الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

واشنطن وعقدة تغيير السّلوك الإسرائيلي

عبدالوهاب بدرخان *

استند جو بايدن الى تقارير أفادته بأن إسرائيل حقّقت كلّ أهدافها العسكرية في الأيام الأولى، ثم استعاضت عن الاجتياح البرّي بضرب البنية التحتيّة والأهداف المدنية، إمّا بذريعة الأنفاق تحت الأرض أو بمحاولة قتل محمد ضيف، قائد “كتائب القسّام”. في الحروب الثلاث السابقة على غزّة كان الهدف المعلن تدمير مستودعات الصواريخ ومنصات إطلاقها، وهذه المرّة أظهرت “حماس” والفصائل الأخرى أنها طوّرت أساليب إخفاء ترساناتها وحمايتها، فلم يعد أمام إسرائيل سوى ارتكاب الوحشية المفرطة لتحقّق “نصراً” ما.

ليلة وقف إطلاق النار كان مشهد احتفالات “النصر”، من غزّة الى رام الله ونابلس وسائر المدن الفلسطينية، مثيراً لاعتبارات وتساؤلات لا يعرف الإجابة عنها سوى الفلسطينيين أنفسهم، إذ أعطوا معنىً جديداً لهزيمة موازين القوة، ومغزىً آخر للانتصار الوحيد المتاح حتى ولو بثمنٍ فادح: مئات الضحايا والمصابين، دمار عمراني لمئات المنازل وعشرات الأبنية والأبراج، وخسائر اقتصادية محت مصالح وأرزاقاً أو عطّلتها… كان المعنى الوحيد المباشر لهذا “النصر” أنه انتشل القضية الفلسطينية من تحت الركام ليعيدها الى الوجود. قبل تلك الليلة اكتشف القتلة الإسرائيليون أن أسلحتهم المتطوّرة وصواريخهم الذكيّة تقتل وتدمّر، لكنها تُبقي لديهم شعوراً بالهزيمة ما كانوا ليتخلّصوا منه لو قتلوا أو دمّروا أكثر. كانوا اعتقدوا أنهم دفنوا القضية، وأخرجوها من أولويات الداخل والخارج، فإذا بها تعود لتؤرّقهم.

كان لا بد من صواريخ غزّة، ما دامت إسرائيل قد أصرّت على عدم احترام الشعب الفلسطيني وهويته ومقدّساته، فاستهزأت على مدى ثلاثة عقود بكل اعتبار قانوني وكل جهدٍ سياسي ودبلوماسي وتفاوضي، بل وظّفت إدارة دونالد ترامب في “شرعنة” احتيالاتها لتمرير المزيد من تهجير الفلسطينيين وسرقة أرضهم والسيطرة على حاضرهم ومستقبلهم. والآن يتسابق الأميركيون الى القول إن “صفقة القرن” كانت خطّة فاشلة، وفي الأساس لم يكن ليعرضها سوى عقل فاشي استبدادي لا علاقة له بأي قيم عصرية. كان ممكناً بل واجباً على المجتمع الدولي تجنيب الشعب الفلسطيني المجازر وإبادة عائلات بأكملها في غزّة، بعدما أهمل قضيته وتركه طويلاً تحت رحمة قوّة محتلّة قادها هوس عنصريتها الى هندسة سحق هذا الشعب وهويته. ليست صدفةً أن عواصم غربية كثيرة دأبت في بياناتها على الإشارة الى “سكّان المناطق” لئلّا تقول “الفلسطينيين”، و”المواطنين العرب” بدلاً من “فلسطينيي الداخل” الإسرائيلي.

ماذا بعد سكوت الصواريخ؟ تثبيت لـ”التهدئة” بين إسرائيل وغزّة في انتظار حرب مقبلة، أم معالجة موضعية وآنية لنقاط احتكاك حسّاسة مثل القدس، أم عودة أميركية الى “إدارة” ما تسمّى “عملية السلام”؟ الفلسطينيون والعرب خبروا هذه السيناريوات وإخفاقاتها، سواء بتواطؤات أميركية – إسرائيلية علنية وسرّية لإخضاع أي سلام لموازين القوى (العسكرية) ولإرادة سلطة الاحتلال، أم لأن إسرائيل رفضت على الدوام المبادئ الأساسية لأي سلام شامل ودائم، ولم تكن أي إدارة أميركية مستعدة للضغط عليها. وأهم تلك المبادئ إزالة الاحتلال والاعتراف بحقوق الفلسطينيين والقبول بسلام قائم على قرارات الشرعية الدولية ومرجعية القانون الدولي.

طوال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كانت مسألة “الحماية الدولية للفلسطينيين” مطروحة، قبل اتفاقات أوسلو وبعدها مباشرة وبعدما أقدمت إسرائيل على تمزيقها، لكن من دون استجابة دولية (أميركية)، إلا أنها فرضت نفسها مجدّداً مع مواجهات القدس وغزّة. وقد عنى الاستمرار في تجاهلها أن أميركا وإسرائيل تريدان إبقاء فلسطين مجرّد “أراضٍ” مقطّعة الأوصال تحت سيطرة قوة الاحتلال، ولا تسعيان فعلياً الى السماح بإقامة “دولة فلسطينية” ذات حدود معترف بها. وإذ كان التزام الإدارات الأميركية في العقدين الأخيرين غامضاً إزاء “حل الدولتين”، فإن إدارة ترامب كانت واضحة وحاسمة في محاربته، وأجازت لإسرائيل الشروع في ضمّ الضفة الغربية وتهويد القدس الكبرى.

منذ تسلّم بايدن، أعطت إدارته كل الإشارات اللازمة الى أنها ليست في صدد التحرّك أو المبادرة بالنسبة الى هذا الصراع. وحين أبدت باكراً تأييدها العودة الى “حل الدولتين”، ووضعته في سياق إحياء الدبلوماسية، أرفقت ذلك دائماً بالقول إن هذا الحل “صعب”، أو إن مقوّماته (على الأرض) تجعله مستحيلاً. حرب غزّة اضطرّت إدارة بايدن للعودة الى الواقع. إذ لا يمكن أن تواصل الانسحاب من المنطقة تاركة صراعاً ملتهباً كان ولا يزال تحت مسؤوليتها، وبرهن حليفها الإسرائيلي أنه ليس مؤهّلاً لحلّه سياسياً، أما الحلّ العسكري بذرائع الأمن وغيره فلم يعد ممكناً تركه من دون ضوابط.

عودة إذاً الى خطاب “حلّ الدولتين”، وعودة ما كان يقال في تسعينات القرن الماضي، غداة اتفاقات أوسلو (1993)، بأن “السلام وحده يحمي أمن إسرائيل”، وآنذاك كان هناك ساسة إسرائيليون يروّجون لهذه المقولة التي اختفت مع بنيامين نتنياهو وزمرة المتطرّفين التي يحكم باسمها. وغداة حرب غزّة كانت عواصم غربية وعربية تنصح بالمسارعة في الإمساك بما بعد وقف إطلاق النار، لأن لطرفَي الحرب مصلحةً في انهيار الهدنة، فإسرائيل استأنفت العنف القمعي في القدس، أما “حماس” وفصائل غزّة فتسعى الى استثمار “انتصارها”.

يأتي وزير الخارجية الأميركي الى المنطقة هذا الأسبوع، مسبوقاً بمناخ جديد، أو مختلف، بين واشنطن وإسرائيل، وبأفكار أميركية جرى التعبير عنها في مجلس الأمن (أهمها وقف طرد السكان وهدم البيوت وبناء المستوطنات، بما في ذلك في القدس الشرقية، ووقف كل الأنشطة التي تقوّض مقوّمات مستقبل سلمي). إذا كانت هذه المواقف تنقض التوجّهات الإسرائيلية، فإنها تتوقّع خصوصاً من الدولة العبرية مراجعة شاملة لسياساتها. في المقابل، يريد أنطوني بلينكن استكشاف مدى ارتباط حرب غزّة بالمفاوضات النووية في فيينا، وهل أطروحات السلام المقبلة يجب أن تأخذ في الاعتبار نفوذ إيران في غزّة أم تثبيت الملف الفلسطيني في الكنف العربي؟ الخيار الإيراني يلبي طموحات المتطرّفين الإسرائيليين، أما الخيار العربي فيتطلّب بالتأكيد تغييراً جذرياً في سلوك إسرائيل وثباتاً في التوجّه الأميركي الحالي.

* كاتب ومحلل سياسي لبناني

المصدر: النهار العربي

التعليقات مغلقة.