الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

يوم كان العالم كله أمريكياً

محمد المنشاوي *

«كلنا أمريكيون»، هكذا جاء عنوان مانشيت صحيفة لوموند الفرنسية ذات التاريخ الطويل في انتقاد السياسة الخارجية الأمريكية قبل 20 عاماً صباح يوم 12 أيلول/ سبتمبر 2001.

وكان اختيار محرري الصحيفة لهذا العنوان عاكسا لحالة التعاطف العالمي رداً على وقوع هجمات 11 أيلول/ سبتمبر القبيحة، والتي قتل فيها 3 آلاف أمريكي داخل الأراضي الأمريكية. ولم يقتصر التعاطف العالمي على الأصدقاء في القارة الأوروبية، بل امتد هذا التعاطف لمختلف أنحاء العالم، وخرجت جموع من الشعب الكوبي للتبرع بالدم للضحايا رغم الحصار الأمريكي وتراث العداء بين الدولتين، كذلك قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالتبرع بدمه أمام شاشات التلفزيون رغم مرضه وكبر سنه.

بيد أن حظ أمريكا كان شديد السوء، فبدلاً من وجود حكماء في البيت الأبيض يستغلون هذا التعاطف غير المسبوق من أجل تشكيل تحالف دولي لمواجهة تهديد تنظيم القاعدة حول العالم، وللبحث في أسباب استهداف أمريكا بهذه الصورة، كانت هناك إدارة على رأسها جورج بوش وديك تشني ودونالد رامسفيلد وجون أشكروفت، وقاموا بدلاً من ذلك بتخيير العالم إما أن يقف مع أمريكا أو يقف ضدها.

ورداً على هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، اعتمدت إدارة بوش على استراتيجيتين سببتا عداء الكثير من الشعوب: الأولى تتعلق بحرب كونية ضد الإرهاب، والثانية تطلعت- صورياً- لنشر الديمقراطية في دول العالم العربي والإسلامي.

  • ••

تم التعبير عن الاستراتيجية الأولى في الحرب على الإرهاب ومن ثم جر الأمريكيين لحربين: الأولى في أفغانستان رآها أغلبهم مبررة، وبعد أقل من 3 سنوات أوقعتهم الإدارة ذاتها في حرب أخرى، رأتها الأغلبية غير مبررة، في العراق. وبعد 20 عاما من القتال وسقوط عشرات وربما مئات الآلاف بين قتلى وجرحى من الأفغان والعراقيين والأمريكان، خسرت أمريكا حرب أفغانستان تاركة وراءها دولة فاشلة ومجتمعا منهارا، وعادت حركة طالبان المتشددة للحكم بعدما أزاحتها واشنطن من سدة الحكم قبل 20 عاما. وبعد 17 عاما من الحرب في العراق، لم تنسحب القوات الأمريكية بصورة كاملة بعد، ولم يستقر العراق ولم ينعم برخاء اقتصادي، بل يخضع بصورة أو أخرى لهيمنة سياسية واقتصادية إيرانية.

ودفعت الاستراتيجية الثانية واشنطن للضغط على الدكتاتوريات العربية لتبنى ممارسات سياسية ديمقراطية. وصدمت نتائج «الانتخابات شبه الحرة»، التي أجريت في فلسطين ومصر والمغرب، الإدارة الأمريكية حيث حققت القوى السياسية الإسلامية مكاسب لم تتوقعها واشنطن. ثم فوجئت واشنطن بالربيع العربي مع اندلاع ثورات وانتفاضات شعبية عربية مطالبة بالديمقراطية، وكشفت المواقف الأمريكية خلال سنوات حكم الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ومن بعده الجمهوري دونالد ترامب، فراغ الدعوات الديمقراطية الأمريكية من مضمونها، مع العودة لدعم حلفائها من الدكتاتوريات العربية التقليدية.

  • ••

من ناحية أخرى، بعد 20 عاماً من تجربة الحرب على الإرهاب، لا تبشر حالة الديمقراطية الأمريكية ذاتها بأي خير، بل هناك أحداث تؤكد أن هناك خطراً حقيقياً على هذه الأمة الرائدة. فبسبب الحرب على الإرهاب عرفت أمريكا سياسات داخلية رآها الكثير من الخبراء دراكونية في طبيعتها حيث سمحت بتوغل الأجهزة الأمنية الأمريكية لسنوات في التنصت، وتتبع الكثير من مواطنيها خاصة المسلمين منهم.

وشهدت الحرب على الإرهاب ممارسات مشينة، واطلع العالم على فضائح معاملة المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب سيئ السمعة، كما كان لاستخدام معسكرات اعتقال في جوانتانامو تأثيرات بالغة على الصورة الأمريكية حول العالم خاصة مع ورود أنباء التعذيب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون، وحتى اليوم، وبعد 20 عاماً من استخدامه، لم يتم إغلاق المعتقل. وبررت واشنطن استخدام معسكرات الاعتقال السرية في العديد من دول العالم كي يمكن تعذيب المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية، وهو ما لا يمكن القيام به داخل الأراضي الأمريكية. ولم تتردد الإدارات المتعاقبة في استخدام الطائرات المسيرة (من دون طيار) لاستهداف مشتبه فيهم دون أي تحقيقات أو إظهار أي دلائل على ذلك. وقُتل المئات من المشتبه في كونهم إرهابيين في اليمن وباكستان وأفغانستان وغيرهم، وقُل معهم آلاف الأبرياء من النساء والأطفال.

من الناحية الجيواستراتيجية، فقد شغلت الحرب على الإرهاب الولايات المتحدة بمعارك هامشية في دول فقيرة هامشية، وجاء ذلك على حساب الاستراتيجية الكونية حيث ركزت الصين على النمو الصناعي والاقتصادي والعسكري، والذى كان نقطة الانطلاق له قبل 20 عاماً. من هنا مثّل عام 2001 عاماً فارقاً في تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وقد دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال بكين رخص الأيدي العاملة الماهرة والضخمة لجذب ملايين المستثمرين، وحققت الصين طفرة تنموية غير طبيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة جعلتها تتقدم وتصبح صاحبة الاقتصاد الثاني في العالم من حيث الكم.

صاحب ذلك خروج الكثير من التحليلات عن قرب وصول الاقتصاد الصيني للمرتبة الأولى، وقد يكون هذا التصور صحيحا فيما يتعلق بالكم، لكن عندما تتعلق المقارنة بالكيف، فما زال أمام الصين أشواط كبرى وطويلة واجب اجتيازها على مهل. وفى الوقت الذى لا يخشى فيه الكثير من الأمريكيين صعود الصين ويرونه حتميا، وعليهم التأقلم معه والاستفادة منه. ما يقلق الأمريكيين ويؤرق نومهم هو ما أفضى إليه حال الديمقراطية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، وحالة الاستقطاب الواسعة التي تُقسّم الأمريكيين. ومثلت أحداث 6 كانون الثاني/ يناير الماضي، حين تم اقتحام مبنى الكابيتول، ضربة للديمقراطية الأمريكية في قلبها مع رفض أنصار رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها، بل تمادى ليؤكد أنها مزورة من دون أن يقدم دليلا ملموسا على ذلك، وهو ما يفتح الباب للتشكيك في نتائج الانتخابات المستقبلية.

وتجيء ذكرى 11 أيلول/ سبتمبر هذا العام والعالم يحبس أنفاسه مما هو قادم بعد المشاهد الأليمة في محيط مطار كابول. لقد اعترف الرئيس بايدن بأن هدف بلاده لا يجب أن يتعلق بإعادة بناء دول أو مجتمعات أو تشكيلها على النسق الأمريكي. واستغرق الوصول لهذا الاعتراف عقدين من الزمان وتكلفة ضخمة من الدماء والأموال، ومن السمعة الدولية التي لا يُتخيل معها مرة أخرى أن يقول العالم، كما قال يوم 12 أيلول/ سبتمبر 2001، إننا «كلنا أمريكيون».

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشئون الأمريكية

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.