الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أفغانستان: صور ذهنية متناقضة حولها وعنها

محمد عبد الحكم دياب *

منذ يوم الأحد في (15/08/2021) والعالم يمشي على رأسه، لهول المفاجأة التي أعادت طالبان إلى كابول عاصمة أفغانستان بعد غياب عشرين عاماً، وعلى المرء جمع الشتات المتناثر، فقد يتمكن من رسم صورة أقرب للواقع، وإذا تعلق الأمر بأفغانستان، فإن المعالجة تسترجع صورة ذهنية تكونت لذلك البلد عند العرب ومنهم المصريون، لأحد أعلام عصره؛ محمد جمال الدين بن السيد صفتر الحسيني الأفغاني الأسد آبادي؛ ومعروف بجمال الدين الأفغاني، (1838 ـ 1897م)؛ وأهم رموز التجديد الوطني والقومي والإنساني والديني في القرن التاسع عشر الميلادي.

وُلِد الأفغاني في «أسد آباد» غربي كابول. وحمل لقب َسيِّد لانتماء أسرته للأشراف، وتفوق في دراسته من طفولته، وأجاد عدداً من اللغات منها العربية، وتقلد مناصب عدة؛ أهمها رئيس وزراء أفغانستان؛ زمن الملك محمد أعظم خان، الذي تولى المُلك عام 1862، وفي عصره وقعت حرب أهلية انتهت بانتصار شير علي خان شقيق أعظم خان؛ وكان مدعوماً من البريطانيين، ودخل كابول عام 1868. وانتقل الأفغاني إلى الهند، وفرض البريطانيون عليه قيوداً؛ منعته من لقاء العلماء والتلاميذ المسلمين، وبعدها رحل لمصر بحراً، ومنها إلى اسطنبول. وأحسن السلطان عبد العزيز محمود وفادته.

وانقلب عليه السلطان لوشاية شككت في عقيدته، زعمت قوله: «النبوة تُنال بالاكتساب» فعاد لمصر في 1871، ولقي ترحيباً من الحكومة الخديوية، التي وفرت له منزلاً، وقررت له راتباً شهرياً!، وكان وقتها يُحسن الظن بالماسونية، وكانت ترفع شعارات الثورة الفرنسية «الحرية.. الإخاء، المساواة» ولما اكتشف علاقة المحفل الغربي الذي يتبعه بالاستعمار قاد تمرداً ضد ذلك المحفل، وأحدث انقساماً فيه، وأسس محفلاً شرقياً بديلاً؛ ارتبط بالمحفل الفرنسي، المعارض للوجود البريطاني في مصر.

وشكل الأفغاني أول حزب سياسي (سري)؛ في الشرق؛ هو «الحزب الوطني الحر» وجعل شعاره «مصر للمصريين» ويدعو للديمقراطية والتحرر من حكم الفرد، وقاد ثورة ضد النفوذ الأجنبي، وارتبط بشخصيات وطنية بارزة؛ مثل الزعيم أحمد عرابي، ورب السيف والقلم محمود سامي البارودي، والثائر عبد الله النديم، وتحملوا معه مسؤولية قيادة «الحزب الوطني الحر» ومع تولي الخديوي توفيق حكم مصر انتابه قلق من تأثير الأفغاني على استقراره، فنفاه عام 1879 إلى الهند.

وحين اندلعت الثورة العرابية فيما بين سنة 1879 سنة 1882 تقرر نقل الأفغاني من بومباي إلى كلكتا، وحددت السلطات البريطانية إقامته إلى أن تم الغزو البريطاني لمصر، ولما سُمِح له بالسفر توجه إلى فرنسا. ونسج فيها علاقات قوية بين «جمعية العروة الوثقى» التي يرأسها ومنظمات ثورية فرنسية. وكانت للجمعية فروع في أكثر من بلد شرقي؛ هدفها التصدي للاستعمار، والدعوة للتضامن الإسلامي و«الجامعة الإسلامية» وأصدر مجلة «العروة الوثقى» وأشرف عليها محررها الأول الشيخ محمد عبده،، وتولى الأفغاني إدارة شؤونها التنظيمية والثقافية والفكرية..

وتلقى الأفغاني دعوة من السلطان عبد الحميد لزيارة اسطنبول عام 1892، فلباها معتقدا أنه يستطيع بمعونة السلطان وضع خطة تنفيذ مشروع «الجامعة الإسلامية» وسرعان ما انقلب عليه السلطان بسبب ربط اسمه باغتيال حاكم بلاد فارس؛ الشاه القاجاري ناصر الدين؛ فمن اغتاله كان أحد تلاميذ الأفغاني، وقضى عامه الأخير حبيس البلاط السلطاني. وتردد أن طبيب الأسنان الذي يعالجه دس له السم فتوفي سنة 1897 ودفن في اسطنبول!!، وما زالت هذه الصورة الذهنية للأفغاني في الوجدان العربي راسخة؛ كعلم من أعلام النهضة العربية والإسلامية المعاصرة. ومفكر ومثقف وثائر ومقاوم رفيع، وداعٍ لـ«الجامعة الإسلامية» ورفع لواءها بعده الحزب الوطني ومؤسسه الزعيم مصطفى كامل..

وإذا كان جمال الدين الأفغاني وجه من وجوه التأثير الأفغاني في التجديد والنهضة والفكر العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر، شهد الثلث الأخير من القرن العشرين صورة مغايرة؛ لإزهاق الأرواح، وإراقة الدماء، ومصادرة الحريات العامة والخاصة والشخصية، وطمس المعالم التاريخية والأثرية، والتخلص من بقايا التطور والتجديد، فأفغانستان كانت مملكة محايدة؛ تعرضت لانقلاب محمد داوود خان ضد ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه، فنفاه خارج البلاد، وغير نظام الحكم الملكي إلى النظام الجمهوري، وكان ذلك عام 1973.

ولم تمر سوى سنوات قليلة حتى قام ضباط شيوعيون ويساريون بالانقلاب على داوود خان عام 1978 بتهمة العلاقة مع الولايات المتحدة وتحويل أفغانستان لدولة تابعة لواشنطن، وتم تعيين نور الدين تراقي زعيم حزب «خلق» رئيسا للجمهورية، وشهدت البلاد تحت حكم حزب خلق إصلاحات اقتصادية واجتماعية؛ مثل الاصلاح الزراعي، ومنع زواج القاصرات، وتحرير المرأة، وتطوير السلطات المحلية في القرى والأقاليم.

واندلعت الاحتجاجات والاضطرابات ضد القوانين التي وُصِفت بـ«مخالفة التقاليد» وتقليص سلطان رؤساء العشائر و شيوخ القبائل. ورفض السوفييت طلب الرئيس نورالدين تراقي بالتدخل، وأشاروا عليه بتخفيف الاجراءات المتخذة، ومدوه بأسلحة وطائرات هيلوكوبتر، لكن الصراع احتدم بين جناحي الحزب «خلق وبارشام» واتسع التمرد، واتخذ من الإسلام شعاراً له، وأتى إعلان موت تراقي، وتبين فيما بعد أنه اغتيل بقرار من مساعده حفيظ الله أمين، وقد تولى الحكم بعده، وغلبت على مدة حكمه القصيرة لثلاثة أشهر القسوة الشديدة والعنف المفرط ضد جناح «برشام» وعموم معارضيه، وعمت الفوضى أنحاء البلاد، وأذكر أن أول وصف لهذه الجماعات المسلحة بالمجاهدين كان من أجهزه الصحافة والإعلام الغربية، وقد كتبتُ مقالاً وقتها حول ازدواج المعايير؛ بعنوان «مجاهدون في أفغانستان.. إرهابيون في فلسطين»!!

وقد بدأ التدخل العسكري السوفييتي في كانون الأول/ديسمبر 79 ويشار إليه في اغتيال أمين، وتولى بابراك كارمل زعيم جناح «بارشام» الحكم، وحاول التخفيف من إجراءات تراقي، وتصاعدت المواجهات ضد الوجود السوفييتي؛ بدعم ومساعدة الولايات المتحدة والسعودية وباكستان ومصر، ودول عربية واسلامية أخرى؛ إضافة إلى الصين، وجماعات عرقية وطائفية ومذهبية مختلفة؛ رفعت جميعها شعارات دينية اسلامية، وتدفقت جحافل المقاتلين من كافة الأنحاء شعارها «نصرة الاسلام».

أُجبِر كارمل على الاستقالة عام 1987 وتعيين نجيب الله رئيساً، وذلك في السنة التي قرر فيها السوفييت الانسحاب، وحاول نجيب الله مصالحة المقاتلين وتمكن من اقامة علاقة مع القائد أحمد شاه مسعود، وكان يمثل تياراً عملياً معتدلاً، واستطاعت حكومة نجيب الله تحقيق انتصارات عسكرية بعد انسحاب السوفييت عام 1989 وانهار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991 فازداد الوضع سوءاً وعجزت الحكومة عن توفير العتاد والذخيرة والمحروقات، وترك عبد الرشيد دستم الحكومة، وفي آذار/مارس 1992 قدم نجيب الله استقالته ودخلت قوات «الجمعية الوطنية» كابول، واختير برهان الدين رباني رئيساً للدولة وعبد الرسول سياف رئيساً للوزراء!

ومع تقلص الدعم المالي والعسكري الخارجي زادت حدة الصراع السياسي، وتفاقم غضب البشتون من سيطرة الطاجيك على مقاليد الأمور، واشتعلت الحرب الأهلية من جديد، وسادت الفوضي، وخاض امراء الحرب قتالاً ضارياً فيما بينهم، وعم أنحاء البلاد وانتشر اغتصاب الاطفال والنساء، واحتدمت النزاعات على تجارة المخدرات بعد توقف الدعم الخارجي، ودخلت تلك النزاعات الدامية حقبة جديدة في 1993 مع تشكيل مجموعة من طلاب المدارس الدينية في بيشاور باكستان، ومن منشقين عن «الحزب الاسلامي» واتفقوا على مقاومة الفساد، والتصدي للإتجار بالأطفال والنساء وأطلقوا على أنفسهم طالبان.

وبثت وكالات الأنباء والصحف والمواقع الإلكترونية تفاصيل كثيرة عن دور الحكومة والمخابرات الباكستانية في تأسيس ودعم طالبان، وتمكينها من السيطرة على قرى ومدن حدودية، ومخازن سلاح الحزب الاسلامي، ودامت الحرب 3 سنوات؛ حققت فيها طالبان مكاسب طائلة، ودخلت كابول في 1996 وهرب شاه مسعود نحو الشمال وأنشأ للطاجيك تنظيماً عسكرياً مستقلاً، وفر عبد الرشيد دستم إلى الشمال كذلك، وشكل ميليشيا خاصة بالأوزبك، ونفذت طالبان حكم الإعدام في نجيب الله وحرسه وسكرتيره.

وأعلنت «الامارة الإسلامية» وطبقت شريعتها، فحظرت عمل المرأة وتعليمها، وفرضت عليها زياً وصفته بالزي الشرعي، وفرضت على الرجال إطلاق اللحى؛ لمقاومة الزنا والشذوذ. وطالت الآثار، ففجرت تمثالي بوذا المنحوتين داخل الجبال، والسبب سجود أناس أمامهم، فأثاروا استياء العالم، وذهبت إليهم وفود من رجال الدين؛ يطالبونهم بالتراجع دون جدوى، وسيطرت طالبان على مزار شريف عام 1997 وفر عبد الرشيد دستم خارج البلاد، وفي عام 1998 شنت القوات الأمريكية هجوما كاسحا بالصواريخ على افغانستان، واتهمتها بأنها وراء عمليات إرهابية طالت المصالح الأمريكية، ثم اغتالت القاعدة شاه مسعود عام 2001 وبعدها بيومين تم تفجير برج التجارة العالمي وتبنت القاعدة العملية، وقد تتكرر تلك الصور والمشاهد بعد عشر سنوات من الكمون والغياب!!

* كاتب مصري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.