الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الفراغ الاستراتيجي المحتمل في الشرق الأوسط!

عبد الله السناوي *

بتوقيت متزامن تدافعت الحوادث قريباً منا وحولنا على نحو يومئ بأوضاع استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط.

اتصالات معلنة وغير معلنة بين أطراف إقليمية متنازعة لاكتشاف مواضع الأقدام فوق أرض متحركة ومحاولات حثيثة لخفض التوترات خشية ما قد يحدث غدا، أو بعد غد.

الإقليم كله في وضع تأهب ترقبا لانسحاب تقترب مواعيده للقوات الأمريكية من العراق.

لم يكن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان حدثا منعزلا عن حسابات الإقليم الذى نحيا فيه وتشتعل في جنباته أزمات وحروب مزمنة أنهكت بلدانه بقسوة بالغة.

وفق نفس النظرة الاستراتيجية الأمريكية، التي سوغت الانسحاب من أفغانستان، فمن المتوقع انسحابا مماثلا من العراق، الذى جرى احتلاله وتحطيمه بعد أفغانستان مباشرة على إثر حادث الحادي عشر من سبتمبر قبل عشرين عاما بالضبط.

هناك ما يشبه الإجماع داخل المؤسسة الأمريكية على سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والمشرق العربي وتخفيض الحضور العسكري في الخليج، الذى عليه أن يتحمل تكاليف حمايته ــ على ما كان يقول الرئيس السابق «دونالد ترامب»،

هذا خط استراتيجي سوف يأخذ مداه بغض النظر عمن يجلس في البيت الأبيض بقصد تركيز الاهتمام على الداخل الأمريكي المتصدع بصراعاته السياسية والعرقية والتوجه بدرجة أكبر إلى الشرق الآسيوي حيث الصراع على المستقبل مع الصين.

لم يكن الاعتراض في الحالة الأفغانية منّصباً على المبدأ بقدر ما كان على الطريقة العشوائية التي جرى بها الانسحاب ونالت بقسوة من هيبة الولايات المتحدة.

ولا كان انسحاب القوات الأمريكية المتمركزة في سوريا مستبعدا على عهد «ترامب»، فقد تبنى خيار الانسحاب وأعلن عنه، لكنه أجله لوقت لاحق تحت ضغط المؤسستين المؤسسة العسكرية والاستخباراتية خشية الأضرار المحتملة بالحلفاء.

ثم سوَّغ بقاءها بالاستيلاء على البترول السوري، هكذا دون حياء.

مقدمات وشواهد الانسحاب الأمريكي من العراق ماثلة، ترتيبات أمنية وسياسية تمهد وجو عام داخلي يطلب ويلح على ذلك الانسحاب، الذى يتلكأ خشية الإضرار بمصالح وحلفاء، لكنه محتم في مدى منظور.

العراق ليست أفغانستان، بقدر مركزية موقعها في مشرق العالم العربي وحجم أدوارها المحتملة في معادلات الإقليم إذا ما استعادت قدرتها على الحركة والفعل المستقلين.

أفغانستان قضية حرب على الإرهاب وسط آسيا ومناكفة لدول الجوار فيما العراق قضية عالم عربي يتطلع أن ينهض مجددا من تحت الركام، وهذا تهديد وجودي للحليف الإسرائيلي.

عودة العراق تعاكس ما تعرض له من تحطيم منهجي على مدى عشرين عاما بحل جيشه ومؤسساته ومحاولات تقسيمه لثلاث دويلات عرقية ومذهبية.

بأي حساب لن تكون عودة العراق سهلة ومتاحة على هذا النحو المرجو بمجرد الانسحاب الأمريكي، فالألغام سوف تزرع لتفجيره من الداخل ومنعه من استعادة دوره ووزنه كقوة عربية كبيرة ومؤثرة.

أحد التحديات الرئيسية، التي سوف تطرح نفسها على العراق وجواره وعالمه: «من يملأ فراغ القوة الأمريكية؟».

فى أعقاب حرب السويس (1956)، التي أفضت نتائجها السياسية والاستراتيجية إلى انكشاف الإمبراطوريتين السابقتين الفرنسية والبريطانية وتراجع أوزانهما فى معادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية طرحت القوة الصاعدة الأمريكية نفسها بديلا باسم «ملء الفراغ».

تصدت مصر، الدولة المستقلة حديثا، لسياسات ملء الفراغ بالأحلاف العسكرية كـ«حلف بغداد»، ونجحت في اسقاطها بقوة العمل الشعبي العربي، الذى التف حول زعامة «جمال عبدالناصر».

الأحوال الآن اختلفت، لا نحن في زمن حركات التحرر الوطني، ولا الإمبراطورية الأمريكية سوف تخرج نهائياً من الإقليم لكن أوزانها في تراجع مضطرد يكاد ينفى عنها صفة القوة العظمى، الصين بدورها لاعب جوهري محتمل دون أن يكون بوسعه أن يتطلع لأية أدوار تماثل ما تمتعت به الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بوسع روسيا الطموحة اكتساب أية أوزان إضافية بالنظر إلى أوضاعها الاقتصادية، ولا الاتحاد الأوروبي بقدرته أن يطرح نفسه بديلا أو شبه بديل.

الأطراف الدولية كلها سوف تتنازع على اكتساب مساحات أكبر دون أن يكون بوسع أحد أن يهيمن، أو يرث الدور الأمريكي السابق، أو الذى يكاد أن يكون سابقا!

من يملأ الفراغ الاستراتيجي إذن؟

أسوأ إجابة ممكنة: «إسرائيل المتحفزة» بتحالف أكبر مع حلف «الناتو» وبحركة أوسع لتمديد الاعتراف بها من دول عربية جديدة بزعم حمايتها وما قد توفره من خبرات تقنية حديثة.

بمعنى آخر، استراتيجي مقصود: تطويع العالم العربي لمقتضيات قيادتها دون أية تسوية للقضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية، تطبيع مجانى وسلام بلا أرض، وتصعيد المواجهة بالمقابل مع إيران كـ«عدو افتراضي» جديد يسوغ التحالف معها!

إذا ما توصلت مفاوضات فيينا إلى إحياء الاتفاق النووي، فإن الحسابات كلها سوف تختلف، وتترتب عليها انقلابات إقليمية تجرى بمقتضاها تسوية الأزمتين السورية واليمنية بالتوافق بين اللاعبين الإقليميين، وهذا بالضبط ما تناهضه إسرائيل ساعية إلى منع أي إحياء للاتفاق النووي.

وسط تعقيدات الإقليم فإن التطلع الإسرائيلي لملء الفراغ محض أوهام.

سؤال الفراغ بتحدياته طرح نفسه بصورة غير مباشرة على «مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة».

المؤتمر لخص الجو العام الجديد في الإقليم وأجواء الترقب لما قد يحدث غداً.

لم تكن قيمة المؤتمر في القرارات التي أصدرها، بقدر الجو العام الذى ساده، فقد تجمعت على مائدة واحدة تناقضات الإقليم كله، غلبت مداخلاته روح المصالحة والاستعداد بدرجات مختلفة لطى صفحة الخلافات دون دخول في أية ملفات ملغمة خشية إفساد المؤتمر برسالتيه المعلنة ــ دعم العراق ومساندته، وغير المعلنة ــ استكشاف فرص إعادة التمركز انتظارا لما قد يحدث عند الانسحاب الأمريكي من العراق.

كان حضور الرئيس الفرنسي «مانويل ماكرون» لأعمال المؤتمر دالا بذاته عن نزوع غربي، أمريكي بالضرورة، لخفض مستوى الصراعات البينية في الإقليم بين الحلفاء المفترضين للتحكم في التوجهات العامة لما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق خشية أن تفلت التفاعلات وتصب نتائجها في اتجاهات مضادة.

بعض الاقترابات التي جرت على هامش المؤتمر متوقعة وبعضها الآخر مفاجئة.

مما هو متوقع الإشارات المتضمنة في الخطابين السعودي والإيراني من روح تستجيب لدواعي المصالحة دون أن تمضى إلى نهاية الشوط، فالحوار بين البلدين جار في سلطنة عمان، ورئيس الوزراء العراقي كشف علناً ما كان معروفا في الكواليس الدبلوماسية والإعلامية من دور قديم لبغداد في مد الجسور وتنظيم لقاءات بينهما.

ومما هو متوقع الإعلان عن جولة استكشافية جديدة مصرية تركية في أنقرة بغضون أسبوع، تمهيدا للإقدام على خطوة راديكالية في مستوى العلاقة بين البلدين، لم يحدث مثلها مع الإيرانيين رغم الاتصالات غير المعلنة.

ومما هو مفاجئ تسارع اللقاءات بين الإماراتيين والقطريين، ربما في محاولة من الطرفين ألا يضر أحدهما الآخر بمقبل التفاعلات.

بصورة أو أخرى حدث نوع من التقاطع بين مصالح دول الإقليم في تخفيض التوترات ومصالح الغرب في التحكم بما قد يحدث عقب الانسحاب الأمريكي.

بتفاهم ما استُبعدت سوريا ولبنان من حضور المؤتمر، كان ذلك إجراءً مقصوداً بذريعة أن حضورهما قد يصب لصالح إيران، فيما كانت إيران نفسها ممثلة في المؤتمر بوزير خارجيتها الجديد «حسين أمير عبد اللهيان»، كأن المقصود في اللعبة الجديدة تحجيم أدوارها دون إلغائها.

المأساة ــ هنا ــ أن سوريا بلد جوهري في المشرق العربي واستبعاده عمل عدائي ينزع عن المؤتمر شمولية فكرة المصالحة الإقليمية.

وتغييب لبنان عمل عدائي آخر ضد بلد عربي يتعرض لمحنة اقتصادية واجتماعية وسياسية متفاقمة تكاد تدفعه إلى التفكيك دون أن يجد سندا جماعيا من محيطه.

كان ذلك داعيا للاحتجاج من نخب عربية عديدة دون أن تقلل من أهمية المضي قدماً في سياسات خفض التوتر بالإقليم المنكوب.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.