الأسد باستمرار الروسيا في وظيفة الحارس الأمين لنجاته من كل عقاب، وإعطائه كامل الحرية والجدارة في متابعته لنهجه العنفي المطلق ضد سورية الشعب والوطن ومستقبلها.

لكن لكل حراسة موعد إنجاز وانتهاء، روسيا لم تستنزف بعْد ورقةَ الأسد عبر ألعابها الدبلوماسية الناشطة مع أوباما، لن تعمد إلى التخلي عن هذه الورقة إلا عندما تستكمل شروط الاعتراف بشراكتها الندية الكاملة من قبل خصمها اللدود الأمريكي في كل شأن عالمي شمولي كان يحتكره العم سام منذ سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي.

بوتين ليس في وارد إشعال حرب باردة ثانية، بقدر ما هو ساع إلى نيل حصته كاملة من مشروع شراكة ندية في قيادة العالم، يعتقد أن حجم وطنه روسيا وثقافتها العريقة، وتاريخها السياسي القريب، كل ذلك يرشحها لاستعادة مكانة الاتحاد السوفييتي الدولي الماضية كونياً، من دون أدواره الأيديولوجية السابقة؛ لنتذكر أن موسكو الشيوعية كانت لاعباً رئيسياً في مصائر المنطقة العربية طيلة العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، وها هي اليوم، موسكو البوتينية، تحاول الإمساك مجدداً بأهم محاور الصراع في هذه المنطقة، ليس لديها إيديولوجيا معينة تريد نشرها وتعميمها، وإنشاء أحزاب ناطقة بشعاراتها، كل ما تريده موسكو الجديدة في سياستها الخارجية هو أن يتفهم الآخرون مصالحها، وألا يغمطوها حقها (المشروع)؟ في استغلال أقصى ما لديها من أساليب القوة الناعمة الشافّة في عمقها عن الخزين الهائل من قواها المادية الضارية.

ولقد أتاحت أهوالُ سورية كلَّ الفرص المؤاتية لكي تحتل الروسيا من جديد مراكزَ القرار الاستراتيجي لنظام دمشق، وذلك خاصة في كل تلك الأوقات العصيبة التي كاد فيها النظام يفقد توازنه ويتساقط، لم تقتصر مهمات موسكو على متابعة تغذية جيش النظام بالكميات الكبيرة من شتى الأسلحة، والمتطورة الفتاكة منها خاصة، ولا على (توريد) النخبة من خبراء حرب الشوارع والعصابات، أو مخططي المعارك اليومية، وحتى من مهندسي الإعلام والاقتصاد والإدارة الحكومية، لقد وصل الأمر بقادة الكرملين إلى حدود اعتبارهم الصراعَ في سورية، كما لو أنه بات حرباً شيشانية ثانية، أمست سورية مقاطعة ثائرة في الاتحاد الروسي عينه. وينبغي علي قادة الاتحاد أن يُجهزوا على ثورة الشام بذات أساليب العنف الوحشي التي استخدموها في القضاء علي التمرد الشيشاني في بلادهم.

مع انفجار الأزمة الكيماوية لن تتخلى موسكو بسهولة عن شيشانها الثانية هذه في سورية، حتى لو اضطرت إلى بيع صاحبها الأسد لقاء مناورة/صفقة أخرى مع أوباما تضمن فيها ديمومة نفوذها ما بعد الأسد ونظامه، أو لقاء حصة رئيسية من تواجدها في الشرق الأوسط، اعتبارا من مركزية مكانتها في مرابع بلاد الشام كلها. غير أن بوتين يعلم أن الغرب وأمريكا في المقدمة، لن يجود عليه بحصته هذه طوعاً واختياراً. لذلك فهو يُعدّ نفسه لرحلة طويلة وشاقة من المناورات إزاء هذا الغرب الضعيف الذي لم يعد قادراً على فرض إرادته على الآخرين بسهولة ويسر، لكنه مع ذلك لن يتبرع لبوتين بملكية الشرق الأوسط متنازلاً عن أثمن مفاتيحها لمشكلاتها المستعصية، هذه المفاتيح الغالية التي باتت معلقة على مآلات النكبة الدموية المستدامة في سورية.

لن تكون الروسيا الدولةَ العظمى الوحيدة التي تطالب الغرب الاعترافَ بحصتها من تركة هذه النكبة، بعد أن أنجزت كامل احتيازها على مجمل أوراق النظام الأسدي المتهاوي، وذلك عبر الأزمة الكيماوية الأخيرة؛ وقد أبدع بوتين في تسيير تداعياتها الدولية لصالحه الخاص مركزياً، نقول لن تكون دولة الدبّ الأبيض الروسي زاحفة وحدها من صقيعها القطبي الشمالي نحو حرائق الصحارى العربية جنوباً، هنالك دولة ملالي إيران الإسلاموية، التي أنجزت بناء قلعتها الإقليمية الكبرى، المغلفة على ذاتها، والتي أمست متحفّرةً لاستكمال مشروعها في (فرْسنة) المشرق العربي كلياً، من خليجه إلى لبنانه، فإن انغماسها عسكرياً ومالياً واستخباريا في جبهات نظام دمشق المفتوحة ضد الثورة، رشّحها للإمساك بمفاصل سلطة الحرب على الأرض تمهيداً للقبض على مفاصل السلطة في الدولة، للإجهاز على ما يتبقّى في مجتمع ما بعد الحرب من شظايا مؤسساته المدنية البائدة، إيران هذه باتت هي الشريكة المفضلة للأسد، في تلقينه لأساليب ممارسة فظائع القمع غير المسبوق، في ابتكار مخططات التدمير المنظم لمعالم الحضارة المميزة لتراث بلاد الشام منذ أقدم العصور.

روسيا وإيران لا تنتظران ما سوف يجود به الغرب عليهما من مكاسب الحرب الكيماوية الفاشلة، بل هما منخرطتان، في نوع من التعامل والتنافس فيما بينهما، حول مختلف الظروف الراهنة والقادمة، الناجمة عمّا سوف يسمّى مرحلة تفكيك السلاح الكيماوي، ستكون مرحلة غاصّة بنماذج المناورات المعروفة والمجهولة في هذا الشأن والمستحدثة منها.

أما (الثورة) السورية فليس لها من مهمة في هذه المعمعة الآنية والقادمة، سوى السعي بكل وعي وحذر في تنظيف نفسها من وعثاء الدخلاء على مناهجها ومسالكها، والاقتراب أكثر فأكثر من أصولها الشعبية الأصيلة التي نبتت هي من جذورها، عليها وحدها تقع مسؤولية الفرز الأمين للخطوط البيضاء عن الخطوط السوداء في كل ما ينتظرها، هي وكل الشام معها، من أزمات وأفخاخ المستقبل، وما يحيكه حولها lsquo;الأصدقاءrsquo; قبل الأعداء من شبكات الضلال والتضليل، لقد قطعت مسيرةُ الثورة أشواطَها الخطرة، بقي أمامها مجاهلُ الشوط الأخير من رحلة الظلام نحو الحرية، وهو الأدهى والأقسى، كما هو معروف عن المغامرات الكبرى في قصة الحرية مع عنف التاريخ الإنساني وضده في آن معاً.

* مفكر وروائي عروبي سوري

المصدر: القدس العربي في 22 أيلول/ سبتمبر 2013

التعليقات مغلقة.