د. برهان غليون
(1)
لجأ بشار الأسد، منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية، إلى اختلاق قصص خيالية للتهرّب من المسؤولية، كان أهمها قصة المؤامرة الكونية التي يشارك فيها العالم بأكمله، غيرةً من النجاح والاستقرار والأمن الذي تنعم به سورية في ظل حكمه. ولم يلبث أن أردفها بقصة الإرهاب العالمي، أو الوهابي، الذي وقع ضحيته هذه المرّة، كما وقعت ضحيته من قبل الولايات المتحدة الأميركية في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ثم في العراق منذ 2007، التي يشترك معها في الحفاظ على الأمن والسلام العالميين حماية للقيم المدنية والإنسانية. وفي الحالتين، كما كان الأسد الذي لا يستطيع الفصل بين شخصه وسورية مقدار شعرة، لا يقبل أن يرى في نفسه غير ضحيةٍ بريئةٍ للنيات والمشاريع الشريرة الأجنبية، لم يكن يقبل أيضا، ولو لحظة واحدة، أن يرى في المشاركين في المسيرات الشعبية سوى قناع يلبسه المتآمرون والإرهابيون الكونيون الحاقدون على ما تنعم به البلاد من سلام وسعادة وازدهار. وهذا ما يجعل القضاء عليهم من دون رأفة ولا رحمة واجبا وطنيا وأخلاقيا، وليس سياسيا فحسب.
ومع الأسف، ينبغي الاعتراف بأن ترديد هذه الرواية العُصابية لم يقتصر على أصحاب النظام وجوقته الكبيرة من الدبلوماسيين والمثقفين والإعلاميين الذين أبدعوا بالفعل في تزوير الوقائع وتلفيق التصريحات والافتراءات لإقناع أنفسهم وجمهورهم بالطابع الوطني لحرب الإبادة الجماعية، ولكنها أثرت بوضوح في قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والدولي الذين صاروا يشكّكون في المضمون السياسي التحرّري لهذه الثورة التي لم تكن تختلف مع ذلك، في شعاراتها وأساليب التعبير عن مطالبها وغاياتها، عن الانتفاضات أو ثورات الربيع العربي الأخرى. ساعدهم على ذلك افتقار هذه الثورة ذاتها إلى أي وسيلةٍ إعلاميةٍ وخبرات دبلوماسية تستحق هذا الاسم، تدافع عنها، وتمكّنها من التواصل مع جمهورها والتعبير عن مواقفها وبرامجها ونشاطاتها والدفاع ضد متهميها، كما ساعد عليه أيضا تناحر قياداتها وتضارب تصريحاتهم، وتعدّد خطاباتهم وأجنداتهم. وجاء سقوط بعض فئات المعارضة السورية في فخ أوهام الأسلمة الإيديولوجية ليقضي على ما تبقى من صفاء صورتها الحقيقية، وليصبّ الزيت على نار الحرب الإعلامية والسياسية التي يوقدها أعداؤها لنزع الشرعية عنها وحرقها. بل لم يتأخر الوقت، حتى يتسرّب كثير من مصطلحات خطاب هذه الحرب الجائرة إلى داخل صفوف جمهور الثورة والمعارضة والرأي العام السوري الذي يكاد يردّد اليوم، حرفيا، ومن دون وعي، في سياق التمثيل بالذات الذي يولّده تفاقم الفشل والإحباط واليأس من الخلاص، الكثير من افتراءاتها وطروحاتها.
ولحسن الحظ، نقلت وسائل الإعلام، في شهر يوليو/ تموز الجاري، شهادات مهمة تلقي مزيدا من الأضواء على أحداث تلك الحقبة الحاسمة الأولى من تاريخ الكارثة السورية. ومن المفيد، في نظري، تعميمها، لعلها تساهم في تبديد الشكوك التي بدأت تدخل إلى أذهان كثيرين من أنصارها، وليس خصومها فحسب، في أصالة الثورة السورية وحقيقتها التحرّرية، وتساعد على الاحتفاظ بالذاكرة الحقيقية الحية للتضحيات العظيمة التي قدّمها نشطاؤها والسوريون عموما. على استعادة الوعي والذاكرة .
أول هذه الشهادات كانت لوزير خارجية تركيا في 2011، داود أوغلو، (في حديث له على قناة “خبر ترك” 15 يوليو/ تموز 2020، ونقله موقع جسر18 تموز). والثانية شهادة أماني مخلوف التي تنتمي إلى إحدى الأسرتين الحاكمتين عمليا في سورية بشكل مشترك منذ خمسين عاماً، وقد روت، عبر صفحتها، تعقيبا على شهادة داود أوغلو وتأكيداً لما جاء فيها، تفاصيل عملية تفجير خلية الأزمة (18 يوليو/ تموز 2012) التي أدت إلى مقتل وزير الدفاع داود راجحة ونائبه آصف شوكت ووزير الدفاع الأسبق، معاون نائب رئيس الجمهورية للشؤون السياسية، حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام اختيار، وإصابة وزير الداخلية محمد الشعار، والأمين القطري لحزب البعث محمد سعيد بختيان بجروح . وتكمن أهمية الشهادتين في إثباتهما، بعكس ما درجت دعاية النظام على تأكيده، في حقيقة أن المتهمين بقيادة المؤامرة الكونية من خليجيين وأتراك، بعكس ما درجت على ذكره دعاية النظام، لم يتدخلوا في الأزمة السورية لصالح قوى المعارضة، أو من باب العداء له، أو بهدف تغييره، ولكن لصالحه . وبدافع الحرص على بقاء النظام واستقراره، لقاء إصلاحات اعتقدت هذه الدول، التي كانت من أبرز حلفائه السياسيين وشركائه الاقتصاديين، أنه لا يمكن وقف الاحتجاجات الشعبية وإنقاذ النظام من مصير مجهول من دون تحقيقها.
كان داود أوغلو يعتقد، كما ذكر في لقائه الإعلامي، وكان على حق، “أن الربيع العربي موجة كبيرة، من الممكن أن تصل آثارها إلى تركيا”. لذلك كان حريصا على ألا تخرج الأزمة السورية عن السيطرة. ومن أجل ذلك، لم يوفر جهدا للقاء الأسد مرات عديدة، ويحمل إليه رسائل تطمين من رئيس جمهورية تركيا ورئيس وزرائها أيضا، تؤكد له جميعها “نحن إلى جانبك”. وقد ذهب، في هذا التطمين، إلى حد أنه عرض على الأسد مشروع اندماج إقليمي يحقق السلام لسورية وتركيا ولبنان والأردن، أي يرسخ حكم الأسد ونظامه داخل هذا التجمع السياسي.
وعلى الرغم من تراجع الأسد عن هذا المشروع، حافظت أنقرة، حسب أوغلو، على علاقات جيدة مع النظام ثمانية أشهر أو تسعة بعد انطلاق الثورة، كما أنّها دعمته في البدايات. ولم تنقطع الاتصالات التركية السورية إلا في وقت متأخر، عندما وجدنا، يقول داود أوغلو، الأسد، “خصوصا في تلك الأيام المباركة من شهر رمضان، يستمر في قتل شعبه، في حمص وحماة بالمدافع، وكان يضرب اللاذقية من البحر، وفي دير الزور كان يُلقي البراميل على رؤوس شعبه، فما الذي كان يترتب علينا فعله حيال هذا؟ نحن حاولنا أن نحول دون وقوع هذه الكوارث، ولكن المسؤول الأول عن كل ما حدث هو الأسد”. أما “الادّعاءات التي روجّها الأسد، واتهمت تركيا بأنها كانت ترغب في جعل الأخوان المسلمين شركاء له في السلطة، فهي لا تمتّ إلى الواقع بصلة . “ومما يزيد من صدقية رواية رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، أنه لم يتردّد، نهاية العام الماضي 2019، أي قبل تسعة أشهر من شهادته هذه، في الحديث عن ضرورة “الالتقاء بالجميع”، أي بمن فيهم الأسد، في سبيل تحقيق السلام الدائم في سورية.
وقد جاءت شهادة أماني مخلوف قبل أسبوع لتكمل رواية رئيس الوزراء التركي السابق، أضافت إليها معلومات جديدة تفيد بأن تركيا لم تكن وحيدة في المساعي لترشيد رد فعل الأسد وإقناعه بمخاطر زج الجيش في حربٍ ضد المحتجين السلميين. فقد كانت تعمل بالتعاون مع “مجموعة العمل العربي” في جامعة الدول العربية، بهدف بلورة مبادرة مشتركة لإيجاد حل للأزمة، ولم يكن يخطر لأحدٍ من هؤلاء أن يطرح أو يتحدث أبدا عن تغيير نظام الحكم في سورية. “كل ما كانت تسعى إليه المملكة السعودية وتركيا إقناع الحكومة السورية بحزمة إصلاحاتٍ تعيد الأمور إلى مجراها”. وبحسب وصف أحد العاملين في الخارجية السعودية الذي تحفظت مخلوف على ذكر اسمه، أنه ذكر لها بالحرف أن الأسرة المالكة لم تكن “مسرورة بالحدث السوري بل عملت ودعت إلى تطويقه، خوفا من امتداده إلى الخليج والسعودية”.
(2)
وفيما يتعلق بالعمل الإرهابي الذي أودى بحياة أهم الشخصيات القيادية التي تشكلت منها خلية الأزمة التي شكلت لمعالجة قضية الثورة الشعبية، والتي يبدو أنها كانت المحاور الرئيسي للأطراف العربية والدولية في ذلك أيضا، فإن أماني مخلوف تضعه في إطار الصراع الذي دار بين إيران من طرف وجامعة الدول العربية وتركيا من طرف آخر على السيطرة على المقدّرات السورية. تروي مخلوف: كان “التخبط يسود القصر الجمهوري. وفي يوم واحد، استقبل السيد أبو سليم دعبول مدير مكتب الرئيس السوري مدير المخابرات المصرية السابق السيد عمر سليمان كوسيط وطرف عن الجامعة العربية والجنرال الإيراني حسين همداني الذي التقى بالسيد ماهر الأسد والسيد أبو سليم دعبول. وطلب الجنرال همداني دخول وحدات خاصة إيرانية وتعهد بقمع المظاهرات خلال أسبوعين. بالمقابل، أعطى السيد عمر سليمان ورقة عمل للجانب السوري تتضمن إصلاحات سياسية واقتصادية. وتعهدت دولتان خليجيتان بتقديم 10 مليارات دولار لإجراء إصلاحات اقتصادية في سورية واستثمارات بملايين الدولارات”.
وكانت خلية الأزمة قد اجتمعت مع عمر سليمان ومبعوث أمير قطر عدة مرات، و”التقت بوفود عربية وتركية، وكانت النتائج النهائية للاجتماعات فك الارتباط السوري بإيران وحزب الله عسكريا، وإجراء مصالحة وطنية شاملة، حتى لجماعة الإخوان المسلمين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السوريين (معتقلي الرأي) من السجون السورية، وتقدّم دولة قطر (مقابل ذلك) تعويضات مادية لجميع ضحايا الحرب. وبعد توقيع الاتفاق، كان مقرّرا خروج الجامعة العربية بموقف موحد داعم للرئيس بشار الاسد، تعقبه زيارة للملك السعودي الى سورية، وتقديم مساعدات مادية للدولة السورية. هذا الأمر أغضب إيران ووكيلها في الخلية جميل الحسن الذي اتهم حسن تركماني بالعمالة لتركيا أمام الجميع”.
ومن الواضح، كما تذكر مخلوف، أنه “.. مع وصول الجنرال همداني وقاسم سليماني إلى سورية، انشقت الدولة السورية إلى قسمين، قسم يريد العمل مع جامعة الدول العربية وقسم موال لإيران . والغلبة كانت للفريق الداعم للجهود العربية بدعم مباشر من الخلية المشكّلة (خلية الأزمة).. “. ومما فجر الصراع، وأدّى إلى اغتيال أعضاء خلية الأزمة، طلب آصف شوكت، باسم فريقه المؤيد للحل العربي، من الأسد، صرف همداني وسليماني من سورية قبل التوقيع النهائي على الاتفاق . بينما “.. كان قاسم سليماني وهمداني وماهر الأسد وجميل الحسن قد اتفقوا على إنهاء خطر آصف شوكت والخلية المشكلة، حيث قام أحد سائقي الشهيد آصف شوكت بإدخال حقيبة المتفجّرات إلى قاعة الاجتماع.. ” . ومن يعرف المكان، تضيف مخلوف “.. يعلم أنه من المستحيل الوصول إلى المبنى والصعود إلى قاعة الاجتماعات ووضع متفجرات . بكل أمانة أقول لكم، العمل كان مدبراً بأوامر إيرانية وتوجيهات من ماهر الأسد للأسف وجميل الحسن الذي تغيب عن الاجتماع.. ” .
هكذا ربحت طهران الصراع على سورية داخل النظام، وضد سورية وجامعة الدول العربية وتركيا، وقبل ذلك وأهم منه ضد الشعب السوري، بعد أن قدّمت “إغراءات لعملائها” فيه. وعلى أثر ذلك، “تم نقل ملف سورية من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن بدعم عربي تركي فرنسي أميركي”. وتختم مخلوف مقالها، بالتساؤل: “هل عرفتم من كان السبب في قتل 300 ألف شاب من أبناء الطائفة العلوية، وزجهم في محرقة مع أهلهم من باقي الطوائف؟ هي إيران ورعونة جميل الحسن والسيد ماهر الأسد للأسف. أقولها، بكل حرقة قلب، السيد ماهر الأسد وجميل الحسن وقاسم سليماني وهمداني وحسن نصر الله هم الذين قتلوا الخلية”.
تأتي هذه الشهادات لتؤكد ما ردّده سوريون كثيرون منذ سنوات، أن المؤامرة الحقيقية الوحيدة التي عرفتها سورية هي التي حاكها النظام، بتوجيه من دولة ولاية الفقيه وعملائها السوريين المباشرين، لإسقاط الدولة السورية وبث الخراب والفوضى فيها، كما حصل من قبل في العراق، لتسهيل السيطرة عليها وإلحاقها بإمبراطورية وهمية من صنع خيالها. وأن الثورة السورية مثلت الخطر الأكبر عليها، بمقدار ما هدّدت باستبدال سلطة الشعب وسيادته بنظام الإرهاب والحرب الطائفية المعممة التي تراهن عليها، والتي لا يزال المشرق برمته يعاني من ويلاتها، ويخوض في دمائه بسببها ويتخبّط في مستنقعها.
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.