الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ثورة تموز/ يوليو: افتراءات أصحاب «الحكمة» 

د. جمال باروت *

كثيراً ما تستعاد ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 في استعارات معظم المتحولين حديثاً إلى «الليبرالية» أو «المهتدين» بكلمةٍ أدق إليها باعتبارها حدثاً «انقلابياً» قطع طريق التطور الديمقراطي الليبرالي في مصر وفي البلدان العربية، ومثل «انحرافاً» عنه . وتتمثل وظيفة هذه الاستعارة المبسّطة في نزع الأخلاقية التاريخية عن الثورة ومحاولة «تفسيخها» باسم تطور ديمقراطي مزعوم لم تأت الثورة إلا كي تقطعه وتدمر مساره . لكن هذه الاستعارة مجرد استعارة، إذ تنتمي إلى علاقات الرأس ومخيالاته وليس إلى علاقات التاريخ المتحقق الذي حدث بالفعل.

التطور الديمقراطي المزعوم في مصر الذي تتخيله تلك الاستعارة كان قد توقف وانحسر ووصل إلى تمامية مأزقه قبل صبيحة 23 تموز/ يوليو بعقد ونيف على الأقل . الأربعينيات هي حقبة التحول الأكبر من الأحزاب البرلمانية التقليدية إلى حركات الشباب التغييرية، ومن القيادة المتهالكة للباشوات و«سراة القوم» إلى سوادهم الشاب . وفي هذه الحقبة اكتهلت تلك الأحزاب، بما في ذلك الوفد حزب الأغلبية الشعبية، وتقلصت إلى نطاقات ضيقة، وفقدت القوة الحيوية الدافعة لها، وهي قوة الشباب التي تمردت عليها وخرجت عن نطاق سيطرتها . كانت تلك الأحزاب «الليبرالية» قد حاولت احتواء حركات الشباب بالانخراط في موجة القمصان الكتائبية الملونة.

كانت مصر الثلاثينيات والنصف الأول من الأربعينيات كرنفال القمصان الملونة، حتى إن القصر نفسه شكل «حرسه الحديدي»، فلقد حاول كافة اللاعبين استثمار حركات الشباب وامتطائها في الوقت الذي كانت فيه الحركات تخترقهم وتتجاوزهم جذرياً في اتجاه التغيير الشامل، وتطرح شعاراتها الراديكالية في طرد الإنجليز ووحدة وادي النيل وحل مشكلة الفلاحين، والتضامن مع حركة استقلال الشعوب العربية . وفي هذا السياق احتفلت حركات الشباب باستقلال سورية بحماسة ضارعت حماسة السوريين، وانخرطت إلى أقصاها في معركة التحرر الوطني وفي معارك القتال وفي تقرير المصير الوطني . وعلى العكس من الصورة البهية التي تحاول ترسيخها استعارات أولئك المتحولين عن ذلك المسار الديمقراطي الذي قطعت الثورة تطوره، كان النسق الليبرالي قد وصل إلى تهاوي شرعيته في الأربعينيات، وإلى انكشاف عيوبه البنيوية، واستئثار باشوات وسراة القيادات التقليدية به . كانت الأربعينيات مرحلة عنف سياسي معقد وإضرابات وعصيان وليست مرحلة استقرار ديمقراطي واجتماعي وسياسي على الإطلاق . أعنف صور الحياة السياسية العربية كانت في مصر الأربعينيات وليس في غيرها من البلدان العربية.

كان المجتمع المصري يغلي عشية ثورة تموز/ يوليو بإرادة التغيير الشامل، ويبحث عن تغيير وليس عن استمرار للبنى السائدة المتأزمة والتي فقدت زمام العمل والمبادرة . وصل أداء الأحزاب البرلمانية التقليدية والقصر والباشوات وسراة السياسة إلى نهايته . لم يعد هذا النسق قادراً على العمل . هذه النهاية هي التي أنتجت ثورة تموز/ يوليو لتخلق بداية جديدة . وبالتالي لم تكن الثورة «طارئاً» أو «قطعاً» في تاريخ ليبرالي ديناميكي متطور مزعوم، ثم أتت حفنة من الضباط المتعطشين للسلطة للقضاء عليه كما تُزوّر تلك الاستعارة التاريخ . بقدر ما كانت خلاصةً نوعيةً لتعقدات تطور التاريخ المصري الحديث، ومحاولة بناء شرعية شابة جديدة تحل مكان الشرعية التقليدية المتآكلة . ومثّلت الثورة على وجه التحديد اتجاهات التغيير تلك . لقد خرجت الثورة من رحم حركات الشباب، وعبرت عن أخلاقياتها التاريخية في مجتمع يتطلع إلى التغيير . ومثلت حلم التغيير وإرادته، و«مصّرت» النظام السياسي، وحلت المشكلة الفلاحية واستكمال التحرر الوطني، وإرساء تنمية وطنية مستقلة، ونقل الفعل السياسي من سراة القوم إلى سوادهم، وتعميم التعليم والإفادات العلمية والجامعات، وازدهار الثقافة المصرية، وقوة إشعاعها. وتحول مصر إلى مركز لربيع الشعوب والتحرر في مرحلة تفكيك الاستعمار، وإرغامه على حمل عصاه والرحيل، وإلى تاريخ عزة لمصر وللعرب وللعالم الثالث في مرحلة البحث عن السيطرة على المصير الوطني.

كانت الثورة تعبيراً عن التغيير وليس قطعاً لتاريخ ليبرالوي موهوم كان قد وصل إلى كمال مأزقه البنيوي الشامل . ومِثل كلِ ثورة ترسي تحولات عميقة في مجرى تاريخ بلدها ومنطقتها كانت ثورة تموز/ يوليو «آكلة حشرات»، أليست الثورات دوماً «آكلة حشرات»؟؟

* باحث أكاديمي سوري، متخصص في التاريخ الاجتماعي والسياسي السوري الحديث

المصدر: صحيفة العرب القطرية في 25/7/2008

التعليقات مغلقة.