
بشير عبد الفتاح *
«ابحث عن الاقتصاد»، هكذا تخبرنا خلاصة تفاعلات السياسة العالمية، بكل ما تمخضت عنه من تجارب وخبرات، كما تعلمنا أدبيات العلاقات الدولية، بعصارة ما بلورته من مبادئ ونظريات. فغير بعيد عن الصورة الذهنية النمطية السلبية التي استوطنت مخيلة العالمين بشأن أفغانستان، بينما لا تفتأ مختلف الوسائط الإعلامية تكرسها من خلال عرضها المأساوي والمتواصل لفصول تراجيديا القتل، والحرق، والهجرة، واللجوء، وشظف العيش، تؤكد دراسات جيولوجية أمريكية أجريت عام 2007، أن البلد الكامن بقلب القارة الآسيوية، ويصارع الفشل منذ عقود، يطفو على مخزون هائل من الثروات الباطنية. ففي عام 2013، قدَر تقرير مشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي القيمة الاقتصادية لاحتياطاتها من المعادن النفيسة، والعناصر المشعة، بما يربو على ثلاثة تريليونات دولار.
تؤكد التقديرات أن جبال أفغانستان، التي طالما شكلت ملاذات للمارقين، وصحرائها التي مثلت ميادين لحروب طاحنة، سواءً بين مكونات الموزاييك الإثني المعقد والملتهب بقيادة أمراء الحرب، أو في مواجهة الجحافل العسكرية الأجنبية الغازية، تحتضن عروقا لمعادن ثمينة، مثل الذهب والفضة والنحاس والألومنيوم، والزنك، والكوبالت، والزئبق، والبوكسيت، علاوة على طيف مذهل من العناصر الكيميائية المشعة، وأبرزها الليثيوم، الذى يستخدم في صناعات دقيقة وحساسة، مثل الإلكترونيات ذات التكنولوجيا الفائقة، وبطاريات الهواتف الذكية، وبطاريات السيارات الكهربائية، والأقمار الاصطناعية، والمعدات العسكرية المتطورة، كالرادارات والطائرات.
كونه موضع تنافس أمريكي- صيني حول سلاسل الإمداد الخاصة بإنتاج الطاقة النظيفة، إذ يستخدم في تصنيع بطاريات تخزين الطاقة الكهربائية المنبعثة من المصادر المتجددة، كما منشآت توليد الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، يكتسى تهافت القوى العظمى على عنصر الليثيوم أهمية جيوسياسية. فلقد تنامى الطلب عليه خلال الآونة الأخيرة، مع اتجاه مصانع السيارات للتوسع في إنتاج المركبات الكهربائية، بعدما أعلنت الدول المنتجة لها، اعتزامها تقليص بيع السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي، توخيا لبلوغ الحياد الكربوني، ثم تشديد البنك الدولي على ضرورة مضاعفة إنتاج الليثيوم خمس مرات، توسلا لتصفير الانبعاثات الغازية الضارة بحلول العام 2050. وبتفاقم الاهتمام العالمي بالاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، تتوقع وكالة الطاقة الدولية، ازدياد الطلب العالمي على الليثيوم بمعدل 40 ضعفا بحلول عام 2040. الأمر الذى من شأنه تعظيم العائدات الأفغانية المحتملة مستقبلا، خصوصا بعدما وصفت مذكرة لوزارة الدفاع الأمريكية عام 2010، أفغانستان بـ«سعودية الليثيوم»، في إشارة إلى امتلاكها أضخم احتياطي عالمي من ذلك العنصر الحيوي.
لم يتسنَ لثروات أفغانستان الباطنية الهائلة تحرير اقتصادها الهش من أغلال الانهيار المحبط، أو إسار الاعتماد المفرط على المساعدات الدولية، أو حتى تذليل العقبات التي قوضت طموحاتها التنموية حينا من الدهر. فما برح البلد المنعوت بأنه «مقبرة الغزاة»، يكابد التداعيات المؤلمة والمزمنة للغزو الأجنبي المتكرر، والحروب الأهلية المتجددة، كانعدام الأمن، وغياب الاستقرار السياسي، والوهن المؤسساتي، وتدهور البنى التحتية، وتفشى الفساد، ونزيف العقول، وهروب المستثمرين الأجانب، وافتقاد البلاد لثقة المانحين الدوليين، علاوة على غياب الإطار السياسي والقانوني الذى يحمى وينظم عملية إدارة الموارد.
شأنها شأن غالبية البلدان النامية ذات الموزاييك الإثني القلق، اعتبر، أشرف غنى، الخبير الاقتصادي، ورئيس أفغانستان الهارب عشية سيطرة طالبان على عاصمتها، تلك الثروات الباطنية بمثابة «لعنة» أو «نقمة» على بلاده. حيث أفضى سوء إدارتها، إلى استشراء الفساد، وشيوع العنف، وتعميق الخلل البيروقراطي، بما يحول دون تحقيق الاستغلال الأمثل لها. فما فتئت غالبيتها العظمى دفينة الرمال أو حبيسة الجبال، فيما لم يتم التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية، كالفحم والنفط والغاز، في قرابة 98% من أراضي البلاد المترامية.
ما إن تترسخ دعائم هيمنتها على مقاليد السلطة في ربوع أفغانستان، حتى تواجه حركة طالبان معضلة الاضطلاع بالمهام الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الثقال المنوطة بالسلطة الحاكمة. فبعيد دخولها العاصمة كابول منتصف شهر آب/أغسطس، تعهدت قياداتها بتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، والنهوض بالاقتصاد المهترئ. لكن من دون تأمين الدعم الدولي اللازم، أو استعادة حرية التصرف في الاحتياطيات القابعة بالخارج، ربما تغدو تلك الوعود محض مسكنات أو ضربا من الوهم، لاسيما بعد إعلان المانحين الدوليين تعليق مساندتهم لأفغانستان عقب سيطرة طالبان على كابول. فما كادت إدارة بايدن تعلن تجميدها عشرة مليارات دولار من الأصول الخارجية للبنك المركزي الأفغاني، ووقف مختلف الشحنات النقدية، ومناشدة المقرضين متعددي الأطراف مثل الصندوق والبنك الدوليين تعليق التعامل النقدي مع كابول، حتى أعلن الأخيران حرمان الحركة من الوصول إلى حسابات أفغانستان، أو تسلم مخصصات، حان موعدها، من صندوق النقد الدولي بقيمة 455 مليون دولار، أو الحصول على أي قروض أو مساعدات مالية، أو تخصيص جديد لاحتياطيات حقوق السحب الخاصة. وبعدما سبق وتعهد بمنحها 1.2 مليار يورو كمساعدات طارئة وتنموية بين عامي 2021 و 2025، ، قطع الاتحاد الأوروبي التمويل التنموي والمساعدات الحكومية عن أفغانستان، بجريرة تأخر الاعتراف الدولي الصريح بسلطة طالبان الجديدة.
وبينما تنخر الأزمات جسد الاقتصاد الأفغاني، بدأت عائدات طالبان، التي قدرها تقرير لجنة العقوبات بمجلس الأمن الدولي في أيار/مايو 2020، بزهاء 1,5 مليار دولار سنويا، في الانكماش. فبينما كانت تجنيها من أنشطة محرمة، كزراعة الخشخاش الذى يستخرج منه الأفيون والهيروين، وتحتكر أفغانستان أكثر من 80% من إنتاجهما عالميا، ويدر عليها أربعة مليارات دولار سنويا، مرورا بابتزاز الشركات المحلية، وطلب الفدى بعد عمليات الخطف، وإثقال كاهل المناطق التي تسيطر عليها بالضرائب، والاستغلال غير القانوني لمواردها، وصولا إلى التبرعات والدعم الخارجي، بدأت جميعها في التقلص بعدما تعهدت الحركة، فى رسائلها التطمينية والتصالحية فور استيلائها على كابول، بالإقلاع عن جميع الممارسات غير المشروعة، التي كانت تعتمد عليها في تحصيل الأموال.
ربما لا يستقيم سجال اقتصادي بغير استحضار الصين، التي تشكل أفغانستان أهمية جيواستراتيجية لها على أكثر من مستوى. فأمنيا، يعتبرها الصينيون فناءهم الخلفي، الذى يتعين تطهيره من الوجود العسكري الأمريكي، مع ضمان عدم تحوله إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، لا سيما متمردي الإيجور الصينيين. واقتصاديا، تتطلع بكين إلى اتخاذ أفغانستان قاعدة للهيمنة على قلب القارة الأسيوية، من خلال إدماجها في منظمة شنغهاي، ومبادرة الحزام والطريق، عبر باكستان، التي تعد حليفا لبكين وطالبان في آن، مما يخول بكين ربط طرق التجارة التي تمر عبر آسيا الوسطى بتلك التي تشق أراضي باكستان، ومحاصرة مشروع ميناء تشابهار، الذى دشنته الهند وأفغانستان بسواحل إيران، في أيار/ مايو 2016.
عقب تعيينها مبعوثا خاصا لأفغانستان، انبرت بكين، الطامعة في تحقيق الاستفادة القصوى من الانهيار الصادم للاستراتيجية الأمريكية هناك، في تعميق انخراطها بالشأن الأفغاني، لتغدو شريان الحياة الاقتصادي لطالبان، سواء بشكل عاجل عبر إمطارها بالمساعدات والقروض، أو في الأجل المنظور، من خلال الاستثمار في برامج إعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية الأفغانية ضمن سياق مبادرة الحزام والطريق، فضلا عن تسخير الخبرات الصينية الفريدة للاستثمار في ثرواتها الباطنية الواعدة. وفى حين تطمح الولايات المتحدة إلى تحرير سلاسل إمدادات مستلزمات الطاقة النظيفة من احتكار الصين، التي تعتبر أكبر منتج لمعدن الليثيوم عالميا، بينما تعاود شركاتها توسيع أنشطتها في قطاع التعدين بكبريات المناجم الأفغانية، يوجه التقارب المتسارع بين بكين، التي تعد أكبر مُصَنِّع للمركبات الكهربائية عالميا، وطالبان، التي باتت تستحوذ على 60% من الاحتياطي العالمي لليثيوم، ضربة موجعة للاستراتيجية الأمريكية، الرامية إلى تقويض تغلغل الصين آسيويا، وإجهاض تمددها وصعودها العالمي.
بقدر اضطرارها إلى ترميم علاقاتها الخربة بالعالم أجمع، واستعادة ثقة المانحين الدوليين أملا في تحقيق اختراق اقتصادي لافت، تحتاج طالبان إلى ترسيخ دعائم حكمها الجديد. فسياسيا، تترنح شرعية الحركة على وقع مسيرات احتجاجية اجتاحت بعض ضواحي العاصمة كابل ومدن ولايات شرق البلاد، بمناسبة إحياء الذكرى الثانية بعد المائة لاستقلالها، رفع المتظاهرون خلالها العلم الأفغاني ووضعوه بميادين عدة بدلا من علم الحركة، فيما بدا وكأنه تحدٍّ شعبي لسلطتها الجديدة، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى. وعسكريا، تواترت الأنباء حول احتشاد قوات المقاومة التابعة لأمر الله صالح، نائب الرئيس السابق، وأحمد مسعود، نجل الزعيم الطاجيكي أحمد شاه مسعود، في وادى بنجشير بشمال شرقي كابل، والذى لم تدركه سيطرة طالبان، مطلقين النفير ضد الحركة، ومستجدين المؤازرة اللوجستية من قوى غربية وأطراف إقليمية.
يبقى المشهد الأفغاني، والحال هكذا، مفتوحا على عديد سيناريوهات، في بلد يتآكل اقتصاده، ويمزقه الفسيفساء العرقي والقبلي، وتتهدده الحرب الأهلية، مع تداعى أمراء حرب، ومسئولون بالحكومة السابقة، وما يسمى بالمقاومة الشعبية، لإسقاط حكم طالبان. وبينما تساءل وزير الخارجية الروسي، سيرجى لافروف، بشأن مدى إحكام الحركة سيطرتها على عموم الأراضي الأفغانية، برأسها تطل مقولة، جنكيز خان «بمقدورك احتلال العالم وأنت على ظهر حصان، لكنك لا تستطيع أن تحكمه بالطريقة ذاتها».
* كاتب أكاديمي وباحث مصري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.