الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الانتقال إلى الثورة في القيم

علي محمد فخرو *

من بين ضحايا العصر العالمي الحديث، وما أكثرها، ما حصل للقيم، سواء بالنسبة لمرجعياتها وأولوياتها أو بالنسبة لتعريفاتها غير المتعارضة وتطبيقاتها المتناسقة في الواقع الإنساني والطبيعي. وهذا موضوع يهمنا، نحن العرب، لأننا نواجه الإشكالية نفسها على مستويين: العام الإنساني مع الآخرين والخاص العربي المهيمن على مجتمعاتنا.

فمرجعية القيم، التي كانت في قديم الأزمنة شبه مقتصرة في العالم على المرجعية الدينية أو تفرعاتها الميتافيزيقية، تبدلت بصورة جذرية عند أوروبا الأنوار والحداثة، ومن ثم شتى بقاع العالم والحضارات، منذ حوالي أربعة قرون، إما إلى مرجعية فكرية فلسفية، أو مرجعية إيديولوجية سياسية، أو مرجعية علمية تجريبية. وشيئاً فشيئاً أبعدت المرجعية الدينية الإيمانية أو شوهت.

ولعل أوضح مظهر لأزمة القيم هو استعمالها من قبل قوى التأثير والهيمنة نفسها في عالمنا الحالي لتقود وتغير وتحسن الحياة في مكان، ولتبرير الشرور والنهب والاستئصال والاستعباد وتشويه كل ما هو إنساني في مكان آخر. تماماً كما فعلت تلك القوى عبر القرون الماضية من ممارسات استعمارية بحق الكثير من بلدان العالم باسم شعارات التمدين والتحديث ولكن من خلال وبناء حضارة أوروبية مركزية مهيمنة.

وتماماً كما تفعله الآن قوى الهيمنة العولمية الاقتصادية من بناء عالم ليس فيه إلا الغنى الفاحش الفاسق الأناني وإلا الفقر المدقع المذل الخالي من أي أمان أو أمل، وذلك باسم قيم الكفاءة والتقدم والرفاهيات الحسية القصوى والحريات المنغلقة على الذات وغير المعنية بالاجتماع البشري.

ولعل ما يفسر كل ذلك هو في هيمنة المستوى السياسي للقيم على المستوى الفكري والعقيدي، وفي الحديث عن القيم دون ذكر المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي تتأسس عليها.

وكنتيجة منطقية لكل ذلك هو كثرة الحديث في الغرب عن شعارات من مثل موت الحداثة والانتقال إلى ما بعد الحداثة أو من مثل نهاية التاريخ أو قرب الانتقال من المجتمعات البشرية إلى المجتمعات الآلية والتكنولوجية، حيث تصطاد الآلة ربها الذي أوجدها. ومن قبل ذلك ألم يعلن الفيلسوف ’نيتشه‘ عن موت الإله وموت الإنسان؟

وهكذا تدفع الحياة العصرية نحو الوصول إلى دمار المعاني الحياتية لنا كافراد وكجماعات في كل ساحات الاختيارات المادية والمعنوية والسلوكيات الاجتماعية التي كونت تلك الحياة عبر العصور المتعاقبة. من هنا وصول البعض إلى المناداة بأن الثورة في القيم ومن أجل القيم قد أصبحت أهم من أي عنوان ثوري آخر، خصوصاً بعد أن بدأت مؤسسات محورية كالأسرة وأنظمة الحكم الديمقراطي والاقتصاد تعاني الأمرين بسبب إشكاليات مرجعيات وتطبيقات القيم في عصرنا الحاضر.

ما يهمنا التأكيد عليه مرة ثانية هو أننا، نحن العرب، كأفراد وجماعات ومجتمعات، نواجه المشهد نفسه في حياتنا اليومية، وأننا، نحن أيضا، لدينا فوضى في مرجعيات القيم وأولوياتها والمبادئ التي تقف وراءها وفي مكانتها في كل نشاطاتنا المادية والمعنوية. وهذا يستوجب أن يصبح هذا الموضوع أحد أهم مواضيع الساعة في الحياة الفكرية والسياسة والاجتماعية والثقافية العربية.

وفي الواقع فإن مهمتنا مزدوجة ومضاعفة، فمن جهة علينا صد الهجمة الثقافية العولمية الخارجية المليئة بمعاداة الكثير من القيم الإنسانية وقيمنا، ومن جهة ثانية علينا معالجة ما اعترى قيمنا من أمراض وعلل وإهمال بسبب تخلفنا الحضاري الذاتي عبر عدة قرون. ولذلك يهمنا شد انتباه شابات وشباب الأمة المناضلين من أجل إحداث تغييرات كبرى في مجتمعاتهم المستقبلية، لأن يعطوا مكانة خاصة لموضوع تثوير القيم في مكونات وأهداف ومنهجيات حراكاتهم الجماهيرية المستقبلية، ومن أجل المساهمة سنناقش الكثير من جوانب الموضوع في مقالات مقبلة.

* كاتب بحريني

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.