الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“الشيخ والخيمة” و“السوق”، أميركا ومصر.. حوارات كيسنجر وهيكل

طارق زيدان *

لو أن أنور السادات كان حياً يُرزق لربما تراجع عن مقولته الشهيرة، غداة حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بأن الولايات المتحدة “تمتلك ٩٩٪ من أوراق الحل في الشرق الأوسط”. ربما لم يكن رئيس مصر مبالغاً في وصفه، حينذاك. فقد تسنى لواشنطن، قبل حوالي النصف قرن، دخول الشرق الأوسط من مصر.. “بوابة العرب الكبيرة”، كما وصفها هنري كيسنجر.

من مكتبه في وزارة الخارجية وحتى صعوده الطائرة في مطار واشنطن، أظهر هنري كيسنجر سعادة غامرة استعداداً لزيارة الشرق الأوسط، غداة حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973م. الزيارة لامست السياسي والنفسي في شخصية كيسنجر. سياسياً، سيكون هو وزير خارجية أميركا الذي أنجز الخروج من حرب فيتنام، وفتح باب التطبيع مع الصين، وخفض مستوى التوتر مع الاتحاد السوفياتي الى حده الادنى. اليوم هو يقبض على خارطة الشرق الأوسط. صاحب مقولة “السلطة أقصى درجات الشهوة” يجد نفسه مؤهلاً لدخول نادي كبار رجال السياسة الخارجية الأمريكية. النادي الذي يضم أمثال توماس جيفرسون وجون أدمز وجورج مارشال.

تلك السعادة مضاعفة أيضاً في بعدها النفسي. ذلك الصبي اليهودي الذي عاش في ألمانيا النازية وهاجر إلى أميركا الرأسمالية، على حد وصفه مرة أخرى، لم يستطع كبح جماح أحلام اليقظة. وللحظة من مشوار حياته أحسّ بأنه أمام فرصة طبع اسمه في سجل صناعة التاريخ العبري. كيف لا ودولة إسرائيل هي الرديف لأساطير الهولوكوست في وجدان ذلك الصبي. والأزمة (الصراع العربي الإسرائيلي) التي لطالما أراد الذهاب اليها أصبحت هي تستدعيه اليها. لم يبقَ أمامه إلا ركوب الطائرة والسفر إلى جغرافيا المصير. يهودي إسمه هنري كيسنجر يعود إلى أرض الميعاد منقذاً لأمته!

كل هذه “اليوفوريا” الفائضة (السعادة المفرطة) لم تمنع الأكاديمي الذي بداخل كيسنجر من إعداد نفسه. أدرك الوزير ومن على مكتبه، أنه في مرحلة المذاكرة وليس الامتحان. عندها طلب من مساعديه تحضير مجموعة تقارير كي يقرأها ويتعرف من خلالها على المنطقة وأهلها. غير أن تقريرين فقط لفتا انتباهه وأثارا اهتمامه، فدخلا حقيبة وزير خارجية أميركا، ولم يخرجا منها إلى يومنا هذا!

التقرير الأول كان بعنوان “الشيخ والخيمة”. يتحدث عن عملية صناعة القرار في المنطقة. “الخيمة” طبعاً هي الدول التي سيزورها كيسنجر. أما “الشيخ” فهو الرجل الذي بيده الحل والربط والكلمة الفصل: الزعيم. سواء أكان هذا الشيخ يلبس “العقال” أو “العمامة” أو حتى ”قبعة عسكرية”، فجميع السلطات تحت يد من ارتضوا به شيخاً عليهم. يستطرد التقرير “ستسمع يا كيسنجر كلاماً كثيراً من أشخاص عدة في الخيمة، يزعمون فيه قربهم من الشيخ. لا بل البعض من هؤلاء الأشخاص قد تأخذهم المبالغة بنسج قصص يمتزج فيها الواقع بالتمنيات. كيف أنه الاقرب للشيخ بالدم، وغيره يدعي أنه الأقرب بالمزاج. وأخيراً الادعاء الأكثر تداولاً، بأنه أي الشخص، متابع لأفلام هوليود وبالتالي هو الأفقه بالثقافة الأميركية. لا بأس بالاستماع إليهم وإن اضطررت فلا ضير من مسايرتهم بابتسامة ناعمة. تبقى العبرة أن القرار بيد الشيخ وحده. تكفي إشارة منه فيكون القرار قد صُنع لا بل التزم الجميع به. إذاً ضع كل تركيزك يا هنري على “شيخ الخيمة”.

أما التقرير الثاني فكان بعنوان “السوق”، ووظيفته شرح عملية التفاوض كأسلوب. يدعو التقرير كيسنجر إلى تخيل نفسه في سوق البازار، أو كما نسميها اليوم “سوق الحراج”. البضاعة هي نفسها في كل محل، وإن اختلفت طريقة عرضها أو تقديمها. قد تكون البضاعة معروضة بمبادئ قومية أو ايديولوجية أو دينية، فلا داعي لكي تشتت انتباهك على الشكل، لأنه لا يعكس القيمة الفعلية للبضاعة. في بداية المفاوضات، سيرفض الجميع تخفيض سعرهم، متذرعين بأسباب كثيرة. ستكون الحجج غير مترابطة وقد تصل الى درجة القول إنها مسألة حياة أو موت. المهم ـ يا معالي الوزير ـ ان تستمر بالمفاصلة والمساومة حتى وان علت وتيرة الغضب والانكار من الجالسين قبالتك. في النهاية لا تستغرب ان حصلت على ما تريده بنصف السعر المعروض سابقاً.

انطلق موكب السياسي والصبي والأكاديمي الأميركي نحو المطار. ركب كيسنجر طائرته حاملاً معه أحلامه وأفكاره وتقاريره، مُحلقاً فوق الأطلسي مُستنداً إلى بضعة أسطر تحاول رسم جزء من سياسة الولايات المتحدة الخارجية. اطمأن على اعتبار أن الزيارة تُشكل بحد ذاتها نجاحاً شخصياً وسياسياً.

إنه الشرق الأوسط يا هنري. أزماته لا يمكن حلّها الا بسياسة “الخطوة خطوة”. سياسة تفتيت المشكلة الكبرى المستعصية وتحويلها الى مشاكل صغيرة. لاحقاً، يتم التفاوض على كل مرحلة مع كل خيمة ومع كل شيخ على حدا. عندها تكون ادارة البيع والشراء في كل سوق تحت يديه، ومن دون تدخلات إقليمية أو دولية. قيل يومها إن كيسنجر أخذ أكثر مما كان يتوقع. فهو لم يُخرج الاتحاد السوفياتي من المنطقة فقط، ولكنه قلب موقع مصر في الخارطة الإقليمية.

كيف حصل ذلك الانقلاب في موقع مصر؟

يقول هيكل في أول حوار له بعد خروجه من المعتقل عام ١٩٨١م مع مجلة “المصور” المصرية إن كيسنجر جاء إليه في العام 1973 مستطلعاً، وفي الوقت ذاته مُنتشياً بفكرة التفوق الأميركي. وقتذاك، دار حوار بين الرجلين غطى كامل رقعة الشرق الأوسط وتحوّل إلى كباش بين منطقين. أول، يتحدث عن دور مصر من خلال ما تمثله في العالم العربي؛ وثانٍ يتناول الأوراق التي تمتلكها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. اتفق الرجلان على مركزية الدور المصري في المنظومة الأمنية الإقليمية بما تشكله من جسر بري يربط مصر (أفريقيا) بأسيا. في هذه المعادلة، يكمن دور مصر الحيوي من زمن أعظم ملوك الفراعنة تحتمس الثالث وحتى زمن أعظم رؤساء العرب في القرن العشرين جمال عبد الناصر على حد وصف هيكل.

في ختام تلك الجلسة، لخّص هيكل الحوار بينه وبين كيسنجر موجهاً كلامه الى ضيفه: “إذا أردت معرفة مصر وحدها فمصر تحتاج إلى أميركا.. إذا أردت معرفة مصر العربية، فأميركا تحتاج إلى مصر”. أراد هيكل أن يؤكد أن الدور يحدّد الوزن والسعر، فمصر يمكنها أن تكون مصر أولاً وأخيراً، أي جزيرة معزولة، وفي المقابل، يمكنها أن تكون صاحبة دور في مدياتها العربية والإفريقية والإسلامية، فضلاً عن منظومة دول عدم الانحياز في ذلك الوقت، هذا الدور أو ذاك، حسب عقل كيسنجر، يعطي صاحبه فرصة امتلاك أوراق في الساحات التي يطمح أن يكون لاعباً فيها أو يحرمه منها تبعاً للدور.

خمسة عقود عجاف منذ أن حطت طائرة كيسنجر في منطقتنا. الزيارة اعتبرت، برأي كثيرين، محطة أساسية في مسار الأحداث الشرق أوسطية اللاحقة. فخلال تلك الفترة شهدت المنطقة أكثر من عشرين حرباً، اثنتان منها على الأقل دولية وأربع حروب أهلية. مسار دموي وتدميري يرى البعض أنه الدليل على صحة ما جاء في “التقريرين” أو ربما العكس. نعم العكس!

أميركا 2021.. العودة إلى حاملة الطائرات:

برغم أن وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر قال عن أنور السادات لحظة توليه السلطة محل جمال عبد الناصر “إنه أحمق ومهرج وبهلول”، إلا أن الوقائع التي اكتشفها الثعلب الأميركي بيّنت له أن الرئيس المصري الراحل كان رجلاً مناوراً وداهية سياسية بامتياز.

أتى هنري كيسنجر إلى المنطقة غداة حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م مع بدء مفاوضات “فك الاشتباك” التي افضت الى ما بات يعرف باتفاقية كامب دايفيد للسلام بين مصر وإسرائيل. هذه البوابة المصرية كانت بمثابة النافذة الإلزامية التي يُطل من خلالها الغرب على البيت العربي، كما كان يردّد الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره الشهير مع هنري كيسنجر القادم من خلف المحيط الأطلسي حاملا بيده “٩٩٪ من أوراق الحل والربط” (كما كان يقول أنور السادات) في الشرق الأوسط المنكوب بالحروب والمآسي المتكررة.

منذ أربعة عقود من الزمن، تكرست قناعة لدى المؤسسات الأميركية صارت سقفاً للصراعات المتعددة في منطقة الشرق الأوسط، مفادها وجوب أن يكون قرار الحرب والسلم في الشرق الأوسط حصراً بيد واشنطن وأن يجري التركيز على كيفية إخراج مصر من العالم العربي، حتى لو تم تقديم تنازلات إليها، لأن مصر ستكون مختلفة بعزلها عن عمقها العربي، وفي الوقت نفسه، سيكون العالم العربي أضعف بكثير من دون دور مصر القيادي التاريخي.

بهذا المعنى، شكّلت اتفاقية كامب ديفيد خطاً فاصلاً في التاريخ السياسي لمصر والمنطقة. ما قبلها ليس كما بعدها. نجح الأميركيون في خلط الأدوار والأوراق. صارت مصر أكثر مصرية وخفّ وجع رأس واشنطن طيلة عقود مضت. ارتاحت القوة الأميركية في عرض البحر على متن حاملات الطائرات. تتدخل واشنطن متى تريد من دون أن تبلّل يديها. أفرزت هذه المعادلة تحولات كثيرة، ليس أقلها إعادة توزيع الأدوار في المنطقة من خلال منظومة إقليمية جديدة. غير أن شخصية المنطقة لم تتلاءم مع هذه المنظومة الجديدة. شخصية تبرع في مناكفة المصالح الدولية. توالت الأحداث بين حروب أهلية وإقليمية كأنها إرهاصات لما يحيكه المستقبل للمنطقة العربية.

رسمت الولايات المتحدة خريطة أمنية ـ سياسية ظناً منها أن حيازتها على ٩٩٪ من أوراق المنطقة يعفيها من حقائق التاريخ وقواعد الجغرافيا ووقائع الميدان. خطيئة تمادت في ممارستها قوات العم سام لكن سرعان ما وجدت نفسها مُلزمة بالنزول من حاملة الطائرات إلى المستنقع البري في العراق. احتلال الولايات المتحدة للعراق في العام ٢٠٠٣م شكّل خطاً فاصلاً جديداً. لحظة تؤرخ لبداية خسارة واشنطن الأوراق التي جمعتها طيلة ثلاثة عقود (1973 ـ 2003). أميركا نفسها لم تعد تُقيم في أميركا. أصبح “الشيطان الأكبر” دولة جوار لإيران وسوريا. حتّمت الجغرافية على الولايات المتحدة أدواراً لا تتناسب والأوراق التي كانت جمعتها. للمناسبة، كانت لعبة جمع الأوراق حرفة يتقنها جيدا الصديقان اللدودان حافظ الأسد وهنري كيسنجر. بلغ الأمر بالرئيس السوري الراحل أن تفيض الأوراق بين يديه إلى الحد الذي كان يجعله “يُقرض” اللاعبين على الطاولة ذاتها بعض تلك الأوراق!

مع الغزو الأميركي للعراق، استطاع اللاعب الإيراني تعزيز أوراقه وبالتالي دوره في مسرح غرب أسيا. مارست “دولة الملالي” استراتيجية جمع الأوراق. هذا التدخل الإيراني ما هو ليس مبرراً من وجهة نظر العرب بقدر ما هو ليس جديداً، لكن مع خلع البوابة العراقية أدركت طهران أن هذه الفرصة التاريخية لن تتكرر. ذهبت تلملم النفوذ، ساحة تلو أخرى، ووقف العم سام متفرجاً، أما الدول العربية فقد قررت أن ترصد على مضض لعبة عد الأوراق التي تحصدها إيران مباشرة أو عبر حلفائها. تراءى للبعض صراع مذاهب، فبادر إلى التحشيد، ما ساهم في فقدان القدرة على فهم التحولات الجذرية ومنافسة الدور المستجد.

إن “إيران النووية” هي باللغة مجرد كلمتين. هذه الإيران لا تصبح واقعاً إلا من خلال مسارين لا ثالث لهما: باتفاق مع الولايات المتحدة بكل ما يحمله من مضامين ومندرجات معلنة أو غير معلنة، أو من دون اتفاق بكل ما يستجلبه من عقوبات اقتصادية قاسية. قرر الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما سلوك المسار الأول الذي أنتج اتفاق فيينا النووي عام ٢٠١٥م.

تعددت الأسباب لسلوك واشنطن مسار التفاوض، لكن أبرزها هو قرار الولايات المتحدة الاستراتيجي بالانسحاب من المنطقة للتفرغ لـ”الهم الأكبر” (الصين)، ثم منع إيران من أن تصبح قوة نووية. ربما لم يكن الدور الإقليمي لإيران، في لحظة ما، مُزعجاً للأميركيين، بل بدا أن ثمة من يراهن على دور كبير للإسلام السياسي بوجهيه السني والشيعي في المنطقة. كانت إدارة أوباما تُقدّر أن إيران النووية ستُطلق سباق تسلح نووي في منطقة الشرق الأوسط، وتضع المنطقة على عتبة الحرب في لحظة انسحاب قوات العم سام منها.

هذا المسار سرعان ما انقلب بعدما اختار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب سياسة “الضغوط القصوى” التي قرّبت طهران أكثر من حلمها النووي.. وجعلتها أكثر تشدداً في مقاربة قضايا المنطقة، سواء مباشرة أو من خلال أذرعتها. زدْ على ذلك انغماس الولايات المتحدة في مشاكل المنطقة من خلال الاستهداف المباشر لأيقونة النفوذ الإيراني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني.

جاءت إدارة جو بايدن وقررت أنها ستستأنف قرار الخروج العسكري من الشرق الأوسط كما من أفغانستان، معلنة أنها تريد إقامة حواجز صد على مستوى القارات وليس الدول في مواجهة المارد الصيني. هي عودة إلى ما قبل العام 2003. إلى حاملة الطائرات وإبقاء اليد على الزناد. حيث يحتاج الحليف غارة أو إنزالاً ولكن من دون السماح باستهداف  المصالح الاستراتيجية.

في هذه اللحظة الدولية والإقليمية المفصلية، كل فريق يضم أوراقه الى صدره وعينه على اللاعب الجالس قبالته. يراقب كل حركة وكل كلمة خشية الغش أو المؤامرة.

في الجولة الأولى من المفاوضات النووية، تحاورت طهران وواشنطن في السر، أو عبر “القناة الخلفية”، كما هو عنوان كتاب وليام بيرنز رئيس المخابرات المركزية الأميركية الحالي ومهندس المفاوضات النووية.

إنجازات السياسة الخارجية الأميركية تبدو من نوع ”اطلب وتمنى”. الفشل العراقي فاضح. الاحتلال الاسرائيلي متمادي. التدخلان التركي والايراني لا يجدان من يعترضهما. حتى كيسنجر نفسه، وفي ما يخص انجازاته، لا يسجل له حتى انهاء حرب فيتنام. ليُسأل شريكه في جائزة نوبل للسلام عام 1973م، الرئيس الفيتنامي “لي داك توو”، الذي رفض الجائزة لان القتال ما زال مستمراً!

أي متابع لمسار لعبة الأمم في الشرق الأوسط لا بد وأن يستنتج أن الأوراق قد وزعت على اللاعبين الأساسيين. لكن هل اقتربت اللعبة من نهايتها، وبالتالي هل ما زالت أميركا تملك ٩٩٪ من أوراق الحل في المنطقة، كما كان يقول السادات قبل خمسين عاماً؟

لا مبالغة في القول إن أميركا لا تملك حتى ٥٠٪ من أوراق الحل.. فكيف توزعت باقي الأوراق؟

عندما سئل الكوميدي الأميركي “باري كريمنز” عن عدم مغادرته الولايات المتحدة وهو الذي يسخر منها دائماً أجاب: ”أخشى أن أكون أحد ضحايا سياستها الخارجية”!

* كاتب سعودي

المصدر: بوست 180

التعليقات مغلقة.