الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 قراءة في كتابات المفكر السوري ”الياس مرقص“ حول التيارين القومي والماركسي

 

 

عبدالله تركماني *

     تتميز كتابات الياس مرقص (**) بإعادة الاهتمام بمسألة الأسس الفكرية والتاريخية الكبرى لقضايا المسألة القومية العربية، وليس الركض وراء أحداثها الجزئية. فقد كان يؤمن بالمراجعة الشاملة والكاملة للتيارين الماركسي والقومي، أملاً بأن يؤدي ذلك إلى مصالحة الإنسان العربي مع ذاته، ويجعله يطمح للتقدم الفعلي. لقد تميزت كتاباته بالعمق والحيوية والراهنية والاستشرافية، وقد أفصحت عن نفسها من خلال الموضوعات التي تصدى لها والأفكار التي صاغها .

     لقد تميز إنتاجه الفكري بدرجة عالية من العمق النظري، كما أنّ جهده النقدي في إعادة صياغة أوليات الفلسفة العربية القومية في ضوء مقتضيات التقدم العربي، جعله يساهم في بلورة منظور فكري اتسم بكثير من الاتساق، وعكس وجها من أوجه جدلية التاريخ والفكر في سياق تطور الفكر العربي المعاصر. وبصورة عامة يمكن القول أنه، في كل ما كتبه، كان يجمع بين النقد السياسي والنقد الفكري. وكان النقد السياسي بالمعنى الضيق للكلمة، أي “السياسوي”، والنقد الأيديولوجي يتقلصان ويضمران عنده عاماً بعد عام، في حين كان الفكري يتعمق ويتجذر.

     فقد كتب الياس مرقص الكثير في مجال اختصاصه، وقصد بالفلسفة شيئين أساسيين: أولهما، نظرية المعرفة، بما تنطوي عليه من رفض للأيديولوجيا، خاصة حين يعتقد البعض أنها تعادل الفكر. فالأيديولوجيا الماركسية ليست، بوصفها كذلك، حاملة الحق، ولا الأيديولوجيا البورجوازية حاملة بالضرورة الباطل. وعليه، فقد قال “ليس ما ينقصنا هو الأيديولوجيا بل المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق، و… أيديولوجية تحترم وتثمّن بالأساس المنطق والمعرفة والثقافة والأخلاق. الاقتصادوية تتصور أنّ الإنسان جملة العلاقات الاجتماعية، هذا معناه علاقات الإنتاج، أي الطبقات، وهذا باطل. فكرة الاجتماع أكثر أساسية وأكثر شمولاً من فكرة الطبقات. الطبقات كفعلية وراهنية وسياسية تسقط بسقوط فكرة الاجتماع . نظرياً، صراع الطبقات يمكن أن يقود إلى مجتمع أرقى، ويمكن أن يقود إلى سقوط المجتمع وحسب. لا توجد حتمية، توجد ضرورة يجب أن توعى، توجد ضرورة احتمالية”.

وثانيهما، هو تصور للإنسان وتاريخه ومصائره، وهذا مفقود في الفكر العربي المعاصر، في معظم الحالات. فلئن كانت ماركسية ستالين وآخرين قد أعطت صورة مغلوطة عن وحدة تاريخ الإنسان، فإنّ قسماً كبيراً من الفكر العربي تبنى، فعلياً وعملياً، موقف نفي لهذه الوحدة. إذ هناك شرق وغرب، فكرة النوع الإنساني ملغاة، أي ليس لها قيمة نظرية وتاريخية “من المحال والعبث والحماقة أن نخرج خارج تاريخ البشرية، خارج مصائر الإنسان اليوم، هذا التاريخ الكوني لا يخرج: إما أن نصير ذاتاً وفاعلاً وصانعاً له وفيه، وإما أن نكون وأن نعود كما كنا قبل قرن مادةً وموضوعاً وسماداً لتاريخ ننخلع عنه وينخلع عنا”.

     وفي السياق نفسه تابع ’مرقص‘ “إنّ هناك ثورتين كبيرتين في هذا التاريخ: ظهور الإنسان، ومن ثم المجتمع المؤنسن، وهناك ثورة وسيطة بينهما هي المجتمع المدني (Société Civile). هذا المجتمع المدني يبلغ تمامه في المجتمع البرجوازي الحديث، في أوروبا. أصوله، بذوره، جوانبه قديمة وعالمية. تاريخه طويل جدا ومتنوع. تاريخ الإنسان بعد ظهور النوع هو، جوهرياً، تاريخ بروز وعدم بروز المجتمع المدني. والثورة المطلوبة، عالمياً، لا يمكن إلا أن ترتكز على أساس المُحرَز الإيجابي الكبير للمجتمع المدني. وهذا المحّرز الإيجابي ليس البتة محصوراً في الجانب التقني والمادي الخ، ولا الجانب التقني والمادي هو بالضرورة ودوماً نور . “أوروبا” لحظة كبيرة وحيوية وحاسمة في منطق البسط أو النمو التاريخي للإنسان ككل، للعرب، للجميع . التعامل مع هذا “الشيء” الكبير بإدارة الظهر، باللعن، أو بالركوع، أو التعامل معه بالانبهار والحرب، بالسجال العنيف الذي يخفي أو لا يخفي الانبهار، موقف ألحق ويلحق ضررا كبيرا بالوعي العربي: إنه الضياع”.

     كان لا بد من هذه المقدمة لتحديد الإطار العام لحياة ومؤلفات وفكر الياس مرقص، ولكننا في إطار تكريمه بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لوفاته سنتناول بعض كتاباته حول: المسألة القومية، نقد الشيوعية العربية و”تعريب” الماركسية، نقد الفكر القومي، الديمقراطية والمجتمع المدني.

I  ـ المسألة القومية

     لقد شغلت المسألة القومية، بوصفها واحدة من أهم مسائل الواقع العربي ببعديه التاريخي والعالمي، موقعاً هاماً في فكر وعمل الياس مرقص، فقد كانت من أهم المعايير التي انتقد في ضوئها الماركسية الدوغمائية والفكر القومي. فقد تتبع في مؤلفاته مواقف الماركسيين عموماً، والماركسيين العرب خصوصاً، من مسألة الاستعمار والإمبريالية، وبالتالي من مسألة الاستقلال السياسي والتحرر من التبعية، ومواقفهم من قضية الاندماج القومي والوحدة العربية، ومن الصراع العربي ـ الصهيوني. وفي سياق عملية التتبع والنقد والتأسيس جمع ’مرقص‘، على نحو خلاق، بين الماركسية والقومية بالمعنى الحديث للكلمة، فقد كان ماركسياً بقدر ما كان قومياً، وكانت “ماركسيته” قومية بقدر ما كانت “قوميته” ماركسية .

     ويمكن القول أنه تناول المسألة القومية بطريقتين: مباشرة، تتجلى في المؤلفات التي خصصها لهذا الموضوع مثل “نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري”، و”الماركسية والمسألة القومية”، و”في الأمة والمسألة القومية والوحدة العربية” مع مكسيم رودنسون وإميل توما، و”عفوية النظرية في العمل الفدائي”، و”المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن”، وسلسلة من المقالات والدراسات. والثانية طريقة غير مباشرة، تجلت في عدد كبير من الآراء والأفكار والملاحظات في ثنايا مؤلفاته الأخرى. ذلك لأنّ قضيته المركزية كانت قضية الفكر والواقع والشعب، قضية العرب والأمة العربية في العالم وفي إطار قضية الإنسان وتاريخه ومصائره. لقد اكتسبت المسألة القومية عنده طابعاً جديداً، واغتنت بمضمون حديث.

     لقد كانت قضية الوحدة العربية هي قضية القضايا في فكره، إذ كان يعتقد أنّ لا طريق للتقدم والتحرر العربيين دون تحقيقها، وبأنّ تحقيقها لن يتم إلا من خلال سيرورة تاريخية كاملة، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وأنّ المدخل إلى ذلك هو تحديث الحياة العربية. ففي مواجهة العدمية القومية أكد ’مرقص‘ “إنّ الأمة العربية تكونت خلال تاريخ طويل وإنّ القسم الأكبر، والأكثر حسماً في هذا التكون التاريخي الطويل هو التكون التاريخي لحقبة ما بعد الإسلام. فالأمة العربية ليست امتداداً في الزمان لأمة سامية عامة غير موجودة، وليست تمدداً في المكان لمَعين قرشي أصلي. إنّ أبناءها.. ينتسبون إلى عدنان وغسان في اللغة، والباقي (الإنتاج والثقافة) لا ينبع من اللغة. الموقف المعاكس هو نفي لوجود تقدم حقيقي، للنمو بما يتضمنه هذا المفهوم الفلسفي من تغير في طبيعة الشيء. وإنّ الوجود القومي العربي قد ارتكز على تشابه قديم في أسلوب الإنتاج والملامح النفسيةـ الثقافية واللغات، وتحقق على أساس لغة محددة قديمة وثابتة هي اللغة العربية، لغة قريش. هذه اللغة تاريخها اللاحق الوحيد هو تاريخها الخارجي، أي تاريخ انتشارها وصيرورتها لغة عشرات الملايين من البشر، لغة لاقتصادهم وثقافتهم وعلاقاتهم وحياتهم، أي تاريخ صيرورتها لغة قومية. أما تاريخها الداخلي، أي تاريخ تكونها لغة، تاريخ نشوء مفرداتها الأساسية وقواعدها فهو يرجع إلى ما قبل التاريخ المعلوم”.

     وفي نقده للنظرية “الاقتصادوية” في تكوّن الأمة، واهتمامه بالعنصر السياسي “الدولة” والعنصر الأيديولوجي “الدين”، كتب “إنّ تاريخ نشوء وتكوّن الأمة العربية يبقى شيئاً عصياً على الفهم إذا لم نضع العنصر السياسي والعنصر الأيديولوجي في مكان الصدارة. لولا الإسلام والقرآن، حافِظُ اللغة، ولولا الدولة العربيةـ الإسلامية الأولى، وبقاء الطابع العربي للحكم قروناً طويلة بعد انقسام هذه الدولة الواحدة، لما كان لدينا اليوم أمة عربية ممتدة من الخليج إلى المحيط. تلك عناصر لا تنحلُّ في مقولة الاقتصاد، فمن العبث، ومن غير المجدي على صعيد تلمُّس تاريخ الأمم ومصيرها، أن نعتبر الاقتصاد سبباً، محض سبب، والدولة والأيديولوجيا نتيجة، محض نتيجة. ومن العبث أن نقول أنّ الأمة تخلق الدولة القومية، وأنّ الدولة القومية لا تنشئ الأمة. إنّ التاريخ يُخطّئ هذه النظرة الأحادية الجانب، يُخطّؤها بدرجات متفاوتة، لكنه يُخطّؤها دائماً”.

     وإذ يخلط الفكر القومي التقليدي بين الهوية والأصل، أكد ’مرقص‘ أنّ الأصل والهوية شيئان مختلفان وليسا شيئاً واحداً، وأنّ “الشد إلى الأصل ليس إلغاء للوجود، بل هو إلغاء للأمة”. ولعل مفهوم الأصل يحيل على العرق والشعب العريق، وعلى اللغة، مجرد اللغة، أو الدين… أي على الجوهر الثابت المتعالي على التاريخ، وعلى الوجود الماهوي، والرسالة الخالدة… إنّ مفهوم الأصل الذي يحيل على الجوهر الثابت، أو الوجود الماهوي، يوجه عملية وعي الذات نحو الماضي ونحو التراث والثقافة التقليدية والدين. وينتج أوهاماً شتى حول العلاقة بين العروبة والإسلام، ويحل مفهوم الجماعة، أو مفهوم الملّة الدينيين محل مفهوم الأمة العلماني. إنّ قومية العرب لا تتقوّم بانتسابهم إلى عدنان أو غسان أو إبراهيم.. ولا في كونهم مسيحيين أو مسلمين، ولا حتى بالتكلم بلغة واحدة..، بل في حريتهم واستقلالهم، وإنتاجهم شروط حياتهم ووجودهم، وتطلعهم إلى مستقبل ممكن وواجب. لذلك كان من الضروري تمييز أو فرز مفهوم القومية عن مفهوم الأمة. فالقومية التي تحيل على مفهوم القوم، بكل حمولاته الرمزية والأيديولوجية واللغوية والأثنية القارّة في اللاشعور الجمعي والمخيال الاجتماعي، هي شعور بالانتماء إلى الأمة، يمكن أن يرقى إلى مستوى الوعي مع تقدم الأمة وتفتّح إمكاناتها، ووعي الأفراد حقيقة العلاقات القائمة فيما بينهم، بوصفها الشيء العام المشترك بينهم والذي هو جوهرهم وماهيتهم. هذا الشعور بالانتماء القومي هو محصلة سيرورة تاريخية هي سيرورة تكوّن الأمة أو تشكّلها، تسنده ولا شك وحدة اللغة والثقافة والتجربة التاريخية.

     أما الأمة، فهي مقولة اجتماعية وسياسية وثقافية، تاريخية، تدل على جملة من الروابط والعلاقات الواقعية المتغيرة بين الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والمذاهب والتيارات والأحزاب.. التي هي أجزاء الأمة وتجسيدها العياني. وهي مقولة مرتبطة أوثق ارتباط وأشده بمقولة العمل، والإنتاج الاجتماعي الإنساني، إنتاج الوجود البشري، والخيرات المادية والثروات الروحية. القومية، بما هي شعور أو وعي، تنتمي إلى دائرة الذاتي، في حين تنتمي الأمة (المجتمع المدني والدولة) إلى دائرة الموضوعي، وجدل الذات والموضوع هو الذي يضبط العلاقة بينهما منطقياً وتاريخياً.

وخلافاً للرؤية التوتاليتارية/ الشمولية التي تذوّب الفرد في الجماعة فتلغي فرادته وحريته واستقلاله، أي تلغي شخصيته وذاتيته تحت عناوين مختلفة: دينية ووطنية وشعبية وطبقية وثورية… الخ، أكد ’مرقص‘ أنّ المجتمع هو أولاً وقبل أي شيء آخر مجتمع الأفراد، والأمة أمة الأفراد، وإلا فلا معنى، ولا معقولية. وكما يكون الأفراد يكون المجتمع وتكون الأمة. فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيته، إنّ إلغاء الفرد والخاص هو إلغاء للعام. ومن البديهي أننا بإلغاء الفرد والخاص لا نلغي وجود الأفراد، بل نلغي العلاقات التي تشكل جوهرهم وماهيتهم، أي نلغي الأمة، وننتج حالة من التناثر الاجتماعي والقومي أشبه بحالة اجتماع حبات الرمل أو أفراد القطيع.

     وفي هذا السياق كتب ’مرقص‘ “إذا ما ألغينا الأفراد وأكدنا الهوية لن يكون لدينا أي تطور، ولن يكون لدينا سوى جوهر وهمي للأمة، عندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير، إلى ما لا نهاية، بين الهوية وعقدة الهوية. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، استقلال فعلي، حرية، حرية للإنسان فرداً ومجتمعاً وأمة”.

     لقد رأى ’مرقص‘ أنّ الوحدة العربية، كما أسلفنا، شرط التقدم العربي، اللازم ولكن غير الكافي. وأنّ سيرورة تكوّن الأمة العربية وأشكال وحدتها قد ارتبطت بمراحل النهوض والتقدم، كما ارتبطت التجزئة تاريخياً بالانحطاط والتراجع، وبالهيمنة العالمية لدول كبرى وقوى أجنبية. وأنّ النزوع الوحدوي لم يصبح واضحاً وجدياً في التاريخ العربي المعاصر إلا عندما نمت حركة الجماهير المعادية للإمبريالية، ولا سيما عندما أدركت القيادة الناصرية أنّ استقلال مصر الحقيقي يقتضي تصفية النفوذ الإمبريالي في العالم العربي، وعندما أدركت الجماهير والقيادات السورية أنّ درء الخطر الخارجي ومقاومة الأحلاف الاستعمارية غير ممكنين إلا بالوحدة، فكانت وحدة العام 1958 بين سورية ومصر التي سُحقت بسبب طابعها القومي التقدمي المعادي للإمبريالية والصهيونية، فضلاً عن نزوعها إلى العدالة الاجتماعية.

     تلك التجربة علّمت الياس مرقص أنّ العرب لن يتقدموا ثانية في طريق الوحدة العربية ما لم تتمكن قوى الثورة العربية من إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعلمانية وعقلانية وديمقراطية، وما لم تضع قضية الوحدة في محور عملها الاستراتيجي، وما لم تعِ أنّ السيرورة الوحدوية هي حركة جماع الأمة وليست مقصورة على طبقة أو فئة أو حزب، وأنهاـ بالتالي ـ صيحة احتجاج جماعية ضد التأخر والتجزئة والهيمنة الإمبريالية والاحتلال الاستيطاني الصهيوني.

     وباعتبار أنّ القضية الفلسطينية هي أحد أهم قضايا المسألة القومية العربية، فقد انتقد الياس مرقص المقاومة الفلسطينية، في أوائل السبعينات، انتقاداً لاذعاً. ومما كتبه: “لقد أرادت المقاومة الفلسطينية أن تكون الردَّ التاريخي على التقاعس العربي. فكان الغرور المقاوِم تبريراً للهروب العربي. أرادت المقاومة أن تكون انتشالاً للعرب من واقعهم الموضوعي الفاسد، فكانت ذاتية المقاومة “تعويضاً” وتبريراً لهذا الواقع. الموضوع العربي والذات المقاومة وجهان متكاملان في عملة واحدة.

     المقاومة قالت: نحن المحور وأنتم المساندة. والشركاء قالوا: موافقون، أنتم المحور ونحن المساندة. الطرفان وجدا في ذلك مصلحتهما. الطرف الأول– الفلسطيني- وجد فيه مصلحته المعنوية (الذاتية، عظمة الأنا). والطرف الثاني– الشركاء العرب- وجد فيه مصلحته المادية تماماً (المصالح البترولية، مصالح البيروقراطيات العسكرية والأيديولوجية، مصالح اللعب السياسي مع “العالم” ضد مصر وضد الوحدة العربية).

إنّ أيديولوجيا المقاومة قد منحت براءة ذمة وجواز مرور لجمعية المنتفعين بالقضية الفلسطينية. تلك هي وظيفتها الموضوعية، المشهودة في الواقع العياني”.

     لقد أرادت المقاومة الفلسطينية، حسب الياس مرقص، أن تكون في واقعها وممارستها نفيـاً “نقيضاً” للواقع العربي والممارسة العربية، فكانت أيديولوجيتها تثبيتاً لهذا الواقع وهذه الممارسة . فلم تدرك المقاومة أنّ الفلسطينيين لا يستطيعون أن يقفوا ويتابعوا نضالهم بينما العرب قاعدون وراكعون. وقد قدّم في حينه مجموعة نصائح إلى المقاومة من أهمها “إنّ المقاومة الفلسطينية تملك- الآن- أن تجعل صوتها مسموعاً أكثر مما كان مسموعاً في 1968 بكثير. يكفي أن تُسمِعَ صوتها وأن يكون صوت حق. يكفي أن تصفع الديماغوجيا بكلتي يديها. يكفي أن تقطع الصلة مع المتاجرين بالقضية الفلسطينية. أن تقطع الصلة مع طاحونة الكلام العربية، مع النزعة الكلامية العربية “الأصيلة” التي يمقتها الشعب العربي، أن تضع الأشياء قبل الكلمات، أن لا تستخدم كلمات إلا للدلالة على الأشياء.

أن تميّز الأقوال والأعمال، أن تجرَّ الدول إلى العمل، وأن تسمي القوّال قوّالاً. أن تسمي الدول بأسمائها. أن تجتث الذاتية من الجذور وأن تزرع الموضوعية … أن تخفض صحفها وبياناتها وملصقاتها الجدارية وكل قطاع الإعلام والعلاقات العامة بمقدار 95 %. أن تغلق 95% من مكاتبها. أن تمنع اللباس المبرقع فيما عدا ساحة القتال والتدريب”.

     وهكذا فإنّ الياس مرقص نقل المسألة القومية العربية، بكل منطوياتها، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبكل مسائلها، من حقل التأمّل النظري والتطلّع الرومانسي والحنين إلى الماضي والتعلّق بالتراث والتقليد، إلى مستوى الواقعية والحداثة، مع فكرة الإنسان والتاريخ والتقدم. فقد نقلها من مستوى الوجود المجرد، الجوهري، اللاتاريخي، إلى الوجود المعيّن، فوضعها في إطار المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، مؤكدا مضمونها العلماني الديمقراطي واتجاهها المستقبلي وبعدها الإنساني.

II ـ نقد الشيوعية العربية و”تعريب” الماركسية

     وضع الياس مرقص نفسه في مواقع المحاور الماركسي للحركة الشعبية القومية والديمقراطية ولقيادتها الناصرية، بأمل أن تتلقح الحركة الشعبية بالوعي الماركسي. وقد أدرك أنّ هذا العمل “ثورة كبرى”، كان شرطها توطين الماركسية في الواقع العربي، أي إعادة إنتاجها في هذا الواقع، بحيث تكون ماركسيته دون غيره، ملبية لحاجاته دون سواه، وليست ماركسية المجتمع البورجوازي التي وصلتنا في شكل معاد لماركسية ماركس، هو ستالينية، أيديولوجية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، التي رأت في ثورة بلدانها تكرارا لثورة أكتوبر الروسية. وفي هذا السياق “أعاد الستالينية إلى المكان اللائق بها كأيديولوجيا مقطوعة الصلة بالماركسية والعلم، تفتقر إلى الروح الجدلية والترابط المنطقي والعقلانية، وتضرب عرض الحائط بأسس المعرفة العلمية وبالواقع”.

     لقد رفض ’مرقص‘ الاعتقاد بأنّ الماركسية تتضمن حقائق معصومة، وأخذ يعيد اكتشاف أدواتها في الواقع العربي المتعين في الزمان والمكان العربيين. وقد وجد أنها ستكون حقيقية بقدر ما تعيننا على اكتشاف واقعنا بصورة مطابقة لذاته، وتساعدنا على تقديم قراءات مطابقة له. بهذا المعنى اكتسب واقعنا عنده أولية نسبية على النظرية، واكتسبت هذه قيمتها في نظره من كونها نظريته. لذلك أعاد إنتاج الماركسية عربياً، وأخذ يستخدم ما تتيحه من أدوات علمية متطورة للتعرف على واقع جديد بالنسبة لها هو الواقع العربي، بغرض “ضبط هذا الواقع وجرده” بأكبر قدر ممكن من الدقة والعلمية، وإنتاج الماركسية، حتى من جوانبها الفلسفية، كفلسفة توطنت في الواقع الجديد، الذي أسهمت في التعرف عليه فأسهم في تعيينها وإغنائها بخصوصياته.

     وطالما أنّ الماركسية لا تحملُ طابعاً إطلاقياً يضعها فوق الواقع، فهذا يعني أنّ الماركسيات قد تتباين بتباين الواقع الذي يتلبسها، وأنّ ماركسية ما ستكون أقرب إلينا من أخرى، لأنّ الواقع الذي تعالجه أقرب إلينا من غيره. إلا أنه يعني أيضاً أنه لم توجد بعد الماركسية التي تغني عن الماركسية العربية، وإنّ “تعريب” الماركسية هو إعادة إنتاج كاملة لماركسية ماركس ولينين في ظروفنا، بحيث نتخلى كلياً أو جزئياً عن ماركسية ماركس أو لينين أو ماوتسي تونغ…، إما لأننا لسنا موضوعها، أو لأنّ الواقع المسجل فيها لا يشبه واقعنا.

     لقد وصّف ’مرقص‘ مخاطر التيارين الشيوعي الرسمي والقومي التقليدي على حركة الثورة العربية، فهي “تكاد تختنق بين أيديولوجيا ماركسية عظمية تجريدية إقليمية، وأيديولوجيا قومية تاريخية وعاجزة عن تحقيق الأهداف القومية”. وضمن إطار الإشكالية التي وجّهت فكره وعمله (إعادة تأسيس العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وإعادة بناء الوعي العربي والارتقاء به من وهدة التأخر والفوات إلى مستوى العصر الحديث)، فقد انتقد الفكر القومي على اختلاف تياراته وتلاوينه، كما كان من السباقين إلى نقد الماركسية، ولا سيما الدوغمائية الستالينية ونسختها العربية، وكشف النقاب عن طابع الأخيرة “الاقتصادوي” ومنهجها الوضعاني .

     وكتب ’مرقص‘، منذ أواخر الخمسينات، مقالته الشهيرة حول “الستالينية والمسألة القومية”، فنّد فيها نظرية ستالين في الأمة، وبيّن تهافتها وتضاربها مع الواقع التاريخي للأمم المختلفة. حين أهملت الكثير من الحقائق الواقعية، وشوهت العلاقة بين الممارسة والنظرية، خاصة عندما اعتبرتها “جاهزة وكائنة وليست صائرة إلا بنسبة محدودة. وظيفة الممارسة أن تثبتها وتبررها، وهي لا تسهم في تكوينها إلا بقسط محدود ثانوي وتافه”.

     وحدد عناصر الظاهرة الستالينية في عدد من الخصائص: البيروقراطية والقيادة الفردية والشوفينية الروسية والمذهبية الفكرية، حيث وصلت إلى ذروتها في العام 1952 “استشراء البيروقراطية، والإرهاب البوليسي، أزمة خانقة في الزراعة، انخفاض مستوى معيشة الجماهير، جمود وتحجّر في ميادين النشاط الفكري… أزمة مكبوتة في الدول الاشتراكية وعلاقاتها الاقتصادية. تعثّر في السياسة الخارجية… الديمقراطية المتمثلة في مجالس السوفييت سقطت منذ زمن بعيد، ثم ألغي دور الحزب الشيوعي ولجنته المركزية، فقد انقضى 13 عاماً بين المؤتمرين الثامن عشر والتاسع عشر، واستعاض ستالين عن المكتب السياسي المؤلف من 13 عضواً بمجلس خماسي أو سباعي يدعوه للاجتماع بين وقت وآخر، مستبعداً الأعضاء الآخرين في المكتب السياسي”.

     إنّ أبرز نقد وجهه الياس مرقص للستالينية ورد في كتابه “الماركسية في عصرنا” حول تعريف ستالين للأمة في علائمها الأربع، حيث قال “إنّ هذه العلائم ذات أهمية بالغة. غير أنّ ستالين أحالها إلى علائم مطلقة وكأن العلم الاجتماعي ضرب من الجبر. إنّ مقولة الأمة مقولة مرنة، ديالكتيكية (قابلة للزيادة والنقصان). فالأمة الهندية لا تتوفر فيها وحدة اللغة، وهي مع ذلك أمة… إنّ تعريف ستالين المشتق من تجربة محددة في الزمان والمكان (أوروبا البورجوازية الصاعدة) لا يمكن تحويله إلى أداة عامة كونية. ولا نتحدث هنا عن كل الاستنتاجات التي استُخلصت من هذا التعريف حتى صار طلسماً يُكَرَّرُ على نمط واحد رتيب، فالدين “لا علاقة له” بالأمة لأنه لم يرد في التعريف (ولا يلاحَظ أن التاريخ المشترك هو تاريخ العلائم المشتركة)… ولكن لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ بعض العلائم الستالينية نسبي تماما (التكوين النفسي، الثقافة) وهو لا يرتبط بالأمة فقط بل يرتبط بالطبقة أيضاً”.

     لقد انطلق الياس مرقص في نقده للأحزاب الشيوعية العربية من وقوعها تحت تأثير الفهم الستاليني للماركسية، حيث قال: “وقد دفع خالد بكداش وأقرانه في البلاد العربية منهج التفكير الستاليني إلى نهايته شبه المنطقية. رفضوا القيام بأي دراسة مجدية للأشياء الحسية، واعتبروا الحقائق العامة أموراً تنبثق من الفراغ، فقلبوها إلى صيغ مجردة صرفة، واستنتجوا من هذه الحقائق العامة والصيغ المجردة وضع الشعوب العربية وتاريخها ومستقبلها”. لذلك اعتمدوا على المخطط العام المشتق من دراسة المجتمع الأوروبي، وعزلوا الماركسية عن جذورها التاريخية الواقعية الحسية، وبالتالي فقدت حيويتها وأصبحت ترسيمات ميتة عن مراحل تطور المجتمع الإنساني.

وعلى هذا الأساس، فقد رأى أنّ هذه الأحزاب، عدا استثناءات محدودة، ظلت ترتكب أخطاء جوهرية فيما يتعلق بخطها السياسي وتنظيمها “ليس المهم تبنّي الماركسية قولاً وصراخاً، ولكنّ المهم تمثّل الماركسية”. ثم تساءل عن أسباب فشل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي؟ فرأى أنّ الأسباب ذاتية في الدرجة الأولى، لأنّ التحوّل الثوري كان ممكناً، وقد حدث ولكن خارج إرادة هذه الأحزاب وفي غيابها عن ساحة العمل الجماهيري، وإلى حد ما ضدها. وقد استنتج من تجربته في الحزب الشيوعي السوري “أنّ الحزب لن يقدر على محاورة الحركة الشعبية بالزاد الفكري والمعرفي والأيديولوجي الرث الذي يقتات منه، وأنّ تجدده الفكري والثقافي هو شرط نجاحه في الحوار والاندماج في أوسع حركة شعبية عرفها التاريخ العربي”.

     لقد كان ’مرقص‘ يرمي إلى مصالحة الحزب مع مجتمعه ومع الواقع، وكان يتطلع إلى جسر الهوة بينه وبين الشعب، بدفعه نحو تبديل جذري لاختياراته المعرفية والسياسية، وبإحداث قطيعة حقيقية ونهائية بين واقعه القائم وبين ما يجب أن يكون عليه.

III  ـ نقد الفكر القومي

     كان نقد الياس مرقص للشيوعيين يضعه مباشرة في خندق القوميين، ولكنه استخدم الأدوات النظرية نفسها ليدين حملة الفكر القومي على الفكر الماركسي، إذ قال: “باسم الفكر القومي انتشرت أيديولوجيا انتقائية، مثالية، غيبية، تحتقر الحياة المادية وتكره الاقتصاد السياسي، منحت نفسها صفة الأصالة العربية. ولم يكن (الفكر القومي الأصيل)، في رده وهجومه على الفكر اللاقومي، إلا مزيجاً من أفكار برغسون وفيخته ونيتشه وشبنغلر وغيـرهم”. وأضاف مؤكداً “في الوطن العربي، هُزمت الأحزاب الشيوعية الستالينية. أما الماركسية الحية فهي تغرس جذوراً قوية في الأرض العربية”.

     ويعتبر كتاب ’مرقص‘ “نقد الفكر القومي- ساطع الحصري” الذي ألّفه مباشرة عقب كتابه “الماركسية في عصرنا”، بداية مشروعه في نقد الفكر القومي، وإعادة تأسيس نظرية الثورة العربية، اعتماداً على نقده للستالينية. وكان حجر الأساس في بناء نقده للفكر القومي هو أنّ القومية مبدأ تقدمي “فقد تضمنت القومية جوهراً إيجابياً هو الطموح إلى الاستقلال القومي والوحدة القومية، النزوع إلى تكوين الدولة القومية كمطلب ضروري من مطالب التقدم التاريخي”. غير أنّ هذا الجوهر محدد في فكر الياس مرقص بحدين: النشوء والتكوّن التاريخي من جهة، وصراع الطبقات من جهة ثانية.

     وفي إطار نقده للفكر القومي عند الحصري، أكد أنّ تحقيق الفكرة القومية العربية مندمج في الصيرورة التاريخية لنضال شعوب الأمة العربية، مما يستوجب النظر إلى ماضي الأمة من خلال تاريخها المشخص… والمطلوب دراسة تاريخ الأمة الواحدة، وبتعبير أدق تاريخ نشوء وتكوّن هذه الأمة، أي تاريخ نشوء وتكوّن مقوّمات الأمة… والأمة حقيقة تاريخية. فالتاريخ ليس عاملا يضاف إلى عوامل، إنه طبيعة الوجود، طبيعة وجود كل العوامل، والمطلوب دراسة تكوّن هذه العوامل، ونشوء الأمة التاريخية المستقرة. بينما الحصري يضع الأمم فوق التاريخ، حيث لا نجد في كتبه أمة تتكوّن، فالأمة هي الإطار “الطبيعي” لأحداث التاريخ عنده.

     فعن الأرض المشتركة مثلاً، سلّم ’الحصري‘ بأهمية الأرض لكنه لم يجعلها من مقوّمات الأمة، لأنها- حسبما ذكر- خاضعة لسيادة الدولة وقوتها، فهي من لوازم الدولة الأساسية، في حين أنّ الأمة لا يكون لها أرض مشتركة إلا إذا كوّنت دولة قومية واحدة. في حين أنّ ’مرقص‘ انتقد موقف ’الحصري‘، وأكد على اعتبار الأرض عاملاً من عوامل الأمة، الأرض موضع تمييز بين الأمة وبين الجماعات ما قبل القومية: العشائر، القبائل المتنقلة، واتحادات القبائل شبه المستقرة. إنّ استقرار هذه الجماعات في الأرض وتمازجها واختلاطها مع السكان الأصليين هو بداية تحطّم العلاقات والروابط القبلية، وبداية تكوّن علاقات وروابط جديدة، إقليمية- قومية. إنّ تكوّن الأمم لا ينفصل عن هذا الاستقرار في الوطن القومي- وبالنسبة للأمم الأوروبية، إنّ تكوّن اللغات القومية لا ينفصل عن هذا الاستقرار في الوطن القومي.

     “والفرق بين “الأسرة” و”العشيرة” من جهة، وبين “الأمة” و”الدولة” من جهة ثانية، ليس فرقاً في الحجم بين جماعة صغيرة وجماعة كبيرة، بل هو بالدرجة الأولى فرق في شروط الوجود البشري وفي نوع العلاقات والروابط داخل الجماعة: في العشيرة والقبيلة، إنتاج ما قبل الزراعة، ملكية جماعية، علاقات بطريركية، رابطة الدم. في الأمة إنتاج بضاعي وزراعي وصناعي، تقسيم واسع للعمل، تمايز طبقي كبير، صراع طبقات، روابط وعلاقات قومية. وكما أنّ الأرض تميّز الأمة عن الجماعات ما قبل القومية، كذلك فإنها تميّز الأمم بعضها عن بعض… فهي المصدر الوحيد للإنتاج، والإطار الطبيعي لحياة الناس اليومية، ولها دور واضح في تكوين ملامحهم النفسية، القومية والإقليمية… الجغرافيا لا تصنع الأمم، ولا تقرر تاريخها وأحوالها، ولكنّ الأمم وتاريخها وأحوالها تبقى سراً مغلقاً بدون الجغرافيا… الأرض شيء هام في حياة البشر، إنها أحد قطبي الإنتاج. والأمة تعيش مستقرة في الأرض، في أرض قومية مميزة… تتكوّن تاريخياً، وليس المقصود هنا التكوّن الجيولوجي للأرض… إنما المقصود الاستقرار التاريخي للأقوام المكوّنة للأمة، بتخالطها في أرض مميّزة تسمى الأرض القومية أو الوطن القومي، وتكون الإطار الجغرافي لتكوّن الأمة، ولتكوّن اللغة القومية أو انتشارها”.

     أما التكوين النفسي المشترك، فإنّ ’الحصري‘ يقول: إنّ السجايا القومية لا تتعلق بالطبقات، فقد نشأت قبل الطبقات، ولا تتعادل مع اللغة، فالإنكليز والأمريكان مختلفون. وهي تشمل على نحو ما الوعي والشعور والعادات والتقاليد والآمال، فهي تعني الأوصاف السيكولوجية للأمة التي تتجلى في بعض خصائص الثقافة كالمشيئة والدين، وكلاهما يؤثّر في الروابط القومية، لكنه يقرر أنّ الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية. ويوافقه ’مرقص‘ على ذلك “إنّ الملاحظات التي سجلها ’الحصري‘ حول الدين والقومية صحيحة- إلى حد كبير- ولعلها من أفضل ما كتبه”، لكنه شعر أنّ ’الحصري‘ قد ضاءل من دور الدين في تكوين القومية، ومن الدور الذي يلعبه في حياة الأمم وحتى في الوحدة القومية أو عدمها، لذلك قال “على الصعيد النظري العام يمكن القول: لقد كان الدين الأيديولوجيا الوحيدة للشعوب، في عصر تكون الأمم الأوروبية. وعلى هذا الأساس، فقد أعطى هذه الشعوب عدداً من العناصر التي دخلت في شخصيتها القومية”.

IV ـ الديمقراطية والمجتمع المدني

لقد أقام مرقص نظريته في الديمقراطية على ثلاث أفكار أساسية: أولاها، الفرد الحر المستقل ركيزة بناء الأمة وتطورها، بحيث يكون غياب الـ “أنا أفكر” سبب ضياع الـ”نحن” وتبديده، وبالتالي فالأمة توافق بين الأفراد. وثانيتها، الديمقراطية لا الليبرالية، فالديمقراطية ليست هدفا وطريقا وأداة في العمل السياسي وحسب، بل هي أيضا، موقف في نظرية المعرفـة. هي موقف اعتراف بالكائن والواقع، بذات الواقع والتاريخ، موقف اعتراف بالبشرية الأمية صانعة التاريخ. وفي هذا الإطار يفرق بين الديمقراطية والليبيرالية سياسيا، الليبيرالية هي موقف اعتراف بنخبة، بطبقة وسطى، ببورجوازية، بمثقفين وأحزاب، بدائرة حديثة من مجتمعنا، أي بشكل من أشكال (شعب الله المختار) حديث وأيديولوجي. كنخبوية من السهل أن تنقلب هذه الليبيرالية إلى فاشستية. الديمقراطية هي موقف اعتراف بجماهير هي كتل كبيرة مهمشة ويجب أن تتحول إلى ذات تاريخية وسياسية. وثالثتها، المجتمع المدني، باعتباره قضية الشعب، وكينونة المجتمع ذاتها، وهي أيضا قضية الوحدة القومية، الوحدة العربية .

إنّ مفهوم الأمة عند مرقص مؤسس على مفهوم الديمقراطية، بكل منطوياتها المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الديمقراطية بما هي حقوق الإنسان والمواطن، وفكرة الأكثرية الانتخابية الحرة التشكلية، وحق الاجتماع وحق تشكيل الجماعات، وحق الاختلاف .

لقد أيقن مرقص أنّ الماركسية لا يمكن أن تتضمن كل الحقيقة، ولا يمكن أن تكون الحد الذي تتوقف عنده المعرفة الإنسانية، فقد كان ماركسيا متحررا من صنمية النص، لأنّ انتسابه إلى هذا الفكر لم يكن انتسابا عصبوياً. وفي الوقت نفسه انتقد مثالية وذاتية النظرية القومية. كما سعى، بفكره وتنظيره، إلى تقديم تركيب نظري بين القومية والماركسية، إذ اكتشف أنّ المسألة القومية قد جرت معالجتها بشكل خاطئ من قبل كثير من المفكرين الماركسيين، ومن قبل الأحزاب الشيوعية، ومن قبل الحركات التي حملت راية القومية. وقد يكون مصدر نجاحه أنه كان باحثا عن الحقيقة وليس ساعيا وراء السلطة .

ــــــــــــــــــــــــــــ
(**) – ولد ’’الياس مرقص‘‘ في مدينة اللاذقية في العام 1929، ودرس فيها “مدرسة الفريـر”، وحصل على شهادة البكالوريا – قسم ثاني في العام 1945. سافر إلى بلجيكا ضمن عداد أول بعثة سورية في عصر الاستقلال، حيث درس في جامعة بروكسل الحرة . حصل على شهادة مجاز في علم الاجتماع والتربية، وعمل في مجال التعليم في الفترة ما بين سنتي 1952-1979 في اللاذقية. انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري في أواخر الأربعينات وتركه، أو طرد منه، في العام 1957. ساهم في مجلة “دراسات عربية”، وإنشاء “دار الحقيقة”، وإصدار مجلة “الواقع” في بيروت، وتأسيس مجلة “الوحدة” في الرباط، إضافة إلى العديد من الندوات الفكرية عربيا وعالميا. توفي بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 1991. بدأ التأليف والترجمة في العام 1955 ( انظر الملحق ) .

لم يترك مرقص لحظة من حياته إلا ووظفها فيما كان يسميه ” جرد الواقع ” والتعرف عليه، وفي التحصيل المعرفي والفكري، الذي حوله إلى متابع لتظاهرات الواقع العربي والعالمي في حياة ووعي الإنسان، وإلى طالب معرفة لا يكلُّ، يصل ليله بنهاره في عمل عقلي دائب، قاده إلى طرق جميع مجاهل ودروب المعرفة على وجه التقريب، وإلى العمل طيلة نيف وأربعين عاما بوتيرة لا يكاد المرء أن يصدق أنّ لها مثيلا في حياتنا، تعرّف خلالها إلى التاريخ والاقتصاد والفلسفة والمنطق وعلم النفس والاجتماع والسياسة واللاهوت وتاريخ الفن والرياضيات .

لقد كان الرجل يعتبر نفسه مناضلا من أجل الحقيقة أكثر مما كان يرى في ذاته مناضلا سياسيا، وكان يرفض رفضا قاطعا أي تنازل يمس علاقته بما يعتقد أنه الحقيقة . ومن يقرأ كتبه سيجد أنه قال أكثر الأفكار جرأة وخطورة دون خوف أو تردد، وأنه انتقد الواقع العربي والوطني بصراحة وقسوة لا مثيل لها في لغة السياسة العربية المعاصرة .

الملحق : الأعمال الكاملة لـ الياس مرقص

I ـ  المؤلفات

1 ـ الحزب الشيوعي الفرنسي وقضية الجزائر، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1959 .

2 ـ صفحات مجهولة من تاريخ الحزب الشيوعي في سورية ولبنان (بالاشتراك مع علي الزرقا)، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الدراسات العربية ـ 1960 .

3 ـ الستالينية والمسألة القومية ـ عن كتاب: في الفكر السياسي (بالاشتراك مع جمال الأتاسي، وعبد الكريم زهور، وياسين الحافظ)، الطبعة الأولى ـ دمشق، دار دمشق ـ 1963.

4 ـ موضوعات إلى مؤتمر اشتراكي عربي، الطبعة الأولى ـ دمشق، دار دمشق ـ 1963.

5 ـ تاريخ الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الطليعة ـ 1964.

6 ـ الماركسية في عصرنا، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الطليعة ـ 1965. والطبعة الثانية ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1969.

7 ـ نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1966.

8 ـ الماركسية والشرق، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1968 .

9 ـ الماركسية والمسألة القومية (مناظرة مع بسام طيبي) ، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الطليعة ـ 1970.

10 ـ نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن/ حول الضرورة التاريخية لنشوء حزب البروليتاريا العربي، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1970 .

11 ـ الماركسية – اللينينية والتطور العالمي والعربي، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1970 .

12 ـ نقد الفكر المقاوم /الجزء الأول (عفوية النظرية في العمل الفدائي )، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1970. اما الجزء الثاني فهو مخطوط .

13 ـ المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1971.

14 ـ في الأمة والمسألة القومية (مع مكسيم رودونسون، وإميل توما) الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1971 .

15 ـ الماركسية السوفياتية والقضايا العربية المعاصرة (مناقشة آراء العلماء والساسة السوفييت في مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوري)، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة 1973.

16 ـ المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، تم إنجاز المخطوط في عام 1982 ونشر في عام 1991 بعد وفاته، بدون تحديد مكان النشر .

17 ـ نقد العقلانية العربية، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار الحصاد ـ 1997. مخطوط نشر بعد وفاته، وكان قد كتبه بعد حضوره ندوة حول ” العقلانية العربية ” عقدت بتونس خلال الفترة من 12 ـ 14 يوليو / تموز 1988.

II ـ الترجمــات

1 ـ ماوتسي تونغ: الثورة الصينية ، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار دمشق ـ 1955 .

2 ـ لينين: الماركسية والثورة الاشتراكية، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار دمشق ـ 1957.

3 ـ بليخانوف: فلسفة التاريخ والمفهوم المادي للتاريخ ، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار دمشق ـ 1957.

4 ـ هوكياومو: ثلاثون عاما من حياة الحزب الشيوعي الصيني، الطبعة الأولى ـ دمشق، دار دمشق ـ 1957.

5 ـ أوسكار لانجة: الطريق البولوني إلى الاشتراكية ، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار دمشق ـ 1958.

6 ـ لينين: حركة التحرر الوطني في الشرق ، الطبعة الأولى ـ دمشق ، دار دمشق ـ 1958 .

7 ـ جيل مارتينه: تداعي النظام البرلماني، نشر في كتاب: في الفكر السياسي (الجزء الثاني)، الطبعة الأولى ـ دمشق ـ دار دمشق، 1963.

8 ـ كارل ماركس: مختارات من المؤلفات الأولى (1842 ـ 1846)، الطبعة الأولى ـ دمشق، دار دمشق ـ 1964 .

9 ـ وثائق من الحزب الشيوعي في مصر وسورية ولبنان (1931) نشرت في كتاب: الأممية الشيوعية والثورة العربية ، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1970.

10 ـ كارل ماركس: مخطوطات 1944 الاقتصادية والفلسفية، الطبعة الأولى ـ دمشق، وزارة الثقافة ـ 1970 .

11 ـ الكومنترن والقضايا العربية 1930، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة (؟) .

12 ـ لينين: الدفاتر الفلسفية (ثلاثة أجزاء)، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1973، والطبعة الثانية ـ 1983.

13 ـ برونو باور وكارل ماركس: حول المسألة اليهودية، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1973 .

14 ـ كتّاب يهود: الشعب الفلسطيني، اللاسامية ، الصهيونية ، اليهودية ومحاكمة الغرب، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1974.

15 ـ لودفيغ فيورباخ: مبادىء فلسفة المستقبل، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1975.

16 ـ روجيه غارودي: فكر هيغل، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1975 ، والطبعة الثانية ـ 1983.

17 ـ أوغست كورنو: ماركس وأنغلز ، حياتهما وأعمالهما الفكرية (الجزءان الثالث والرابع)، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1971.

18 ـ هيغل: مختارات (جزءان)، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1978، والطبعة الثانية ـ 1989.

19 ـ محاورات جورج لوكاش مع أساتذة ألمان غربيين: الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الطليعة ـ 1978.

20 ـ بلتيه وغوبلو: المادية التاريخية وتاريخ الحضارات، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1979.

21 ـ أرنست بلوخ: فلسفة عصر النهضة، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1980.

22 ـ روجيه غارودي: من اللعنة إلى الحوار، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1980.

23 ـ جان جاك شفالييه: المؤلفات السياسية الكبرى /من مكيافل إلى أيامنا، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1980.

24 ـ ميشيل دوفيز: أوروبا والعالم في نهاية القرن الثامن عشر (الجزء الأول)، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1980 . مع العلم أنّ الجزء الثاني مودع لدى ” دار الحقيقة ” .

25 ـ لوسيت فالنسي : المغرب العربي قبل 1830، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1980 .

26 ـ جورج لوكاش : تحطيم العقل (أربعة أجزاء)، الطبعة الأولى ـ بيروت، دار الحقيقة ـ 1980.

27 ـ جولييت منس : المرأة في العالم العربي ، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الحقيقة ـ 1981.

28 ـ مكسيم رودنسون : جاذبية الإسلام ، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار التنوير ـ 1982 .

29 ـ جوران تربورن : سلطة الأيديولوجيا وأيديولوجيا السلطة ، الطبعة الأولى ـ بيروت ، دار الوحدة ـ 1982.

30 ـ كارلو شيبولو : التاريخ الاقتصادي لسكان العالم ، الطبعة الأولى ـ دمشق ـ 1990.

III ـ المخطوطات

(أ) ـ المؤلفات:

1 ـ الجزء الثاني من نقد الفكر المقاوم .

2 ـ تاريخ الأحزاب الشيوعية .

3 ـ ضد ” قيس الشامي ” .

4 ـ ضد ألتوسير /كتاب كبير عنوانه ” الممارسة ونظرية المعرفة (عملية ألتوسير ضد الماركسية) “، مفقود في بيروت ؟ .

5 ـ نقد ” المادية الجدلية والمادية التاريخية “، جاهز منذ سنة 1986.

6 ـ المغايرة، الكون والتاريخ .

7 ـ اليمين الجديد، جاهز منذ سنة 1985 .

8 ـ دراسة حول الخط الفكري لمجلة الوحدة ، جاهز منذ سنة 1985 .

9 ـ مع جبرائيل سعادة .

(ب) ـ الترجمات:

1 ـ ريمون آرون: كلاوزفيتز، فكر الحرب (جزءان) .

2 ـ العبودية، مقدمة وشروح؟.

3 ـ القرى الأولى في بلاد الشام؟ .

4 ـ ماريو ليفراني: الملكية السورية في عصر البرونز .

IV– مجموعة مقالات منشورة في عدة مجلات عربية: دراسات عربية، الواقع، الوحدة، الآداب، الفكر الاستراتيجي العربي . إضافة إلى بعضها المنشور في جريدة ” السفير “، وفي نشرة ” الثورة العربية ” التي يصدرها حزب العمال العربي الثوري .

وهناك مجموعة حوارات مسجلة على كاسيت (حوالي 80 ساعة) تمت في الفترة ما بين 1984 ـ 1991، وهي تشمل المواضيع التالية: السيرة الذاتية، مفهوم الثورة، التقدم، الأسس الروحية لحقوق الإنسان، البيروسترويكا، اللغة واللغة العربية، غارودي، لينين، أزمة الخليج، اللاهوت، النقلات المطلوبة، فحص الكلمات، الإمبريالية، الناصرية وتاريخ العرب المعاصر. وقد نشر الصديق الأستاذ جاد الكريم الجباعي بعضها في كتاب تحت عنـــوان ” حوار العمر: أحاديث مع الياس مرقص ( (IIV” في العام 1999 .

……………………..

 ( (IIV. حوار العمر وقد تم نشره في موقع { الحرية أولاً } على حلقات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب وباحث أكاديمي سوري

المصدر: سرجون ‘النمرود’ في 26/1/2004 ونشر بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لوفاة ’’الياس مرقص‘‘ رحمه الله

التعليقات مغلقة.