محمد المنشاوي *
دفع السقوط المتواصل لمدن ومقاطعات أفغانستان في يد قوات تنظيم طالبان إلى استدعاء ذكريات أليمة حين توالى سقوط مدن وقرى جنوب فيتنام في يد قوات فيتنام الشمالية الشيوعية.
وتتشابه الخبرة الأمريكية الحالية في أفغانستان، بعد بقاء قوات أمريكا المسلحة وحلفائها لعشرين عاماً دون نجاح، مع الخبرة الأليمة للولايات المتحدة في فيتنام والتي اكتمل انسحاب القوات الأمريكية منها عام 1975.
ولم تدرك النخبة السياسية الأمريكية الدرس الفيتنامي قبل نصف قرن، والذى يمكن تلخيصه في فشل نظريات التدخل العسكري الأجنبي في دول أخرى في تحقيق أهداف استراتيجية أو سيطرة على الموارد الاقتصادية كما كان الحال مع تجارب الاحتلال الأوروبي لدول كثيرة في العالم الثالث خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
***
قبل 20 عاماً، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2001 خاطب الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الشعب الأمريكي، من القاعة الشرقية بالبيت الأبيض، معلناً أن الحرب في أفغانستان قد بدأت، وبعد عشرين عاماً 2021، تحدث الرئيس جو بايدن من القاعة نفسها ليعلن أن الولايات المتحدة ستسحب جميع قواتها المتبقية في أفغانستان بحلول نهاية شهر آب/أغسطس 2021.
وتعد حرب أفغانستان أطول الحروب في التاريخ الأمريكي وأكثرها تكلفة، فقد كلفت الحرب الخزانة الأمريكية تريليونات الدولارات وأدت إلى مقتل أكثر من 2400 من أفراد القوات الأمريكية، وما لا يقل عن 100 ألف مدني أفغاني، وأظهرت الحرب أن هناك حدوداً لقوة النيران؛ حيث لا يمكن للقوة أن تحسم الصراع.
بعض الآراء تعتقد أن الغزو العسكري حقق هدفه الأساسي وهو حرمان الإرهابيين من التخطيط من داخل أفغانستان لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة. إلا أن تطوير واشنطن لأهدافها لتشمل إعادة بناء الدولة في أفغانستان قد فشل بامتياز. ادعت واشنطن رغبتها في إقامة حكومة جديدة تمثيلية وديمقراطية تستطيع حكم وتأمين أفغانستان، وقد فشلت بشدة في مسعاها.
وأدرك مخططو السياسة الخارجية الأمريكية مؤخراً أنه لا توجد بدائل جيدة فيما يتعلق بأفغانستان، ولا توجد طرق تؤدى للانتصار، ولم يعد هناك إلا خيار الانسحاب الذى له مخاطر عدة، أقلها خطورة عودة سيطرة طالبان على الحكم مرة أخرى.
وجاء الانسحاب من أفغانستان تماشياً مع وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي التي نشرها البيت الأبيض في بداية آذار/مارس الماضي، وجاء فيها أن الولايات المتحدة «لا ينبغي أن تنخرط، ولن تشارك، في حروب إلى الأبد، كلفت آلاف الأرواح وتريليونات الدولارات. وسنعمل على إنهاء أطول حرب تشنها أمريكا في أفغانستان على نحو مسؤول، مع ضمان ألا تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذاً آمناً للهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة».
وتقول واشنطن إنها كانت تهدف إلى القضاء على تنظيم القاعدة وإنها حققت ذلك إلى حد كبير، كما أن واشنطن أدركت بعد كل هذه السنوات من الحرب أن تنظيم طالبان جزء من المجتمع الأفغاني لا يمكن لها القضاء عليه عسكرياً.
***
ولا تختلف التجربة الأفغانية في مجملها عن تجربة الغزو الأمريكي لفيتنام. خسرت الولايات المتحدة في حربها على فيتنام أكثر من 58 ألف جندي، وجُرح أكثر من 150 ألفاً آخرين. وعلى الجانب الفيتنامي قُتل مليون مدنى ومليون عسكري. هذا بالإضافة إلى التأثيرات المتعلقة بالاستخدام الواسع للألغام الأرضية والمواد المشعة والكيميائية التي بقيت آثارها لسنوات.
في البداية، دعمت واشنطن المجهود الحربى الفرنسي، ثم انتقلت إلى الدعم العسكري عبر أكثر من 17 ألف مستشار عسكري، وبحلول العام 1969 كان لها ما يقارب 600 ألف جندي يحاربون هناك.
وطبقاً لدراسة قامت بها جامعة هارفارد، خلفت الحرب عشرة ملايين لاجئة ولاجئ فيتنامى ومليون أرملة و880 ألف طفل يتيم، وثلاثة ملايين عاطل، وبلغت نسبة التضخم عند انتهاء المعارك 900%.
أنهت اتفاقية باريس التي وقعها الشيوعيون الفيتناميون مع واشنطن عام 1975، إحدى أشرس حروب القرن العشرين. ومع انتهاء الحرب، تعهدت واشنطن بتقديم 3.5 مليار دولار للتعويض عن تدميرها للبنية الأساسية الفيتنامية، إضافة إلى ملياري دولار تعويضات عن استخدام مواد كيميائية أضرت بمليوني فيتنامى وفيتنامية، إلا أن واشنطن أيضاً قررت مقاطعة فيتنام وعدم التعامل مع نظامها الشيوعي، لكن الدولتين بدأتا خطوات تطبيع بطيئة بينهما منتصف تسعينيات القرن الماضي، ووصلت اليوم إلى علاقات قوية.
وأخذت الولايات المتحدة عشرين عاماً حتى ترفع عقوباتها ومقاطعتها التي فرضتها على فيتنام عقب انتهاء الحرب، وهو ما مثل تاريخاً جديداً في علاقات الدولتين.
يجمع هانوي بواشنطن اليوم علاقات دافئة، وهو ما أدى إلى أن تصبح الولايات المتحدة أكبر الشركاء التجاريين لفيتنام بعدما تم رفع العقوبات الاقتصادية عنها عام 1995.
***
من الناحية النظرية تتمتع قوات الأمن التابعة للحكومة الأفغانية بأفضلية واضحة على قوات حركة طالبان، فهي أكبر حجماً وأفضل تجهيزاً، وتلقت كميات هائلة من برامج التدريب العسكري الخارجي، والدعم اللوجيستي، والمساعدات المالية والأسلحة المتطورة، والمعلومات الاستخباراتية.
ويمثل استسلام قوات الأمن الأفغانية دون قتال في حالات كثيرة، تاركة وراءها العتاد الأمريكي الذى زودتهم به واشنطن لطالبان، سبباً لقلق الكثير من القادة العسكريين الأمريكيين، إذ يعكس ذلك فشل الجهود الأمريكية لتأسيس جيش أفغاني فعال، ولم تلتفت الدوائر الأمريكية المختلفة لهذه المعضلة خلال السنوات الماضية. وهو نفس ما جرى في حالة دعم واشنطن لجيش جنوب فيتنام.
ولم تحظَ قوات الجيش الأفغاني بشعبية واسعة كغيرها من جيوش العالم بين فئات الشعب الأفغاني، كما لم يحظ جيش جنوب فيتنام بالشعبية وسط الفيتناميين، وذلك بسبب ارتباطهما بمحتل أجنبي (الولايات المتحدة في الحالتين).
***
بعد إدراك واشنطن لاستحالة تحقيق النصر والقضاء على طالبان، تفاوضت مع الحركة في العاصمة القطرية، ونص الاتفاق الموقع في الدوحة- والذى لم تشارك فيه حكومة كابل- على أن تسحب الولايات المتحدة كل قواتها من أفغانستان مقابل تعهد طالبان بعدم السماح لمجموعات «إرهابية» بالتحرك في المناطق التي تسيطر عليها. ويبقى السؤال.. هل أدركت واشنطن بعد كل تلك الخسائر حدود وإمكانيات قوة النيران في عالم لم يعد فيه احتلال دول أخرى ممكناً عن طريق الجيوش والدبابات والطائرات.
* كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.