البــاب الأول
نظـرة عـامـة:
إن يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952 كان بداية مرحلة جديدة، ومجيدة في تاريخ النضال المتواصل للشعب العربي في مصر.
إن هذا الشعب في ذلك اليوم المجيد بدأ تجربة ثورية رائدة في جميع المجالات؛ وسط ظروف متناهية في صعوبتها، وظلامها، وأخطارها، وتمكن هذا الشعب بصدقه الثوري، وبإرادة الثورة العنيدة فيه؛ أن يغير حياته تغييراً أساسياً وعميقاً باتجاه آماله الإنسانية الواسعة.
إن إخلاص الشعب المصري لقضية الثورة، ووضوح الرؤية أمامه، واستمراره الدائب في مصارعة جميع أنواع التحديات، قد مكنه – دون أدنى شك – من تحقيق نموذج رائع للثورة الوطنية وهى الاستمرار المعاصر لنضال الإنسان الحر عبر التاريخ؛ من أجل حياة أفضل، طليقة من قيود الاستغلال والتخلف في جميع صورها المادية والمعنوية.
إن الشعب المصري في يوم بدء ثورته المجيدة فى23 يوليو سنة 1952 أدار ظهره نهائياً لكل الاعتبارات البالية التي كانت تبدد قواه الإيجابية، وداس بأقدامه على كل الرواسب المتخلفة من بقايا قرون الاستبداد والظلم، وأسقط إلى غير ما رجعة جميع السلبيات التي كانت تحد من إرادته في إعادة تشكيل حياته من جديد.
إن طاقة التغيير الثوري التي فجرها الشعب المصري يوم 23 يوليو تتجلى بكل القوى العظيمة الكامنة فيها؛ إذا ما عادت إلى الذاكرة كل جحافل الشر والظلام؛ التي كانت تتربص بكل عود أخضر للأمل ينبت على وادى النيل العظيم. لقد كان الغزاة الأجانب يحتلون على أرضه، وبالقرب منها القواعد المدججة بالسلاح؛ ترهب الوطن المصري وتحطم مقاومته، وكانت الأسرة المالكة الدخيلة تحكم بالمصلحة والهوى، وتفرض المذلة والخنوع.
وكان الإقطاع يملك حقوله، ويحتكر لنفسه خيراتها، ولا يترك لملايين الفلاحين العاملين عليها غير الهشيم الجاف المتخلف بعد الحصاد.
وكان رأس المال يمارس ألواناً من الاستغلال للثروة المصرية؛ بعدما استطاع السيطرة على الحكم وترويضه لخدمته، ولقد ضاعف من خطورة المواجهة الثورية لهذه القوى المتحالفة مع بعضها وضد الشعب؛ أن القيادات السياسية المنظمة لنضال الجماهير قد استسلمت واحدة بعد واحدة، واجتذبتها الامتيازات الطبقية، وامتصت منها كل قدرة على الصمود، بل واستعملتها بعد ذلك في خداع جماهير الشعب؛ تحت وهم الديمقراطية المزيفة، وحدث نفس الشيء مع الجيش الذى حاولت القوى المسيطرة المعادية لمصالح الشعب أن تضعفه من ناحية، وأن تصرفه – من ناحية أخرى – عن تأييد النضال الوطني، بل وكادت أن تصل إلى استخدامه في تهديد هذا النضال وقمعه.
وفى مواجهة هذه الاحتمالات صباح يوم الثالث والعشرين من يوليو سنة 1952 رفع الشعب المصري رأسه بالإيمان والعزة، ومضى في طريق الثورة مصمماً على مجابهة الصعاب والأخطار والظلام، عاقداً العزم في غير تردد على إحراز النصر؛ توكيداً لحقه في الحياة مهما كانت الأعباء والتضحيات.
إن قوة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة، إذا ما ذكرنا أن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة؛ كذلك فإن هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثوري.
إن إرادة الثورة في تلك الظروف الحافلة لم تكن تملك من دليل العمل غير المبادئ الستة المشهورة؛ التي نحتتها إرادة الثورة من مطالب النضال الشعبي واحتياجاته، ولقد كان مجرد إعلانها في حد ذاته في جو المصاعب والخطر والظلام؛ دليلاً على صلابة إرادة التغيير الثوري، وعنادها الذى لا يلين في مواجهة جيوش الاحتلال البريطاني الرابضة في منطقة قناة السويس، كان المبدأ الأول هو القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين؛ في مواجهة تحكم الإقطاع الذى كان يستبد بالأرض ومن عليها.
كان المبدأ الثاني هو القضاء على الإقطاع؛ في مواجهة تسخير موارد الثروة لخدمة مصالح مجموعة من الرأسماليين.
كان المبدأ الثالث هو القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم؛ فى مواجهة الاستغلال والاستبداد الذى كان نتيجة محتمة لهذا كله.
كان المبدأ الرابع هو إقامة عدالة اجتماعية؛ في مواجهة المؤامرات لإضعاف الجيش، واستخدام ما تبقى من قوته لتهديد الجبهة الداخلية المتحفزة للثورة.
كان الهدف الخامس هو إقامة جيش وطني قوى؛ وفى مواجهة التزييف السياسي الذى حاول أن يطمس معالم الحقيقة الوطنية؛ كان الهدف السادس هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
إن هذه المبادئ الستة التي أسلمها النضال الشعبي المتواصل إلى الطلائع الثورية؛ التي جندها لخدمته من داخل الجيش، والطلائع الثورية التي تجاوبت معها تلقائياً، وطبيعياً من خارجه؛ لم تكن نظرية عمل ثوري كاملة، ولكنها كانت – في تلك الظروف – دليلاً للعمل، يمثل عمق هذه الإرادة الثورية، ويلبى احتياجاتها، ويبرز تصميمها على بلوغ الشوط إلى مداه.. إن الشعب العظيم الذى كتب المبادئ الستة بدم شهدائه، وبنور الأمل الذى أعطوا حياتهم من أجله، والذى دفع بالطلائع الثورية من أبنائه داخل الجيش وخارجه إلى التصدي لمسئولية العمل الثوري؛ على هدى من هذه المبادئ الستة التي تسلمتها أمانة من كفاح الأجيال.. هذا الشعب العظيم مضى بعد ذلك في تعميق نضاله، وفى توسيع مضمونه.. لقد كان هذا الشعب العظيم هو المعلم الأكبر الذى تحمل على عاتقه – في أعقاب بدء العمل الثوري في 23 يوليو سنة 1952 – عمليتين تاريخيتين لهما آثارهما الضخمة.
إن هذا الشعب المعلم راح أولاً يطور المبادئ الستة، ويحركها بالتجربة والممارسة، وبالتفاعل الحى مع التاريخ القومي؛ تأثراً به وتأثيراً فيه، نحو برنامج تفصيلي يفتح طريق الثورة إلى أهدافها اللامتناهية، ثم إن هذا الشعب المعلم راح ثانياً يلقن طلائعه الثورية أسرار آماله الكبرى، ويربطها دائماً بهذه الآمال، ويوسع دائرتها بأن يمنحها مع كل يوم عناصر جديدة قادرة على المشاركة في صنع مستقبله.
إن هذا الشعب العظيم لم يكتف بأن يقوم بدور المعلم لطلائعه الثورية؛ وإنما هو فوق ذلك أقام من وعيه حفاظاً عليها، يحميها من شرور الغير، ومن شرور النفس كذلك.
إن الشعب لم يكتف بأن يهزم كل محاولة من أعدائه للنيل من طلائعه الثورية، وإنما قاوم كل الانحرافات التي قد تأتى من النسيان أو الغرور، وظل دائماً يرشد طلائعه الثورية إلى طريق واجبها. إن إرادة الثورة لدى الشعب العربي المصري، والصدق الذى سلحت نفسها به، حققت مقاييس جديدة للعمل الوطني، لقد أكدت هذه الإرادة وصدقها أنه لا يمكن أن تقوم عوائق أو قيود على إمكانية التغيير؛ إلا احتياجات الجماهير ومطالبها العادلة. إن المنطق التقليدي في مثل الظروف التي واجهها نضال الشعب المصري كان يغرى بطريق المساومات والحلول الوسط، والتفكير الإصلاحي الصادر عن العطاء، والتبرع. لقد كان ذلك بالمنطق التقليدي هو الممكن الوحيد في مواجهة السيطرة الخارجية المعتدية، والسيطرة الداخلية المستغلة، وفى غيبة تنظيم سياسي مستعد، وبدون نظرية كاملة للعمل؛ لكن إرادة الثورة في الشعب المصري وصدقها تحدت هذا المنطق التقليدي، وجابهته بتفجير طاقات مليئة بإمكانيات العمل المبدع الرائد.
إن يوم 23 يوليو سنة 1952 كان موعد هذا التفجير الثوري، وفيه استطاع الشعب المصري أن يعيد اكتشاف نفسه، وأن يفتح بصره على إمكانيات هائلة كامنة فيه. إن هذه الإمكانيات الهائلة حققت تجربة جديدة في تاريخ الثورات، وإن السنوات التي مضت حتى الآن منذ يوم 23 يوليو سنة 52 سوف تثبت أنها ذخيرة قيمة بالنسبة لنضال شعوب كثيرة. إن هذه التجربة أثبتت أن الشعوب المغلوبة على أمرها قادرة على الثورة، وأكثر من ذلك أنها قادرة على الثورة الشاملة.
إن الشعب المصري خاض خلال هذه التجربة غمار ثورات كثيرة، تشابكت معاركها وتداخلت مراحلها؛ ثم استطاع في حقبة قصيرة من الزمان أن يقهر جميع أعداء ثوراته المتعددة، وأن يخرج بقوة اندفاع متزايدة إلى مرحلة الانطلاق نحو التقدم. إن الشعب المصري في نضاله ضد الاستعمار استطاع أن يشل فاعليات طبقات من المجتمع القديم؛ كانت قادرة على خداعه بالتظاهر باشتراكها معه في ضرب الاستعمار، بينما هي في الواقع متصلة في مصالحها به.
إن حرب التحرير التي كان يمكن بالمفهوم التقليدي أن تحتاج إلى وحدة جميع الطبقات في الوطن؛ حققت انتصارها في الواقع حين حمت نفسها من أي ضربة خائنة في الظهر.
إن الشعب المصري خاض معركة التحرير ضد الاستعمار، ولم تخدعه المظاهر، وحرص طول المعركة على أن يعزل عن صفوفه كل الذين ترتبط مع الاستعمار مصالحهم في مواصلة الاستغلال، وفى نفس الوقت فإن الشعب المصري وهو يجابه الثورة من أجل التطوير، ويحاول تجميع المدخرات وتشجيعها، وتحريكها في اتجاه التنمية؛ لم يغب عن باله أن الرأسمالية المحلية الكبيرة، استطاعت في ظروف ثورات وطنية عديدة أن تحول نتائج الثورة إلى أرباح لها؛ لأنها بامتلاكها للمدخرات القادرة على العمل فى التنمية تستطيع أن تحتل لنفسها مواقع الاحتكار التي تحصل منها على كل فوائد هذه التنمية.
إن الشعب المصري في ثوريته الأصيلة ضرب جميع الاحتكارات المحلية، في نفس الوقت التي تتصور أن حاجته إليها بسبب ضرورات التطوير ماسة وشديدة. إن هذه الثورية الأصيلة هي التي مكنت الشعب المصري وهو يتجه بكل جهوده إلى الإنتاج أن يتأكد أولاً من سيطرته الكاملة على كل أدوات الإنتاج، وفى نفس الوقت أيضاً فإن الشعب المصري إبان نضاله ضد الاستعمار.. كذلك إبان نضاله ضد محاولات الرأسمالية أن تستغل الاستقلال الوطني لخدمة مصالحها؛ تحت ضغط احتياجات التنمية.. في نفس هذا الوقت فإن الشعب المصري رفض ديكتاتورية أي طبقة من الطبقات، وصمم على أن يكون تذويب الفوارق بين الطبقات هو طريقه إلى الديمقراطية الكاملة لجميع قوى الشعب العاملة، وفى نفس الوقت أيضاً فإن الشعب المصري تحت ظروف هذه المعارك الثورية المتشابكة المتداخلة كان مصراً على أن يستخلص للمجتمع الجديد الذى يتطلع إليه علاقات اجتماعية جديدة؛ تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة، وتعبر عنها ثقافة وطنية جديدة.
لقد عبر الشعب المصري مراحل التطور بحيوية وشباب؛ مجتازاً المسافة الشاسعة من رواسب مجتمع إقطاعي بدأ فيه عصر الرأسمالية إلى المرحلة التي بدأ فيها التحول الاشتراكي بدون إراقة دماء.
إن هذه الصور من الثورة الشاملة تكاد في الواقع أن تكون سلسلة من الثورات، وفى المنطق التقليدي حتى لحركات ذات طابع ثوري سبقت في التاريخ؛ فإن هذه الثورات كان لابد لها أن تتم في مراحل مستقلة، يستجمع الجهد الوطني قواه بعد كل واحدة منها؛ ليواجه المرحلة التالية.. لكن العمل العظيم الذى تمكن الشعب المصري من إنجازه بالثورة الشاملة، ذات الاتجاهات المتعددة؛ يصنع حتى بمقاييس الثورات العالمية تجربة ثورية جديدة.
إن هذا العمل العظيم تحقق بفضل عدة ضمانات تمكن النضال الشعبي من توفيرها:
أولاً: إرادة تغيير ثوري ترفض أي قيد أو حد إلا حقوق الجماهير ومطالبها.
ثانياً: طليعة ثورية مكنتها إرادة التغيير الثوري من سلطة الدولة؛ لتحويلها من خدمة المصالح القائمة إلى خدمة المصالح صاحبة الحق الطبيعي والشرعي؛ وهى مصالح الجماهير.
ثالثاً: وعى عميق بالتاريخ، وأثره على الإنسان المعاصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذا الإنسان بدوره على التأثير فى التاريخ.
رابعاً: فكر مفتوح لكل التجارب الإنسانية؛ يأخذ منها ويعطيها، لا يصدها عنه بالتعصب، ولا يصد نفسه عنها بالعقد.
خامساً: إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله، ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان فى كل زمان ومكان. وإن أعظم تقدير لنضال الشعب العربي في مصر، ولتجربته الرائدة؛ هو الدور الذى استطاع أن يؤثر به في حياة أمته العربية، وخارج حدود وطنه الصغير إلى آفاق وطنه الأكبر، إن تجربة الشعب المصري أحدثت أصداءً بعيدة المدى في نضال أمته العربية. إن ثورة الشعب المصري حركت احتمالات الثورة في الأرض العربية كلها، وليس من شك أن هذه الحركة كانت أحد الدوافع القوية التي مكنت من النجاح الثوري في مصر. إن الأصداء القوية التي أحدثتها ثورة الشعب المصري في الأفق العربي كله.. عادت إليه مرة أخرى على شكل قوة محركة تدفع نشاطه، وتمنحه شباباً متجدداً. إن ذلك التفاعل المتبادل يؤكد في حد ذاته وحدة شعوب الأمة العربية؛ وإذا كانت التجربة الثورية الشاملة قد ألقيت مسئوليتها الأولى على الشعب العربي في مصر؛ فإن تجاوب بقية شعوب الأمة العربية مع التجربة كان من الأسباب القوية التي مكنت الشعب المصري أن ينتصر، وليس من شك أن الشعب المصري مطالب اليوم بأن يجعل انتصاره في خدمة قضية الثورة الشاملة في بقية شعوب أمته العربية! .
إن أصداء النصر الذى حققه الشعب العربي في مصر لم تقتصر على آفاق المنطقة العربية؛ وإنما كانت للتجربة الجديدة الرائدة آثارها البعيدة على حركة التحرير في إفريقيا، وفى آسيا، وفى أمريكا اللاتينية.
إن معركة السويس التي كانت إحدى الذرى البارزة في التجربة الثورية المصرية لم تكن لحظة اكتشف فيها الشعب المصري نفسه، أو اكتشفت فيها الأمة العربية إمكانياتها فقط، وإنما كانت هذه اللحظة عالمية الأثر، رأت فيها كل الشعوب المغلوبة على أمرها أن في نفسها طاقات كامنة لا حدود لها، وأنها تقدر على الثورة، بل إن الثورة هي طريقها الوحيد.
يتبع؛ الباب الثاني (في ضرورة الثورة) …
التعليقات مغلقة.