عصمت عيسى *
الزمان: الساعة الثالثة والنصف فجرًا من اليوم الثاني عشر لشهر أيلول/سبتمبر عام ٢٠٠١.
المكان: منزلنا في دمشق . أسمع رنين جرس البيت.. يخيل لي بأنني أحلم.. أفتح عيناي وأركز بالسمع يصبح الرنين أكثر إلحاحاً.. شاءت الصدفة يومها أن أنام في غرفة الجلوس لأنني سأغادر دمشق في الصباح الباكر متجها إلى بيروت ولم أردّ أن أزعج العائلة فكانت كل أغراضي التي سأصطحبها معي بعيدة عن مكان غرف النوم حتى الأبواب المؤدية إلى غرف النوم كانت جميعها موصدة.. يومها غلبني النوم وأنا أتابع على التلفاز الصور والتحليلات عن تداعيات انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.. أقوم مسرعاً نحو باب المنزل وأسترق النظر من العين الصغيرة لأرى ثلاثة رجال مدنيي اللباس ويشرعون أسلحتهم نحو الباب.. كان يتوجب عليي اتخاذ قرار سريع فإما أن أقوم بفتح باب المنزل مباشرة أو أن أقوم بإيقاظ أبي أولاً.. بسرعة قررت أن أوقظ أبي أولاً فركضت نحو غرفة نومه وتوجهت نحوه ووضعت يدي على كتفه فاستيقظ مباشرة.. قلت له: أبي لقد جاؤوا ليأخذوك.. فقد كانت هذه اللحظة منتظرة ومتوقعة والتهديدات باعتقال أبي كثيرة والمجهول الوحيد كان توقيتها .
في هذه اللحظات كان الضرب على الباب قد أصبح عنيفاً.. قال لي أبي اذهب وافتح لهم الباب ودعهم يدخلون إلى غرفة المكتب وسألحق بك.. نفذت الأمر وتوجهت نحو باب المنزل ولم أكد أن أحرك مقبض الباب حتى دُفع بقوة شديدة وبلحظة واحدة كان الرجال الثلاثة داخل المنزل وأغلقوا خلفهم باب المنزل . هنا أمسك بي أحدهم بطريقة فظة وقال لي: أين أبوك؟
أجبته هو قادم تفضلوا إلى المكتب ريثما يصل مؤشراً لهم بيدي على باب المكتب الذي كان وقتها في أحد غرف المنزل ولكنه لم يأبه لما قلته وتوجه هو وأحد رفاقه نحو غرف النوم.. نعم هم يعرفون أين تقع غرف النوم.. في هذه اللحظة صرخت بصوتٍ عالِ أين أنتم ذاهبون هذا لا يصح هناك أمي وأخواتي… تعمدت بأن يكون صوتي عالياً ليسمعه أبي ويخرج من غرفته قبل اقتحامها وهذا ما حدث فعلاً فكان لقائه بهم قبل اقتحامها.. مباشرة طلبوا من أبي هويته الشخصية فقال لهم أبي عرفوا عن أنفسكم أولاً ثم أين مذكرة القبض واقتحام المنزل فقال له أحدهم مستهزئاً سترى المذكرة بالفرع وطبعاً لم يحدد الفرع.. كان أبي هادئ الأعصاب بطريقة لافتة وكان واضحاً بأنه يريد أن ينهي الموضوع بأسرع وقت ممكن كي يجنبنا كعائلة هذا الضغط وهذه الطريقة العنيفة في اقتحام منزل له حرمته في ساعات الفجر فطلب مني أن أحضر هويته من المكتب.. أحضرتها وأعطيتها له ليسلمها للمسؤول عن الاعتقال فدققها بسرعة وقال لأبي تفضل معنا وهنا طلب أبي بأن ينتظروا دقائق قليلة لكي يغير ملابسه وهذا ما كان . لحقتُ بهم خارج المنزل وسألت إن كان من الممكن أن أعرف إلى أين سيأخذونه.. هنا التفت أبي نحوي وقال بلهجة آمرة: عصمت عد إلى المنزل وأغلق الباب.. كان يريد أن يجنبني أي إهانة قد أسمعها ..
أذكر الآن تلك الليلة القاسية ولا تغيب تفاصيلها رغم مرور عشرون عاماً بالضبط عليها.. لربما تشبه تلك التجربة بالنسبة لي الموت الأول لأبي.. رغم قساوة هذا التعبير ولكن وبعيداً عن العاطفة كان بمثابة موت استمر لسنواتٍ خمس وكانت الزيارة نصف الشهرية ولمدة ثلاثين دقيقة كالحلم وحتى هذا الحلم كان قاسياً فصوت أبي كان يخرج بصعوبة بعد اعتياده على قلة الكلام عند قضاءه لأكثر من أربع سنوات من مدة اعتقاله بزنزانة انفرادية.. حلم كان قاسياً لأن الثلاثين دقيقة يحرسها مدير سجن الأمن السياسي.. أما الآن فالحلم بات مشروعاً واللقاء حر كما هو أبي حر في كل يوم عاشه .
* نجل المرحوم “حبيب عيسى”
المصدر: صفحة عصمت عيسى
التعليقات مغلقة.