بشير عبد الفتاح *
«ستعمل بعض القوى على تأجيج الصراع الأفغاني ليطال دول الجوار، لكن موسكو وعت جيداً دروس تجربة عشر سنوات من الغزو السوفييتي لأفغانستان»، بهذه الكلمات برر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إحجام بلاده عن التورط العسكري المباشر فيما أسماه «حرب الجميع ضد الجميع داخل أفغانستان». بدورها، لم تستبعد مراكز تفكير ألمانية، أن تلجأ دول الجوار الأفغاني، باستثناء باكستان، إلى دعم ميليشيات وأمراء حرب داخل أفغانستان، أملا في الاستيلاء على مناطق حيوية حدودية، تشكل سدا منيعا بين تلك الدول والمأساة الأفغانية.
تأبى أفغانستان إلا أن تبقى ساحة لحروب الوكالة، لأجل المصالح والنفوذ بين القوى الكبرى والأطراف الإقليمية المعنية، من خلال المحليين والوكلاء. فأثناء المواجهات بين القوات السوفييتية و«المجاهدين» خلال الفترة من 1979ــ 1989، أمدت الولايات المتحدة الطرف الثاني بالأسلحة والخبرات. وبإرساء دعائم التموضع العسكري الأطلسي في أفغانستان منذ العام 2001، تدفق التمويل الأمريكي للحكومة والمحليين الأفغان لتقويض تنظيمي «داعش» و«القاعدة». ومع اقترابها من فرض الهيمنة على العاصمة كابول، غضت واشنطن الطرف عن استيلاء طالبان على معدات وأسلحة أمريكية ظلت لعقدين بمثابة عماد البنية العسكرية لقوات الجيش والشرطة الأفغانية.
واليوم، يجنح اللاعبون الدوليون والإقليميون، لتجنب الانخراط العسكري المباشر في المعترك الأفغاني. فبعدما طلب الرئيس بايدن من البنتاجون إعداد خطط طوارئ لتمديد بقاء القوات الأمريكية لعشرين يوما إضافية، بغية استكمال إجلاء جميع الرعايا الأمريكيين والغربيين والمتعاونين الأفغان، عاد ليؤكد الالتزام بموعد الانسحاب المقرر نهاية الشهر الجاري، درءًا لأية مخاطر قد تتهدد تلك العملية. وفى الوقت الذى اعتبر الأوروبيون أن واشنطن تتخلى عن خوض الحروب نيابة عن الآخرين، كان الأمريكيون يباشرون دبلوماسيتهم الرمادية عبر التنسيق الحذر مع طالبان بشأن عمليات الإجلاء ومستقبل العلاقات خلال المرحلة المقبلة، ومن خلال مباحثات جمعت مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، مع القيادي بحركة طالبان، عبدالغني برادر، في كابول، بمنأى عن ضجيج الدبلوماسية ولهيب الصدامات المسلحة.
أما روسيا، التي طوى إعرابها عن قلقها من كميات ونوعيات السلاح الأمريكي التي تحصلت عليها طالبان من القواعد الأمريكية والجيش الأفغاني، إيحاءات بتنسيق أمريكي ــ طالباني، فتمضى استراتيجيتها حيال أفغانستان، في مسارات ثلاثة متوازية: أولها، دعم فصائل أفغانية موالية لها، ربما تكون طالبان أبرزها. حيث تؤكد دوائر استخباراتية أمريكية، قيام موسكو، التي تصنف طالبان منظمة إرهابية، بفتح خط اتصالات مع الحركة منذ العام 2007، وإمداد مقاتليها بأسلحة خفيفة، لاستنزاف القوات الأطلسية في أفغانستان، علاوة على تمويل متشددين أفغان لقتل جنود أمريكيين هناك، انتقاما لمقتل مرتزقة روس داعمين لبشار الأسد، على يد أمريكيين في سوريا. وثانيها، مؤازرة دول الجوار الأفغاني الأعضاء بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، مبدية استعدادها لتزويدهم بالعتاد العسكري بأسعار مخفضة، وإجراء مناورات متتالية مع طاجيكستان وأوزبكستان، قرب حدود أفغانستان، للتدريب على منع تسلل الإرهابيين، وتعزيز الإجراءات المشتركة لصد العدوان. كذلك، رفعت موسكو مستوى التأهب بقواعد عسكرية أنشأتها بمحاذاة حدود طاجيكستان وقيرغيزستان مع أفغانستان، فيما تصر على منع واشنطن من إقامة قواعد عسكرية أو إعادة نشر قواتها بالمنطقة، التي تعد «نقطة ضعف» روسيا التاريخية. وثالثها، تعزيز التواصل والتنسيق مع بكين، عبر منظمة شنغهاي للتعاون، بغية مواجهة التهديدات القادمة من أفغانستان، وإرساء السلام في أرجائها، حتى لا تتسلل أصداء اضطراباتها إلى دول الجوار الإقليمي.
وعقب مباحثات أمريكية ــ روسية حول مآلات الأوضاع في أفغانستان، جدد الرئيس بوتين رفض بلاده التدخل عسكريا في صراع مفتعل داخل أفغانستان. ولم تفوت موسكو الفرصة، للتحذير من مغبة التغلغل الأمريكي في المحيط الجيوسياسي الروسي، ملوحة بإمكانية تكرار سيناريو أفغانستان مع «مؤيدي الخيار الأمريكي» في أوكرانيا، الذين أوصلتهم واشنطن إلى السلطة، وأغدقت عليهم السلاح المتطور، غير مكترثة بخروقاتهم وانتهاكاتهم، طالما ظلوا يتفانون في خدمة استراتيجية سيدهم الأمريكي. غير أن الراعي الذى سبق وتخلى عن النظام الموالي له في كابول، تاركا إياه فريسة للانهيار والسقوط، لن يتورع عن خذلان النظام الأوكراني المتعلق بتلابيب واشنطن والناتو، والزج ببلاده إلى حافة الهاوية.
أما الصين، التي تتخذ من مبدأ «عدم التدخل» دعامة لسياستها الخارجية، ولم يسبق لها نشر قوات لمهام قتالية خارج حدودها منذ عقود، فترنو إلى تعظيم نفوذها في أفغانستان بغير تموضع عسكري مباشر على الأرض. لكن حدودهما المشتركة التي تمتد بطول 76 كيلومترا، بمحاذاة منطقة شينجيانغ ذات الأغلبية المسلمة، ما برحت تشكّل مصدر قلق هائل لبكين المتخوفة من استخدام الانفصاليين الإيغور أفغانستان كنقطة انطلاق لشن هجمات. ورغم تأكيد قادة طالبان عدم سماحهم باستخدام بلادهم قاعدة لشنّ هجمات تستهدف أمن دول أخرى، أماطت مصادر أمنية صينية اللثام عن برنامج أطلقته واشنطن، عقب إطاحتها بحكم طالبان عام 2001، من أجل تدريب ما يناهز 400 «انفصالي» في إقليم شينجيانغ الصيني، على استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة والعبوات الناسفة، داخل معسكرات تدريب تابعة لحركة طالبان.
وبينما يرجح خبراء فرضية الرهان الصيني على دور عسكري باكستاني داخل أفغانستان، لا تتوانى بكين المدركة لمخططات واشنطن الهادفة لمحاصرتها، عن تنويع خياراتها. فما كادت الحكومة الأفغانية السابقة ترفض منحها ترخيص إنشاء قاعدة عسكرية هناك، حتى انتزعت من الحكومة الطاجيكية عام 2019 موافقة على إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من ولاية بادخشان الأفغانية، المعروفة منذ آلاف السنين بطريقها التجاري الذى يربط بين الصين والشرق الأوسط. وردا على زيارة نائبة الرئيس الأمريكي إلى فيتنام لدعم الرفض الإقليمي للمطالبات الصينية بالسيادة على مياه متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، حذت بكين حذو موسكو في تحذير سلطة تايوان من مصير مشابه لحكومة أفغانستان السابقة الموالية لواشنطن، والتي تركها الأمريكيون تنهار وتسقط على وقع الزحف الطالباني، مُحمّلينها كامل المسئولية، ومُتهمينها بالفشل والفساد.
لم تتورع باكستان، المتطلعة إلى الاستعانة بطالبان أفغانستان في تأمين عمق استراتيجي ضد التهديدات الهندية، المنبعثة من استخدام دلهي لأفغانستان كنقطة انطلاق لزعزعة استقرار باكستان من خلال تمويل وتسليح الجماعات الانفصالية البلوشية وبعض فصائل «طالبان» الباكستانية، عن مساعدة حركة «طالبان» البشتونية، وفتح الباب أمام استثمار تقاربها مع الصين لكبح جماح الدور الهندي المتنامي في أفغانستان والإقليم برمته. في المقابل، تخشى دلهي أن تصبح أفغانستان تحت حكم «طالبان»، شريكا لباكستان في استخدام الجماعات الإرهابية كرأس حربة ضدها، وتتوقع أن يؤدى انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان إلى تسريع الاتجاهات الحالية في علاقاتها الخارجية من تعاون أكبر مع واشنطن، ونزاعات أعمق مع بكين، وانشقاقات أوسع في الشراكة الاستراتيجية التقليدية مع موسكو، وذلك نتيجة التحولات الهيكلية لعلاقات باكستان المتغيرة مع القوى الدولية الثلاث. ومن المؤكد، حسب مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، أن تفضى هيمنة طالبان على السلطة بأفغانستان إلى تعاظم مخاوف الهند بشأن الإرهاب العابر للحدود. وببالغ قلق، ترقب الهند شراكة الصين الراسخة مع باكستان، التي تتمتع بصلات وثيقة مع «طالبان»، بما يعزز فرص ونفوذ الصين في أفغانستان. بيد أن الأمور تبقى مرتهنة بفرص تحقق السلام والاستقرار في أفغانستان، والتزام «طالبان» بتعهداتها المتعلقة بالنأي بنفسها عن مخططات الحركات الإسلامية الثائرة بمنطقة «شينجيانغ» المضطربة داخل الصين.
تجنبا منهما لمزاحمة الكبار، آثرت تركيا وإيران، استثمار أوراقهما الإثنية والطائفية داخل أفغانستان. فمن جانبها، هرعت تركيا إلى دعم قوميتي الأوزبك والتركمان، علاوة على حزب الجمعية الإسلامية، والحزب الإسلامي، كما زجت بعبدالرشيد دوستم أمير الحرب الأوزبكي، الذى شغل منصب نائب الرئيس بين عامي 2014 و2020، عساه يكون رقما صعبا في المعادلة الأفغانية عقب انسحاب قوات الناتو. ومن جهتها، مضت إيران، التي تلاحقها اتهامات بدعم طالبان ضد الأمريكيين، في استراتيجية تشكيل ميليشيات شيعية موالية لها سواء من داخل بعض الولايات الأفغانية المجاورة، مثل هيرات، التي كانت جزءا من إيران فيما مضى، أو من اللاجئين الأفغان لديها، على غرار جماعتي «فاطميون»، و«زينبيون»، اللتين أسستهما عام 2015، للقتال في سوريا، إضافة إلى ميليشيات الحشد الشعبي العراقية.
إلى جانب احتمالات تمرد الوكلاء والمحليين على توجيهات رُعاتهم ومُشَغليهم، أجج التفجير الانتحاري المزدوج بمحيط مطار كابول، بالتزامن مع تلويح صحيفة «جمهوري إسلامي» الإيرانية، المُقربة من المرشد خامنئي، بإمكانية نقل الميليشيات الأفغانية من إيران وسوريا إلى أفغانستان، لبسط السيطرة على بؤر طائفية حساسة، وتحويلها إلى جيتوهات مُغلقة أمنيا وسياسيا، أسوة بما فعل حزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، وميليشيات أخرى مشابهة في سوريا والعراق، اجج مخاوف المجتمع الدولي، من أن يفضى انبعاث حروب الوكالة في أفغانستان، إلى تمكين الفاعلين، من دون الدول، لاسيما التنظيمات التكفيرية الجهادية والميليشيات الإثنية الولائية، من توفير ملاذات آمنة على الأراضي الأفغانية، واتخاذها منصات لزعزعة استقرار دول الجوار، وتهديد السلم والأمن الدوليين.
* كاتب أكاديمي وباحث مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.