الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

المعادلات التونسية الصعبة!

عبد الله السناوي *

في المشهد السياسي التونسي المأزوم لا توجد خيارات سهلة، فالأولويات تتزاحم والمواقيت تضغط والمخاوف ماثلة خشية النيل من قدر الحريات العامة المتاحة.

التغيير يفرض منطقه وضروراته على بلد شبه يائس تكاد تخنقه أزماته السياسية والاجتماعية والصحية والفساد المستشري يضرب بنيته، غير أن هناك قيوداً داخلية ودولية لا يمكن تجاهلها على حدود الحركة وطبيعتها.

إذا ما فُتحت جبهات الإصلاح كلها بتوقيت واحد فإن ارتباك الخطى وارد بقوة في لحظة تحول حرجة.

وإذا ما عادت البيئة السياسية إلى ما كانت عليه بعد انقضاء آجال «الإجراءات الرئاسية الاستثنائية»، فإن أحداً لا يمكنه توقع ما قد يحدث تالياً من صدامات وانفجارات تضرب في سلامة البلد وتماسكه وثقته في مستقبله.

هكذا تطرح المعادلات التونسية الصعبة سؤالها الرئيسي: كيف يمكن أن يمضي التغيير إلى أبعد نقطة ممكنة دون اهتزازات في الاستقرار العام، أو انجراف لفوضى لا يتحملها البلد المنهك، أو نيّلٍ من قواعد دولة القانون؟

لم يكن ممكناً إدارة الشأن العام بنظام سياسي مشوه وسلطة تنفيذية لها رأسان متطاحنان، رئيس جمهورية شبه معزول في قصر «قرطاج».. ورئيس حكومة خاضع لتوجيهات رئيس البرلمان وحركة «النهضة» التي يتزعمها.

إذا لم يحدث إصلاح دستوري جوهري في بنية السلطة فإن الأجواء المسمومة سوف تعيد إنتاج نفسها من جديد بنفس الوجوه، أو بوجوهٍ أخرى!

هنا صلب الأزمة التونسية المستحكمة، التي استدعت اتخاذ «إجراءات استثنائية» جمدت البرلمان ونزعت الحصانة عن أعضائه وأعفت رئيس الحكومة وأعداد كبيرة أخرى من كبار المتنفذين في الدولة.

الشرعية الشعبية وفرت الغطاء السياسي بالقبول والتفهم ومشاعر الابتهاج العامة لقرارات الرئيس «قيس سعيِّد»، بغض النظر عن مدى اتساقها مع نص الدستور، الذى استندت إليه.

هذه حقيقة أساسية يجب التأكيد عليها مرة بعد أخرى حتى تكون أبعاد الأزمة التونسية واضحة ومحددة وضرورات ردم الفجوة بين الشرعيتين الشعبية والدستورية حاضرة.

إذا لم تكن هناك خارطة طريق تتضمن تعديلات جوهرية على النظامين السياسي والانتخابي تعيد توزيع السلطة بالتوافق العام وفق القيم الدستورية الحديثة وضمان الحريات العامة قبل انقضاء فترة «الإجراءات الاستثنائية» الموقوتة بشهر فإن الإخفاق بتبعاته الثقيلة قد يكون مُحتماً.

كان مثيراً للالتفات أن الاتحاد التونسي للشغل طرح على نفسه وضع خارطة طريق للاستئناس بها.

هذه ليست مهمة الاتحادات النقابية، عمالية أو مهنية، بقدر ما هي وظيفة القوى والتجمعات السياسية، التي بدت في أحوال ترنح وانكشاف.

الحديث المتواتر عن ضرورة تشكيل «حكومة كفاءات» لإنقاذ البلد فيه اعتراف كامل بفشل الأحزاب والحياة السياسية، فمثل هذه الحكومات لا تنشأ إلا في أوضاع أزمات، أو مراحل انتقال.

هناك سؤالان يلحان الآن على المسرح السياسي التونسي:

الأول، هل هناك تهديد حقيقي للديمقراطية والحريات العامة يستدعي الحذر؟

الإجابة: نعم، أياً كانت النوايا، فالانزلاق إلى دولة الرجل الواحد محتمل بالفعل ورد الفعل.

والثاني، هل يحق لحركة «النهضة» أن تسوِّق نفسها باعتبارها مدافعة عن الديمقراطية والحريات العامة والثورة؟

الإجابة: لا، فتجربتها بالحكم لم تكن إيجابية باعتراف رئيسها «راشد الغنوشي»، الذى حاول أن يخفف من ثقل ما تتعرض له من اتهامات بـ«إنها لا تتحمل المسؤولية وحدها»، دون أن يجيب على سؤال: كيف تعفنت الحياة السياسية التونسية وأهدرت قواعد نزاهة الحكم وضرورات العدل الاجتماعي؟

الإصلاح السياسي والدستوري أولويته مؤكدة، لكنه ليس وحده، فهناك ملفات أخرى تزاحمه نفس درجة الأولوية وتحظى بشعبية لافتة، خاصة ملف الفساد المستشري في بنية الدولة والنخب السياسية الحاكمة.

المعضلة- هنا- أن الفترة الاستثنائية الموقوتة بشهر تضيق عن المضي قدماً بالتحقيق في لوائح الاتهام.

هناك خشية من أفخاخ التسييس المفرط على حساب قواعد العدالة، التي تقتضيها دولة القانون.

الضرب على مراكز الفساد قضية حقيقية وملحة، لكنها تتطلب خطة طويلة الأجل تتضمنها خارطة طريق تعمل على «تنظيف الحياة العامة» من «سُراق المال العام»- بحسب التوصيف التونسي.

ظلال السياسة حاضرة في فتح التحقيقات القضائية بقضايا فساد، أو تلقي تمويلات أجنبية، أو سوء استخدام السلطة التشريعية للحصول على منافع خاصة.

إذا ما ثبُتتْ الاتهامات بحق حركة «النهضة» وحليفها البرلماني «قلب تونس» بتلقي تمويلات أجنبية أثناء الانتخابات النيابية فإن سيناريو إلغاء نتائج الانتخابات النيابية و«حل البرلمان» ليس مستبعداً.

وفق نفس السيناريو فإن أية انتخابات نيابية جديدة سوف تقوِّض الوزن السياسي لحركة «النهضة» إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة، إذا لم تُحَل الحركة بقرارٍ قضائي، وهو احتمال يصعب حدوثه في المعطيات الحالية.

لهذا السبب صرح زعيمها «الغنوشي» استعداد حركة «النهضة» لتقديم أية تنازلات «مقابل استعادة الديمقراطية»!

قضيته الحقيقية ليست الديمقراطية بقدر مصير الحركة نفسها!

باليقين فإن حركة «النهضة» باعتبارها سلطة الحكم، أو الشريك الرئيسي فيه منذ إطاحة الرئيس الأسبق «زين العابدين بن على» تتحمل المسئولية الأولى عن أية أخطار تتهدد الديمقراطية الناشئة بإشاعة أجواء الكراهية والفزع العام والإفراط بالاستئثار بالسلطة وجوائزها!

مشاهد الأزمة تكاد تتلخص في رجلين، رئيس الجمهورية «قيس سعيِّد» ورئيس البرلمان «راشد الغنوشي».

تقاطعَ الرجلان لأول مرة في الانتخابات الرئاسية قبل عام ونصف العام.

«الغنوشي» رشح نائبه، لكنه حل ثالثاً.

في جولة الإعادة مال إلى تزكية «الرجل النظيف»، الذى يكاد ألا يعرفه أحد، في مواجهة زعيم «قلب تونس» «نبيل القروي» المحتجز خلف القضبان بتهم فساد.

تصور أن بوسعه السيطرة عليه بسهولة بالغة، فهو بلا ظهيرٍ سياسي، يفتقد أية خبرة سياسية يُعتد بها، وما هو معروف عنه من أفكار صلبة شحيح، تقول في نفسٍ واحد إنه إسلامي ويساري وقومي!

لم يكن ذلك الرئيس رجلاً يمكن السيطرة عليه كما اعتقد «الغنوشي».

ببرجماتية زائدة تحالف تالياً مع «القروي» في مواجهته دون اعتبار أن حركته وصفت الأخير مراراً وتكراراً بـ«الفساد» حتى يصبح ممكناً أن يكون رئيساً للبرلمان ومركز السلطة الحقيقي في البلد!

إذا لم يُحَل «قلب تونس» بحكم قضائي على خلفية قضية التمويل الأجنبي فإنه مرشح للإطاحة بـ«الغنوشى» من رئاسة البرلمان لإرضاء رئاسة الدولة، التي كشرت عن أنيابها واستقطبت قيادات الجيش والشرطة إلى صفها.

كان تصريح رئيس الكتلة النيابية لـ«قلب تونس» كاشفاً عن ذلك التوجه بإعلانه دعم وتأييد قرارات الرئيس الاستثنائية بعدما وصفها في البداية بـ«الانقلاب»!

هناك ملفات أخرى مرشحة أن تفتح، أخطرها قضية الاغتيالات السياسية، التي تحوم شكوك قوية حول تورط شخصيات محسوبة على النهضة، في اغتيال القيادتين البارزتين اليسارية «شكري بلعيد» في (6) شباط/ فبراير (2013) والناصرية «محمد البراهمي» في (25) تموز/ يوليو من العام نفسه.

ملف الاغتيالات يزكي سيناريو حل الحركة إذا ما أثبتت التحقيقات تورط «النهضة» في إنشاء جهاز سري عسكري.

ما هو ملح من إصلاح سياسي ودستوري يوفر إطاراً عاماً صحيحاً وديمقراطياً لتعقب الفساد في مراكزه وحساب المتورطين في الاغتيالات.

تونس إلى أين من هنا؟

كل شيء معلق على خارطة طريق تجد إجابات مقنعة ومتماسكة لإعادة تأسيس النظام السياسي وفق قواعد العدالة ودولة القانون واحترام الحريات العامة، وإلا فإن المعادلات التونسية الصعبة قد يختل ميزانها ويُدّخل البلد في دوامات فوضى.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.