سمير العيطة *
لحوران خصوصياتها ولأهلها خصوصياتهم. أرضٌ ثرية بالمياه اشتهرت منذ العصور القديمة بزراعاتها ومثلت تاريخيا رئة دمشق- الشام الآرامية. أعطت إحدى حاضراتها- شهبا- أحد أباطرة روما المسمى حينها فيليب «العربي»، رمزاً لاندماج العرب في الحضارة الرومانية. ثم أضحت «الجابية» (أو «جابية الملوك»، مدينة “نوى” اليوم، التي يُعزى إليها «باب الجابية» أهم أبواب مدينة دمشق) عاصمة الغساسنة المسيحيين معتنقي مذهب الطبيعة الواحدة.
وعُرفَت بشُعرائها الذين ليس أقلهم شهرة النابغة الذبياني (زياد بن معاوية المشهور بمعلقاته) وعلقمة الفحل وحسان بن ثابت (شاعر الرسول لاحقا). وفى حوران حشد خالد بن الوليد جيوش المسلمين (وحلفائهم الغساسنة) في تل الجموع لمعركة اليرموك. وإليها قَدِمَ الخليفة عمر بن الخطاب كي يَمنحَ وفد أهالي القدس عهدهم الشهير. واختارها معاوية بن أبى سفيان عاصمة له لأربع سنوات قبل أن يؤسس دولته الأموية في دمشق. وفى الجابية وبرعاية الغساسنة عرفَت التحكيم على الخلافة الأموية لاختيار مروان بن الحكم بدلاً من عبدالله بن الزبير بعد وفاة معاوية بن يزيد المبكرة.
وفى سهول حوران- وخاصة في مزيريب- كان يتم تجمع قوافل الحج السنوية مما مَنَح دمشق لقب «شام شريف». وإلى جبلها- جبل حوران- لجأ دروز لبنان اليمنيون بعد معركة عين دارة التي انتصر فيها القيسيون، كي يسمى بعدها جبل الدروز أو جبل العرب. ومن السهل والجبل انطلقت الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي.
- ••
لا بداوة في حوران، ولكن انتماءات عشائرية ما زالت راسخة وهوية عربية متجذرة. انتظموا في الأحزاب الجديدة في منتصف القرن العشرين، وخاصة حزب البعث. فباتت حوران أحد معاقل البعث إلى أن خسرتها السلطة القائمة في سوريا في بداية 2011 بعد حادثة تعذيب فتيان قُصَر وإهانة وجهاء. هكذا كانت حوران أول منطقة سورية تكتسب حرية تأملت بانتشارها في كل البلاد. وبعد عسكرة «الثورة» وتحولها إلى حربٍ أهلية، عمل القمع الأعمى وسلوك القوى الخارجية على دفع أهل حوران نحو التجمع في تنظيمات بعضها شديدة التطرف، بما فيها جبهة النصرة وداعش، التي تمركزت الأخيرة في جيبٍ جنوبي على الحدود مع الجولان المحتل.
أهل حوران بعيدون بالفطرة عن التطرف الديني. بينما انتشرت تاريخياً الطرق الصوفية بينهم، القادرية والرفاعية وغيرهما. وأهل حوران بينهم شيعة ومسيحيون. هكذا عانوا من قمع السلطة وتفلتْ فكر الإسلام السياسي وماله وسلاحه (خصوصاً عبر سرور زين العابدين عضو «الطليعة المقاتلة» السابق الذى تحول نحو السلفية الجهادية) ومن ورائه بين 2012 و2017، وكذلك تكاثرت ألاعيب الإسرائيليين الذين ما زالوا يطمعون في مساحة كبيرة من أراضي حوران اشتراها البارون روتشيلد في أواخر القرن التاسع عشر من الدولة العثمانية ليقيم مستوطنة «تيفارة بنيامين» لوهلةٍ من الزمن، وقبل أن تخضع هذه الأرض للإصلاح الزراعي.
بالمقابل، استطاع أهل حوران إلى حدٍ ما تحييد كل ذلك قبل القيام بمصالحات جماعية برعاية روسيا الاتحادية عام 2018. في هذا السياق توقف تدفق المساعدات من الاتحاد الأوروبي والولايات، وعانى اقتصاد المنطقة من التخريب نتيجة الإغلاق مع الأردن والخليج كما بفعل العقوبات الخارجية والانهيار الاقتصادي العام في سوريا ولبنان. وبالإضافة إلى الضائقة الاقتصادية الخانقة، استخدم كُثُر الخلافات وتنافس أمراء الحرب بين سهل حوران وجبل العرب، وبينهما وبين أهل البادية. بالتوازي قامت قوى تابعة لإيران بمحاولة التموضع مقابل خطوط التماس مع الجولان المحتل، وكأن الصراع مع الاحتلال يُمكن أن يحصل دون تبني الأهالي لنهج «المقاومة».
- ••
على مثل هذه الخلفية، وفى مثل هذا السياق المجتمعي، انفجرت الأوضاع أخيراً في حوران، في معارك وحصار لا طائل لهما مع أهالي تم سحب الأسلحة الثقيلة منهم وتم تنظيم كثيرٍ من مقاتليهم المعارضين السابقين في فصائل رديفة للجيش السوري وفى مناطق يعيش سكانها أصلاً معاناة كبيرة. وفى حين يعود جزءٌ من هذا الانفجار للأوضاع الاقتصادية والمعيشية غير المحتملة، وصراعات أمراء الحرب على الطرفين، أثبتت السلطة مرة أخرى رعونتها كما ظهر بوضوح في خطاب القسم الأخير لرئاسة الجمهورية. فمقابل عجز السلطة عن تأمين المقومات الدنيا للمعيشة كما الالتزام بالمصالحة وتحويلها إلى بداية إعادة لحمة مجتمعية، عمدت إلى اللجوء إلى لغة القوة: إن على كل السوريين الخضوع الكامل لإراداتها رغم كل ما حصل. ودخلت في الوقت ذاته في استفزازٍ لروسيا الاتحادية، حليفتها، لجعلها مسئولة عن النكوص بالعهود ولإحياء اللعبة الدولية في منطقة شديدة الحساسية.
مثل هذا التصعيد في حوران قد تكون له تداعيات على مجمل الاستعصاء السوري. فهذه المنطقة وإن تم إخضاعها رمزيا لسلطة الدولة السورية على عكس الشمالين الشرقي والغربي، ولا تلقى دعما مباشرا من قوة خارجية مثل الولايات المتحدة أو تركيا، فهي تبقى رمزاً لهذا الاستعصاء. صحيحٌ أن كُثرا من أبنائها ما زالوا يلعبون دوراً أساسيا في الدولة السورية ويلتزمون بغطاء مؤسساتها كدولة، إلا أن الكثير الآخر يعتبرون أن السلطة القائمة لا تلتزم بما تعنيه واجبات الدولة، ولم ولن تحترم كرامتهم وتحنث بعهودها ومواثيقها وبالتالي يؤكدون على وجوب تغييرها.
كذلك يواجه «الضامن الروسي» في حوران تحدياً كبيراً، خاصة لناحية التعامل الواقعي مع الأهالي والدولة وكذلك السلطة، لترسيخ أسسٍ يُمكن أن تفتح مجالاً لتفاوضٍ سياسي على التغيير، أو على الأقل على تغيير السلوك كما بات شائعاً في مقولات المحافل الدولية، بعيداً عن حدة مقومات التفاوض وواقعه مع الشمالين الشرقي والغربي. أسسٌ أهم مقوماتها إعادة توحيد المجتمع السوري وكذلك إعادة توحيد مؤسسات الدولة وخاصة الجيش السوري ليكون درعاً لكل المجتمع وليس لسلطةٍ ضد المجتمع أو لفئة ضد أخرى.
من هنا، لا معنى أن تقبل روسيا بحصار درعا البلد ومناطق أخرى في حوران في حين أنها سعت في قرار مجلس الأمن الأخير لفتح المعابر الداخلية بين جميع المناطق السورية، وذلك بالتوافق مع الولايات المتحدة. ولا معنى أن تقبل روسيا أن يذهب هباء كل الجهد الذى بذلته لتنظيم المقاتلين المعارضين في فيلقٍ رديفٍ للجيش السوري لتعبث الميليشيات المتناحرة في أمن ومعيشة السكان.
يبقى التحدي الأكبر هو ذلك الذى يواجهه السوريون أنفسهم . فما سوريا ما بعد الحرب التي ينشدونها؟ وما أسس العقد الاجتماعي الجديد الذى يطمحون إليه؟ وكيف يتم بناء هذا العقد فعلياً عبر التضامن بين أبناء المناطق المختلفة مما يتجاوز رعونة السلطة وألاعيب الخارج؟
* كاتب سوري، رئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.