الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل أغلق الناصريون باب الاجتهاد في الناصرية؟

محمد حماد *

قناعتي الراسخة أن ثورة تموز/ يوليو أروع من كل ما كتب عنها، بالإيجاب أو بالسلب، وأكبر من كل النقد الذي يدأب البعض من خصومها التاريخيين على توجيهه إليها، وهي أكثر تأثيراً من كل ما حاول المحسوبون عليها أن يثبتوه لها من تأثير، لأنها لم تكن مجرد حدث تاريخي عابر، ولكنها كانت- وستبقى في نظري- هي الحدث الأبرز الذي لا يمكن بدونه تفسير وفهم ما جرى من أحداث كبرى خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ولم يكن جمال عبد الناصر مجرد قائد ثورة، بل كان على رأس جيل كامل جاء في موعده مع القدر، وعى دوره وأداهُ بإخلاص لا ينكر، وكان في قلب جيل مصري من الكتاب والمفكرين والفنانين والصحفيين والأدباء والفنانين وطليعة من العمال والفلاحين والضباط والجنود حلموا جميعاً بمصر أكثر استقلالاً وأكثر عدلاً وأكثر حرية، ولذلك أضع نفسي ضمن من يرون أن اختصار ثورة يوليو فيما جرى ليلة الثالث والعشرين واستيلاء بعض ضباط الجيش على السلطة واستمرارهم فوق مقاعدها، هو اختصار مُخل، ولا يقدم الصورة الحقيقية لما جرى على الأرض في بر مصر أولاً، وفي محيطها العربي والإقليمي ثانياً، وتأثيراتها على الصعيد الدولي أخيراً، وهي كلها مواريث وتأثيرات لا يمكن اغفالها أو تجاوزها بسهولة.

فضيلة ثورة يوليو الأساسية عندي أنها جاءت استجابة واعية لتحديات الواقع، تطورتْ أفكارها وتبلورت أكثر فأكثر بالتفاعل مع الواقع، وراحت تتعلم بالتجربة أن الاستقلال الوطني لا يمكن أن يكون علماً يُرفع في المناسبات، ونشيداً يصدح به في الأعياد الوطنية، وتعلمتْ بالممارسة أن التنمية الشاملة هي الوجه الآخر للاستقلال، وأن القرار الوطني منقوص، طالما قصرنا في تنمية قدراتنا الذاتية، وتعلمتْ بالدم أن أمن مصر الوطني لا يمكن أن ينفصل بأي حال عن أمنها القومي في محيطها العربي.

عمل جمال عبد الناصر من أول يوم في الثورة وحتى آخر قرار وقع عليه قبل رحيله بساعات على أساس واحد لم يعدله، ولكنه عدَّل أساليب وخطط تنفيذه وتعددت وسائله وأدواته في تحقيقه، وهو أن يحافظ على استقلال القرار الوطني المصري، ووعى عبد الناصر منذ بدايات الثورة أن تخليص مصر من الاحتلال الإنجليزي ليس هو نهاية المطاف، بل ربما هو نقطة انطلاق طبيعية لمشوار طويل ومعارك ضارية على جانبيه من أجل تخليص القرار الوطني المصري من كل القيود الأجنبية التي تكبله، فخاض معركة كسر احتكار التسليح للجيش المصري من جهة واحدة، وعقد صفقة السلاح الروسي، وخاض حربه ضد حلف بغداد على هذا الأساس، وأمم قناة السويس على هذا الأساس، وقرر المقاومة في مواجهة العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على هذا الأساس، وخاض غمار التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والاجتماعية، كل ذلك على أساس واحد هو: تحرير القرار الوطني من أي تبعية لأي جهة كانت.

لست ممن يقولون بإعادة إتباع سياسات الماضي كما حدثت، ولست أرى أن هناك إمكانية لعمل ذلك من أصله، ولا أنا مع نفس الوسائل التي استخدمها عبد الناصر، ولا الأساليب في حد ذاتها هي المهمة بهذا الخصوص، كل ما يهم هو الأساس الذي بنى عليه عبد الناصر سياسته في الداخل والخارج، وهو استقلال الإرادة المصرية وتحرير القرار المصري.

التحديات الكبرى:

أعرف أن سؤال التعددية الحزبية لم يكن ملحاً على ثورة تموز/ يوليو ولا على عبد الناصر، بينما ظل سؤال “الاستقلال الوطني” ملحاً حتى بعد رحيل آخر جندي بريطاني واستعادة القناة تحت السيادة المصرية، وبقي ملحاً طوال المسيرة الناصرية، وطُرح سؤال “التنمية المستقلة” لأول مرة مع الإصرار على إصدار قانون الإصلاح الزراعي في أول أيام الثورة، وبقى ملحاً حتى قانون تأميم تجارة الجملة في أواخر عهد عبد الناصر، وطُرح سؤال “عروبة مصر” مع أول طلقة أرسلت لثوار الجزائر في بدايات الخمسينيات من القرن الماضي، وبقي ملحاً حتى آخر اجتماع قمة عربي قبل رحيل عبد الناصر بساعات استهدف حماية المقاومة الفلسطينية ورأب الصدع على الجبهة الشرقية مع العدو الإسرائيلي.

هذا النوع من الأسئلة والتحديات التي فرضت نفسها بدءاً من قضية الاستقلال أولاً مروراً بقضية التنمية ثانياً ثم العروبة ثالثاً كانت هي الأسئلة التي تلح على عبد الناصر وتفرض نفسها على جدول أعمال ثورة تموز/ يوليو.

صحيح أن سؤال التعددية لم يُطرح إلا في فترات تأزم النظام السياسي الذي أنتجته ثورة تموز/ يوليو، لخلاف عند قمة السلطة أو صراع بين أطرافها، فطرح لبعض الوقت في أوائل الأزمة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وطرح بقوة في أعقاب نكسة حزيران/ يونيو 1967، ولكننا لا يجب أن ننسى أن “التعددية الحزبية” لم تكن هي المنوال الذي تنسج حوله الأنظمة السياسية في ذلك الزمان كما هو حادث اليوم.

كل الشهادات المنصفة تشير إلى أن عبد الناصر بعدما توصل إلى تحليل مؤداه أن نظام تموز/ يوليو فشل وسقط مع النكسة فكر بجدية في ذلك الوقت في البدء بالعمل بنظام التعددية الحزبية على أساس حزبين كبيرين أحدهما يحكم والآخر يعارض في إطار جمهورية رئاسية برلمانية على شاكلة ما يحدث في فرنسا، ولكنه تحت وقع قضية الاحتلال الإسرائيلي لبقعة غالية من مصر اضطر لأن يعطي وقته وجهده كله في تلك الفترة إلى قضية واحدة هي: إزالة آثار العدوان. إضافة إلى أن قوى مؤثرة في داخل النظام لم تكن ترى ضرورة للدخول في تجريه تعددية حزبية لم تتهيأ لها الأوضاع في مصر وقتها. وللأسف أن هذه القوى نفسها هي التي انقلبت فيما بعد رحيل عبد الناصر على مضمون الثورة وجوهرها وراحت ترفع لافتات ديمقراطية لتمرر من تحتها سياساتها الجديدة التي تتناقض بالكلية مع المشروع الناصري الذي انقلبت عليه.

المراجعة الفكرية:

تركت ثورة تموز/ يوليو وترك عبد الناصر رصيداً كبيراً، ولكن الورثة كانوا قد قرروا السحب منه على المكشوف، دون أن يضيفوا إليه ولو النذر اليسير، ولعل الإضافة الأهم من وجهة نظري- ومن واقع الرؤية من داخل البيت- تتمحور حول عنوان رئيسي هو ضرورة تقديم قراءة جديدة لثورة 23 تموز/ يوليو، وهي ضرورة ملحة، وبنفس القدر والأهمية هناك حاجة ماسة إلى تقديم مراجعة فكرية معمقة للتجربة برمتها وعلى كافة الأصعدة، وهي مهمات تستنهض “كسل العقل الناصري”، وتضع على النخبة السياسية الناصرية مهمة نحسبها تاريخية إذا ما استطاعت أن تقفز من فخ الدوغمائية وتعلن خروجها من حفرة الدفاع التي أسقطتها فيها القوى المضادة للثورة لتلهييها عن دورها المنوط بها تاريخياً.

استنهاض العقل الناصري للخروج من وهدة “سلفنة الناصرية” يبدأ بالضرورة بتقديم رؤية نقدية من موقع الانتماء إلى الثورة، وهو أمر لو تم بصورة حقيقية سوف ينزع ورقة النقد والانتقاد والتهجم من أيدي القوة التي عادت الثورة قديماً، وما تزال تنفخ في أتون العداوة ناراً يريدونها لا تنطفئ ليحولوا دون عودة جمال عبد الناصر جديد، ويبنوا سدوداً تحجب إمكانية استعادة مضمون الثورة التحرري والاجتماعي والوحدوي.

وقد استبشرتُ خيراً مع حفاوة الاستقبال الناصري لمؤلف الكاتب الكبير الأستاذ «عبد الله السناوي» الذي قدم اسهاماً جاداً ونافعاً في هذا المجال في كتابه الذي صدر مؤخراً تحت عنوان ” أخيل جريحاً- ارث جمال عبد الناصر” وهي حفاوة تدعونا إلى التفاؤل بإمكانية المضي قدماً باتجاه تقديم تلك الرؤية النقدية، والعلم بجدية على تقديم القراءة الجديدة لمسيرة الثورة الأهم في التاريخ المصري الحديث.

لقد قدم الأستاذ محمد حسنين هيكل، اسهامه الأهم على هذا الصعيد، وهو الاسهام الذي كلفه به عبد الناصر، وتمثل في كتابة تاريخ لثورة تموز/ يوليو عبر الوثائق التي وضعت تحت يده أو جرى اطلاعه عليها، وكان هو الأجدر بالقيام بتلك المهمة، والأيام أثبتت ذلك عن يقين، ولكن لم يكن مهيئاً، وربما لم يكن مهتماً، بمهمة أخرى لا تقل أهمية، وهي مهمة المراجعة الفكرية للناصرية.

ما يجعلني أتخوف من أن مهمة المراجعة ستبقى من دون انجاز يُذكر أن اطروحات “بعض الناصريين” تدل على أنهم أغلقوا باب «الاجتهاد» في الناصرية، وقصروها على مقولات وخطب وبيانات وتطبيقات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، إضافة إلى الميثاق وهو الوثيقة الفكرية الأهم في مسيرة الثورة، وربما لا يعلم كثيرون أن عبد الناصر نفسه كان قد أعلن أن «مراجعة» نظرية للميثاق سوف تتم بعد 10 سنوات من إقراره، إلا أن هذا البعض من الناصريين يتمسكون بالميثاق كما كتب قبل ستة عقود من الآن.

حتى هؤلاء الذين اعتُبروا باحثين جادين في «الناصرية» لم يقدموا- في رأيي- غير اجتهادات «نصية» أو تبريرات أو تفسيرات تقرأ الحدث التاريخي في محيطه من حيث الزمان والمكان والملابسات، وهي إن صلحت كأساس أو كبداية فهي لا تصلح للبناء النظري المتماسك والمطلوب.

التنظير أولاً:

ولعل تراجع قضية “التنظير” الناصري جاء بسبب اعلاء شأن قضية “التنظيم” التي صارت بسبب انقلاب أنور السادات على الثورة هي قضية الناصريين الأولي، وانغمسوا فيها طول الفترة من أواسط السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات، وكأن لسان حالهم يقول لا صوت يعلو فوق صوت معركة بناء التنظيم تلك المعركة التي استغرقت كل الجهد واستنزفت كل الطاقة حتى بدا الناصريون لحظة إعلان الحزب الناصري بعد مرور عقدين وكأنهم حركة بلا طاقة، لم يعد لديهم جهد يبذلونه، إلا بعضاً منهم لم يفعل شيئاً طوال تلك السنين اختزنوا طاقتهم وجهدهم خلالها لكي يبذلوهما جميعاً في تفريغ الحزب الناصري من كوادره الأساسية، وانتهت معركة التنظيم بإقامة حزب بدون ناصريين كان يجب أن يكونوا فيه، وأن يكونوا عموده الفقري إن لم يكونوا هم قياداته، وهكذا بدا أن كل هذه السنين مضت والحصاد يكاد يكون صفراً كبيراً للأسف، فلا إنجاز فكرياً حدث، ولا إنجاز تنظيمياً يملأ العين، أو يسد الحاجة إلي أداة ناصرية فاعلة.

ومن ناحيتي أكاد أجزم أن الدور الذي يجب أن يقوم به هذا الجيل الذي يحمل لواء الناصرية الآن هو بالأساس دور فكرى، أن يبلور الناصرية وأن يطورها، هذا الجيل- في رأيي- مطالب أن يقدم إسهاماً نظرياً حقيقياً في نظرية التغيير في الواقع العربي في ظل ما طرأ من متغيرات وما نشأ من واقع جديد، ولست أرى أن المتغيرات وحدها هي التي تفرض عليهم إنجاز قراءة جديدة لثورة تموز/ يوليو وإلى إعادة النظر في الإرث الفكري، بل إن الناصريين مطالبون ببذل جهد نظري تأسيسي يبدأ من طرح السؤال هل الناصرية نظرية من عدمه؟ يطرحونه على بساط البحث المعمق لا على بساط المهاترات وإثبات الذات وما إلى ذلك من أمراض أتصور أنه لم يعد هناك وقت لها.

لا مبرر للتقاعس:

أن يتقاعس الناصريون عن فعل ذلك بحجة أن بعض القوى المتربصة لثورة تموز/ يوليو شراً سوف تستخدم هذا النقد العلني من داخل البيت ضد الثورة، فذلك نوع من العذر الذي أراه أقبح من الذنب، فأعداء الثورة وقوى الثورة المضادة لم يدخروا وسيلة إلا استغلوها، ولم يبخلوا حتى في اختراع أسباب ووسائل يهاجمون بها عبد الناصر.

الناصريون مطالبون ـ إذا أرادوا أن يكون لهم مكان في المستقبل- بأن يبادروا قبل غيرهم في عملية نقد للذات واسعة وعميقة وحقيقية إذا أرادوا أن يكون لهم دور بارز في تغيير الواقع العربي الراهن، فالثورة لم تكن إنجاز مرحلة مضت، بل تركت- وهذا هو المهم- مشروعاً يمكن تطويره، والناصرية على الحقيقة لم تكن نظرية تغيير جاهزة، بل راحت تطور نفسها، وتطورت أفكارها وتبلورت أكثر فأكثر خلال مشوارها، وكما جاءت في موعدها مع القدر منذ 69 سنة فهي ما تزال مشروعاً قابلاً للتطوير، والأهم أنه قابل لكي يكون هو مشروع المستقبل، وتلك هي القضية.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: أصوات أونلاين

التعليقات مغلقة.