الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «العلويون في سورية»… ما الجديد؟

محمد تركي الربيعو *

في العقدين الأخيرين، أبدى عدد من الباحثين الغربيين اهتماماً بقراءة تاريخ العلويين في سوريا؛ فهذه الطائفة المهمشة و«المعزولة في الجبال» وفق الرواية التقليدية، سيلعب أبناؤها دوراً مؤثراً على صعيد الحياة السياسية والعسكرية في سوريا، بعيد الستينيات. وقد جاءت أحداث الانتفاضة السورية في عام 2011، لتدعم الاهتمام بدراسة هذا الجانب، وتنوعت زوايا النظر في هذا الشأن بين التركيز على «دور العلويين في فترة حافظ الأسد ووريثه (غولد سميث)» أو «قراءة طبيعة اللاهوت النصيري/العلوي (يارون فريدمان)».

وربما من أهم الكتب الصادرة في هذا الجانب أيضاً عمل المؤرخ الألماني (ستيفن وينتر «تاريخ العلويين في سوريا») الذي كشف فيه جوانب جديدة عن علاقة العلويين بالعثمانيين، من خلال العودة إلى كمّ واسع من الوثائق المتوفرة حول أبناء الريف السوري خلال هذه الفترة، وخلافاً للصورة التي تقول إنهم عاشوا في الجبال معزولين، نكتشف مع ’وينتر‘ أنّ هذا الطرح لم يكن دقيقاً كفايةً، وأنّ عائلات علوية عديدة ارتبطت بالعثمانيين في فترة القرن الثامن عشر، ولعبت دوراً على صعيد حكم مناطق واسعة وجمع الضرائب للدولة المركزية.

وقد ساهمت هذه الكتب والقراءات في السنوات الأخيرة بتعريفنا وتقريبنا أكثر من فهم التاريخ العلوي في سوريا، ومع مرور الأحداث، وتحول تاريخ البلاد وطوائفها وإثنياتها إلى جزء من النقاش والسجال اليومي، بدا أحياناً أنّ الخوض في هذه التواريخ، ضمن ما هو متراكم من دراسات وكتب ليس بالأمر اليسير، خاصة أنّ هناك عاملاً آخر عقّدَ من هذا الجانب، ويتعلق بعدم القدرة على خوض زيارات ميدانية، كما فعل غالبية من درسوا العلويين في سوريا قبل عام 2011، ولذلك كان عدد من هؤلاء الباحثين والمهتمين، يعودون لأرشيفهم وأوراقهم القديمة، للحديث عن العلويين، وبالأخص فترة الأسد الأب (ريموند هينبوش) ما أدى أحياناً إلى تكرار الأفكار والاستنتاجات ذاتها حول هذا التاريخ، في حين بقي موضوع دراسة العلويين ومناطقهم بعد الحرب، موضوعاً صعب المنال، ربما لأسباب عديدة، أهمها بلا شك عدم القدرة على القيام بزيارات ميدانية، ولذلك بدت أحياناً القراءات في هذا الجانب ضعيفة، أو تركز على جوانب هامشية (موضوع العلويين في المعارضة السورية) وربما من الاستثناءات القليلة في هذا الجانب، الدراسات التي أعدّها الباحث السوري “خضر خضور” حول مجتمع الساحل خلال النزاع.

وربما من بين الأمثلة التي توضح الإشكالية التي أخذ يعاني منها الباحثون في دراسة المجتمع العلوي، حتى على صعيد مناطق أخرى في سوريا بُعيّد الحرب، كتاب «العلويون في سورية: الحرب والدين والسياسة في المشرق» الذي تُرجِم مؤخرا للعربية، ترجمة رضوان زيادة، أحمد العبدة، عن منتدى العلاقات العربية الدولية. ففي هذا الكتاب الذي صدر بنسخته الإنكليزية عام 2015، وضمّ أوراق عدد من الباحثين الغربيين، نلاحظ أنه بقدر ما سعى المشاركون إلى فهم تاريخ العلويين في البلاد، لكنهم في الغالب كانوا يقفون على تخوم الأحداث في سوريا بعد عام 2011 دون أن يتمكنوا من فهم ما جرى في المجتمع العلوي على صعيد العلاقة بالنظام، وظهور شبكات اقتصادية وأهلية جديدة، وأيضاً على صعيد التدين داخل الطائفة، وهل أفرزت الحرب طقوساً جديدة في هذا الشأن، خاصة أنّ الطقوس في فترات الأزمة يعاد إنتاجها وإحياؤها أحيانا لتعلب دوراً على صعيد رسم خطوط الصراع الاجتماعية (لاحظ مثلا طقوس المولد النبوي في السنوات الأخيرة لدى الدمشقيين) ولذلك نرى أنّ غالبية هذه الدراسات انشغلت بالجانب التاريخي، كما بدت متفاوتة سواء على مستوى الطرح، أو غارقة في تكرار بعض الكليشيهات التقليدية (مجتمع العزلة).

وربما ما يجعل القارئ لهذا الكتاب يصل لهذا الاستنتاج، أنّ ترجمة الكتاب تأتي في فترة شهدت تراكماً لا بأس به على صعيد الكتب والدراسات المترجمة عن العلويين في سوريا، ما جعل بعض الاستنتاجات والقراءات في هذا الكتاب تقليدية. ففي دراسة بعنوان «تكوين مجتمع سورية العلوي» يحاول “أسلم فاروق علي” (جامعة كيب تاون، جنوب افريقيا) دراسة تكوّن هذا المجتمع ومعتقداته على مدار ألف عام تقريباً، وهو يرى في أنّ الأعيان، بقوا يحكمون هذا المجتمع، وبالأخص في الفترتين العثمانية والفرنسية، مقابل الوصول إلى أشكال متنوعة ومحددة من السلطة السياسية والمكاسب الاقتصادية، لكن ذلك سيتغير مع ثورة 1925، كما جادل المؤرخ الأمريكي “مايكل برفنس”، التي شكلت معلماً بارزاً يؤذن بظهور السياسات الجماهيرية في العالم العربي، وفي سياق اهتمامه بدور العلويين في الخمسينيات، يرى الباحث أن ظهور طبقة متعلمة برزت على نطاق واسع داخل الجيش وحزب البعث، أدت إلى خلق إحساس باللحمة أو العشائرية المجتمعية، التي لم تكن موجودة من قبل، مع ذلك فهو لا يبين لنا كيف تشكلت هذه اللحمة، ومتى، وأطوارها، وما هي الأفكار التي دفعتها للتشكل؟ وربما دون هذه الإجابات، سنبقى نحوم حول السردية ذاتها، التي تقول إن هناك «مؤامرة علوية» تم التخطيط لها منذ الخمسينيات، أو ربما قبل ذلك، مع أنّ المجتمع العلوي، كما يبين في دراسته، بدا منقسماً في تلك الفترة بين عدة عشائر وزعامات محلية. وربما ما يُسجَّلُ على هذه الدراسة أنّ الباحث بالغ في فكرة أنّ العلويين كانوا يعيشون في عزلة قبل بدايات القرن العشرين، وبذلك نكون أمام تاريخين (تاريخ العزلة، وما بعده) وهذا رأي لا يوافقه عليه “ستيفن وينتر” في ورقة مهمة له بعنوان «العلويون في العهد العثماني» إذ يرى ’وينتر‘ أنّ هذه السردية، التي تظهر العلويين في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا، بينما كانوا غائبين قبلها، هي سردية وقع بها عدد كبير من الأكاديميين، ويعود ذلك في الغالب إلى النزعة العامة في «التأريخ القومي» الحديث لرفض الفترة العثمانية برمتها، أما السبب الأهم كما يراه فهو يعود إلى اعتماد المؤرخين المفرط على نصوص دينية ورِوائية تركز الاهتمام بطبيعتها على هوية العلويين الدينية المختلفة، بدل التركيز على اندماجهم في المجتمع السوري والعثماني الأوسع. واستناداً إلى سجلات الأرشيف العثماني في إسطنبول وطرابلس، يبين ’وينتر‘ في ورقته هذه، أنه منذ أواخر القرن السادس عشر حاول العثمانيون أحياناً في تعاملهم مع العلويين الفصل بين رؤيتهم الدينية التقليدية، والسعي ببساطة لزيادة إيراداتهم إلى الحد الأقصى، ففي حادثة فريدة تتعلق بالإنتاج غير الشرعي للمشروبات الكحولية في منطقة حمص عام 1584 يرِدْ الأمر التالي: «يسكن جبال طرابلس بشكل رئيس الطائفة النصيرية، وهم زنادقة شيعة يجلبون باستمرار الخمر لبيعه والمتاجرة به.. من الأفضل بكثير لخزانة الدولة (ميري) في كل الأحوال أن تفرض ضريبة على الخمر، بالإضافة إلى الضرائب المقدرة وضرائب الوزن.. لذا قرر (السلطان) إصدار فرمان يقضي، طالما أن هذا لا يسبب أي ضرر لجباية الضرائب الأخرى.. بفرض ضريبة على الخمر الذي يجلبه النصيريون، وفق القانون القديم، والضرائب المقدرة وضرائب الوزن في منطقة حمص والمناطق الأخرى المشار إليها».

كما يبين ’وينتر‘ من خلال دراسته للسجلات في القرن الثامن عشر، كيف لعبت عائلات مثل “شمسين” دوراً في نظام الالتزام العثماني، كما عرفت هذه الفترة صعود طبقة الأعيان، جراء تطور زراعة التبغ، ما أدى إلى تحول اللاذقية في القرن الثامن عشر إلى مركز تجاري رئيس، وفّر العمالة للعديد من العلويين ومجتمعات الفلاحين الأخرى في المنطقة، لكن هذه الرؤية لا تعني في المقابل نفي إجراءات التمييز التي مورست أحياناً بحق الملتزمين العلويين أنفسهم وباقي الأفراد (مثل الاحتفاظ بزوجة الملتزم أو ابنه رهينة في جزيرة أرواد) كما أنّ أوضاعهم المعيشية بقيت صعبة كحال معظم الفلاحين السوريين.

«روح على الشام يا ابني»:

حاول بعض المشاركين في الكتاب الاعتماد على أرشيفهم، وزياراتهم الميدانية السابقة، لفهم ما يجري في سوريا بعد عام 2011، وربما من بين هذه المحاولات الورقة التي كتبها “ليون غول سميث” «تنوع العلويين وتضامنهم: من الساحل إلى الداخل» إذ يميز بين مجتمعين علويين، علويي الساحل وعلويي الداخل، ويرى أنّ سياسات بشار الأسد الاقتصادية، أدت إلى تركز هائل للسلطة الاقتصادية في أيدي أفراد مقربين من النظام، فيما تزايد إهمال العلويين العاديين في الأرياف، ما خلق حالة من الحساسية لدى علويي الداخل من وجود تفرقة مناطقية لصالح علويي الساحل، لكن هذا الشعور سيزول مع الأشهر الأولى من اندلاع الانتفاضة، إذ أجبِرَ علويو الداخل، كما يرى، على اتخاذ مواقف متشابهة مع علويي الساحل. وفي دراسة أخرى يدرس “آلان جورح” اقتصاد سوق بشار الاجتماعي، الذي لعب دوراً مساعداً في حدوث الانتفاضة السورية. ومن الدراسات المهمة في هذا الجانب هي التي أعدها “فابريس بالانش” (جامعة ليون2) بعنوان «روح على الشام يا ابني: التحولات الديموغرافية العلوية» التي حاول فيها قراءة تاريخ العلويين في سوريا خلال مئة سنة من زاوية الديموغرافيا، ومن خلال إجراء جولات ميدانية عديدة في فترة ما قبل الحرب في مدن الساحل وبعض ضواحي دمشق التي يعيش فيها علويون، يرى أنه في عام 1935، تظهر نتائج الإحصاء السكاني مستويات تمدن منخفضة بين المجتمعات العلوية داخل المنطقة الساحلية في الدولة العلوية، ولذلك شكلوا ثلثي سكان الدولة العلوية، لكنهم لم يمثلوا إلا 3% فقط من سكان المدن، وخلال العقد التالي، ازداد عدد العلويين في بلدات ومراكز المنطقة الحضرية بنسبة مهمة بلغت قرابة الـ10%، وعلى الرغم من أنّ عملية التمدن العلوي كانت تتقدم على نحو جيد في نهاية منتصف القرن العشرين، فإنّ مستويات الفقر والتخلف الشديد استمرت، وهذا ما نراه في حي الرمل الشمالي، وهو حي علوي أنشئ شمال مدينة اللاذقية، إذ يصف لنا “منير مشبك موسى” وهو أنثروبولوجي محلي الوضع في تلك الفترة كالتالي: «لا كهرباء، ولا ماء، ولا صرف صحي، ولا خدمات بلدية، ولا رعاية صحية. بعوض وذباب بعدد حبات الرمل.. معظم سكان الحي عمال أو من فئات البروليتاريا الأخرى؛ بعضهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى من الموظفين أو التجار، 35% من السكان يعيشون في بيوت يملكونها»..؛ مع فترة الإصلاح الزراعي، أقيم عدد من السدود على ضفاف العاصي، ما خلق زراعة مروية وظهور فرص عمل مهمة في السهول قليلة السكان، وأدى إلى انتقال آلاف العائلات العلوية من الجبال إلى السهول المنخفضة المحيطة به، وبالتوازي مع هذا التطور، أطلقت الحكومة البعثية في عام 1963 مشروع بناء تجمع سكني واسع لإيواء تدفقات القادمين، وقد رحب علويو الساحل بهذه المبادرات، وسهل تحالفهم مع الحزب الحاكم، وقد أسس العلويون المهاجرون أحياء لهم في جنوب حمص وشرقها مثل أحياء الزهراء وكرم اللوز والأرمن وكرم الزيتون، وبحلول الثمانينيات أصبحوا مجتمع الأغلبية في المدن الساحلية اللاذقية، كما ازداد وجودهم في مدينة دمشق، حتى إن إحدى النكات الشامية الشائعة العنصرية! آنذاك كانت تقول «لم رأس الولد العلوي مسطح؟ الجواب: لأن أمه كانت تصفعه صباح كل يوم على رأسه من الخلف وتقول له: روح ع الشام يا ابني» لكن هذا التطور وفقاً للباحث سيسهم لاحقاً في ظهور طبقة مواطنين علويين أفضل! تعليماً وأكثر! غنى ونفوذاً سياسياً، ما سيؤدي إلى تراجع معدلات الإنجاب في السنوات العشرين الأخيرة مقارنة ببعض مناطق الداخل السني (القلمون) وهذا ما عنى استنزاف المصدر الأساسي للدعم الديموغرافي والعناصر العسكرية، الأمر الذي يفسر برأيه سبب اعتماد النظام على مقاتلين أجانب بعد الانتفاضة السورية. في باقي أوراق الكتاب، ربما ليس هناك من جديد، بالنسبة لمعرفتنا اليوم حول علويي سوريا، في أوراق “هينبوش وكارستن ويلاند” «العلويون في المعارضة» أو ورقة “أرون لوند” «ظاهرة الشبيحة».

وتبقى من الأوراق اللافتة في هذا الكتاب ورقة “راينود ليندرز” «القمع ليس شيئاً غبياً» الذي قدم فيها فكرة مخالفة للسائد، تقول إنّ النظام لم يكن ساذجاً أو مجنوناً في قمعه للمتظاهرين، بل كان مدركاً ومنذ اللحظات الأولى لأهمية العنف في قمع الاحتجاجات، حتى لو أدت إلى ردات فعل مسلحة، لأنه أدرك أنّ احتمال إسقاطه عبر الجماهير أكبر بكثير من سقوطه على يد المتمردين المسلحين. ويبقى الكتاب مهما وواجب القراءة، رغم قصوره في معرفة واقع العلويين اليوم في سوريا.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.