الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«عبدالناصر» بين «توفيق الحكيم» واليسار المصري

 

صلاح زكي أحمد *

 (…. للأستاذ توفيق الحكيم، الأديب الكبير والمفكر العّلّمْ الذى أثرىّ الحياة الفكرية والأدبية في مصر والعرب على مدى سنوات طوال، له منزلة كبيرة عند أجيال مُتعاقبة من أبناء هذا الوطن، بمعناه القُطري والقومي…).

غير أنه كان، ولازال، له موقعاً خاصاً في حياتي، لا يُدانيه حُبّاً وإعجاباً إلاّ القليل من أصحاب القلم، فقد قرأت له مثل غالبية أبناء جيلي روائعه الأدبية والفكرية مثل «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» و«عصفور من الشرق» و«أهل الكهف» و«السلطان الحائر» و«بنك القلق» وغيرها من الأعمال التي يضيق المجال عن ذكرها والتوقف عندها واحدة إثرّ أخرى، فذلك مجال أتمنى أن أقف عنده لأعطي هذا المُفكر الفّذْ حقه من الدرس والبحث والتقدير…

كُنت ولا زلت مُعجباً  بإبداعات الأستاذ «توفيق الحكيم» فقد شغلت سنوات الصبا والشباب من عمري اهتماماً يصل الى حّدْ الافتنان بهذا المفكر العملاق بحق، ولذلك كنت سعيد الحظ، أن رأيته في مبنى جريدة الأهرام في الشهور الاخيرة من عام ١٩٦٨، وعن طريق الأستاذ «لطفي الخولي» رئيس تحرير مجلة الطليعة اليسارية، التي كانت تصدر عن تلك المؤسسة العريقة، لقد أحسست وقتها، أنني أنظر إلى الأهرام، أهرام الفراعنة، بكل شموخها وعظمتها وهيبتها، ذلك الأثر الخالد الذي تركه أجدادي الفراعنة للإنسانية دليلاً على عظمة وعبقرية هذا الشعب…..

كانت لحظة نادرة في حياتي لن أنساها عمري، فقد قدمني الأستاذ «الخولي» له بكلمات طيبة، ولم أسمع منه سوى دعاء إلى الله بالتوفيق، في الوقت الذي كانت يديه الحانية تّربُت على كتفي….

ولذلك كانت صدمتي بالغة عندما نّشرّ كُتيباً صغيراً مّنسوباً إليه في عام ١٩٧٤، كان عنوانه «عودة الوعي» وكما لو أنه هو الوجه الآخر المُكّمِل لروايته الرائعة «عودة الروح»…!!

ففي تلك الرواية أّرّخّ الأستاذ «الحكيم» لنهضة الشعب المصري في ثورة ١٩١٩، وصّدّرها بكلمات يقول فيها «إن المصري ينهض عندما يجتمع الكل في واحد» وهو قول يدعو صراحة من خلال وقائع الرواية الى الوحدة الوطنية في وجه الاستعمار وكل خطر خارجي، كان الرمز فيها واضحاً من خلال سيرة حياة الأستاذ «الحكيم» نفسه والذي يُسمّىّ «محسن» في ذلك العمل الكبير الذي توقف عنده الكثير من النُقّادْ، بالتفسير والتحليل…

أما «عودة الوعي» فكان كتيباً نّقدياً حاداً وغير موضوعي في كثير من جوانبه للرئيس «جمال عبد الناصر» والتجربة الوطنية والقومية التي قادها خلال سنوات الثورة المصرية في يوليو عام ١٩٥٢ وحتى وفاته في سبتمبر عام ١٩٧٠!!

وعندما قرأته في أول الأمر، قرأته من نسخة مصورة على ورق «فولسكاب» مأخوذة من النص الأصلي المطبوع بواسطة الآلة الكاتبة، قبل أن يصدر على هيئة كتاب من أحدى دور النشر المصرية!!

حزنت بالغ الحزن، فكيف يكتب هذا المُفكر الكبير هذا الكلام عن رجل وقائد، أحبّ وقّدّرّ الأستاذ «الحكيم» أقصى درجات الحب والتقدير، فقد أقال «عبد الناصر» الأستاذ «اسماعيل القباني» وزير المعارف، أي وزير التعليم في السنوات الأولى من الثورة من منصبه الوزاري، بعد أن اتخذ قّراراّ برفت الأستاذ «الحكيم» من وظيفته كمدير لـ «دار الكتب المصرية» وكانت تابعة وقتها لوزارة المعارف، وكانت حيثيات الأستاذ «القباني» لقراره هو  عدم انتظام الأستاذ «الحكيم» في العمل وغيابه المُتكررْ عن الحضور!!

وقتها قال «عبد الناصر» للأستاذ «القباني» وخلال اجتماع لمجلس الوزراء:

«اذا كنا نعيش في بلد يعرف قيمة مُفكريه مثل الأستاذ الحكيم وغيره من رموز مصر، ويأتي القرار بالفصل من الوظيفة لأسباب غير منطقية، ومن وزير يقوم على التعليم والثقافة، فان هذا المسؤول لا يحق له أن يبقى في موقعه»….

بل أن الرئيس «عبد الناصر» منح الأستاذ «الحكيم» أول تقدير في تاريخ ثورة يوليو لمفكر مصري أو عربي، فقد منحه باسم الدولة المصرية عام ١٩٥٨ قلادة الجمهورية قبل أن تُمنح لأقرانه الكِبّار مثل الدكتور «طه حسين» والأستاذ «عباس محمود العقاد»، وفي عام ١٩٦٠ مُنٍحْ جائزة الدولة التقديرية في الآداب…

كان الأستاذ «الحكيم» له منزلة خاصة وكبيرة في قلب الرئيس، حتى أنه في إحدىّ لقاءاته معه أبدى له مدى التأثير الذي تركته رواية «عودة الروح» في نفسه وروحه، بل في نفس وروح غالبية ثوار يوليو، ومن جانبه دأب الأستاذ «الحكيم» على الإشادة بـ«عبد الناصر» في كل موقف أو مناسبة، إذ ذكر في كل محفل، على التأكيد بأن الرئيس لم يأمر بمنع أي من كتاباته النقدية أو أي عمل كتبه، سواء رواية أو مسرحية أو مقالاً، فقد وجه نقداً واضحاً للنظام السياسي بعد يوليو ٥٢ في مسرحيته الشهيرة «السلطان الحائر: بين السيف والقانون» الصادرة عام ١٩٥٩ وتم تجسيدها كعمل مسرحي على خشبة المسرح القومي التابع للدولة آنذاك، بل أن الأستاذ «الحكيم» واصل أعماله الإبداعية ذات الطابع النقدي الحاد، بأن أصدر في عام ١٩٦٦روايته الشهيرة والمُثيرة للجدل على الصعيد الفني والإبداعي، وهي مسرحية أو رواية «بنك القلق» والتي أطلق عليها فنياً «مسرواية»!! إذ وجه فيها نقداً لاذعاً للأجهزة الأمنية وخصوصاً جهاز المخابرات العامة المصرية وغيرها، وتدخلها في الحريات العامة للأشخاص والجماعات، حتى أن الأستاذ «الحكيم» نفسه أحّسّ بالمستوى النقدي العالي الذي تجاوز ما كان مسموحاً به آنذاك في أشكال التعبير، فأرسلها الى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رئيس تحرير الأهرام  ليأخذ موافقة الرئيس عليها، فما كان من «جمال عبد الناصر» الى أن بادر بإعطاء الموافقة عليها بل وتزكيتها وتحويلها إلى مسلسل في الإذاعة، أكثر الوسائط انتشارا في ذلك الوقت..!!!!

بل أن حالة الاحتفاء التي أبداها الرئيس للأستاذ «الحكيم» عند لقاءه بعدد من مفكري مصر الكبار أمثال الأساتذة: لويس عوض وبنت الشاطئ وحسين فوزي ونجيب محفوظ وإسماعيل صبري عبدالله ولطفي الخولي وغيرهم كان لافتاً للجميع، فقد خصه هو والأستاذ «نجيب محفوظ» باهتمام كبير، خلال زيارة الرئيس للمبني الجديد للأهرام في شارع الجلاء نهاية عام ١٩٦٨…

وعندما انتقل الرئيس إلى رحاب الله في سبتمبر عام ١٩٧٠، بدتْ فجيعة وحزنْ الأستاذ «الحكيم» واضحة بكل صورها، فقد دّعا إلى إقامة تمثال للراحل الكبير على تلك القاعدة الرخامية العملاقة التي كانت تتوسط ميدان التحرير في ذلك الزمان، بل أنه دّعا إلى حملة من الاكتتاب الشعبي لإقامة هذا التمثال، وكان أول المُتبرعين في تلك الحملة، بل أن مؤسسة الأهرام جعلته مُمثلاً لها بل ورئيساً لتلك الحملة…

أتذكر وقتها وفي غمرة الحزن البالغ الذي عّمّ الوطن العربي ومصر والإنسانية على رحيل «عبد الناصر» أن كّتّبّ الأستاذ «الحكيم» تلك الكلمات المؤثرة والحزينة على رحيل الرجل الذي أحّسّنَ  تقديره وخصه بحبه، كتب يقول وفي صدر الصفحة الأولى من جريدة الأهرام التي كان يعمل بها كاتباً مُتفرغاً:

«… أعذرني يا جمال، القلم يرتعش في يدي، ليس من عادتي الكتابة والألم يّلجُم العقل ويُذهِل الفكر، لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تّفجُعاً عليك، لأن كل بيتٍ فيه قطعة منك، لأن كلَ فردٍ قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك»..

هنا انتهت كلمات الأستاذ «الحكيم» الصادقة والبليغة، رغم قِصّرِها وعدم الإسهاب في التعبير والتشخيص، ولذلك كانت المّعاني المُبتسَرة والمُختزَلة كما جاءت في كتيب «عودة الوعي» لنفس الكاتب وذات القلم، صادمةً لكل من أحب الرجل ويعرف قدره في تاريخ الحياة الفكرية والثقافية المصرية والعربية بل والإنسانية، فقد ملأ الأستاذ «الحكيم» حياتنا إبداعاً وتجديداً، حواراً ونقداً، طوال سنوات طوال امتدت ما بين الثلاثينيات من القرن الماضي حتى السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات من القرن ذاته، فقد عاش ما بين «التاسع من أكتوبر عام ١٨٩٨ إلى السادس والعشرين من يوليو عام ١٩٨٧» وبدأت إبداعاته في الانتشار والذيوع عند السنوات الأولى من عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، فكان الكاتب الرائد،  والمسرحي المُجدد في حياتنا، لا يقترب من ساحة إبداعه إلاّ القليل من المُبدعين…

ولذلك فقد أحّدّثّ كتيب «عودة الوعي» معركة فكرية كبيرة في ذلك الوقت، فبقدر سعادة وفرح اليمين السياسي والثقافي المصري، على رغم ضحالته الفكرية والثقافية، بذلك الكتيب، فان اليسار المصري، سّلّكّ مّسّلّكاً موضوعياً ومُحترماً، فقد وجه دعوة الى الأستاذ «توفيق الحكيم» إلى الحوار، وكانت الصداقة العميقة التي كانت تربط الأستاذ «لطفي الخولي» بالأستاذ «الحكيم» سبباً لعقد سلسلة من الحوارات الخصبة والعميقة في مقر مجلة الطليعة اليسارية بمبنى جريدة الأهرام، ونشر كل جلسات الحوار على  صفحاتها، حالة أقرب إلى التفكير «بصوت عّاْلٍ، «كما يقولون» بين الأستاذ «الحكيم» وعدد من مفكري اليسار الكبار، وكان على رأسهم الأستاذ «خالد محيي الدين» الذي جاءت كلماته وتصوراته خلال ذلك الحوار النادر، مّزيجاً نبيلاً بين انتماءه اليساري فكراً وثقافةً ومنهجاً وسلوكاً، وبين تاريخه كواحد من ثوار يوليو الكبار….)

  • تداعيات كتيب توفيق الحكيم:

الكُتيب الذي صدر عن الأستاذ «توفيق الحكيم» في عام ١٩٧٤ وحمل عنواناً لافتاً هو «عودة الوعي» كان بالنسبة لعدد كبير من أبناء جيلي صدمة قاسية ، فقد حمل نقداً مريراً وغير موضوعي بالمرة للتجربة الوطنية والقومية منذ قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وحتى وفاة الرئيس «جمال عبد الناصر» وانتقاله الى رحاب الله في سبتمبر من عام ١٩٧٠.

هذا الكُتيب الذي هلل له اليمين المصري بكل قوة، نظراً لضحالة  هذا القطاع من الناس على صعيد الفكر والثقافة، تّصدىّ له عدد وافر من الكٌتّاب والصحفيين والمفكرين الذين ينتمون إلى معسكر اليسار الوطني المصري، وكانت مداخلاتهم وردودهم على الأستاذ «توفيق الحكيم» على قدر عالٍ من الموضوعية والاحترام والتقدير لشخص مُفكرنا الكبير، فهو عند قِوىّ اليسار المصري والعربي، واحد من جيل العمالقة الكبار الذي رفع راية التنوير في حياة مصر والعرب طوال سنوات القرن العشرين….

فالأستاذ «الحكيم» والأستاذ العميد «طه حسين» والعملاق «عباس محمود العقاد» وباقي تلك السلسلة الذهبية، كان لهم فضل الريادة والقيادة بعد جيل المؤسسين من أمثال «رفاعة الطهطاوي» و «محمد عبده» و «علي مبارك» و «قاسم أمين» وغيرهم، فضلاً عن دورهم الكبير في تجديد فنون الأدب وأصول الفكر والثقافة لتكون مواكبة للعصر الحديث بكل تجلياته وتحدياته…

الحملة الموضوعية والمُحترمة لليسار المصري رداً على كتيب الأستاذ «توفيق الحكيم» تجسدت في أعمال كثيرة وانطلقت من منابر مُتعددة ، أكتفي هنا بذكر بعضها، أولها: ما كتبه عدد من كُتّاب اليسار على صفحات مجلة «روزا اليوسف» الأسبوعية ذات التوجه النقدي اليساري ، وثانيها، ما كتبه الأستاذ «محمد عودة» الكاتب الصحفي والمفكر القومي الكبير، رحمه الله، إذ أصدر كتاباً شاملاً في الرد على الأستاذ «الحكيم» اختار له عنواناً قاسياً، هو «الوعي المفقود» مٌنطلقاً من قول «الحكيم» عن نفسه، بأن «…سحر عبد الناصر وشخصيته الآثرة، الكاريزمية، لم تأخذ بعقله فقط، ولكن سلبت عقل الأمة بأكملها طوال سنوات حُكمه…..»!!!

كلمات وجد فيها الأستاذ «عودة» مُدخلاً لكتابه، الذي أحسبهُ واحداً من أهم ما كّتبّ هذا المفكر القومي الكبير، بالإضافة طبعاً إلى كتابه الرائع عن ثورة يوليو ١٩٥٢، والذي حمل عنواناً مُعبراً هو «ميلاد ثورة»، فالكتابين يشكلان معاً موسوعة تاريخية موثقة لثورة يوليو وقائدها، نجح فيهما الأستاذ «محمد عودة» في الربط بين ثورة يوليو وبين الثورات التي سبقتها في تاريخ مصر الحديث ابتداءً من الثورة العُرابية وحركات النهضة الوطنية والفكرية التي سبقتها، مروراً بثورة ١٩١٩، ووصولاً إلى سنوات المواجهة الوطنية الممتدة بين ثورتي «1919و1952»، فضلاً عن رصد الأستاذ «عودة» لمعارك الثورة وتحدياتها الكبرى طوال سنوات القيادة «الناصرية».

أما المواجهة الثالثة، فقد حمل لواءها الأستاذ «لطفي الخولي» ومجلة الطليعة اليسارية التي كان يرأس تحريرها، والصادرة عن مؤسسة الأهرام العريقة، حيث دعا الأستاذ «الحكيم» إلى مناقشته عما جاء في كُتيبه «عودة الوعي» والحوار معه، بوصفه أحد أعلام الفكر والثقافة والتنوير في تاريخ مصر الحديث.

بدأت أعمال هذه السلسلة من حلقات الحوار في شهر ديسمبر من عام ١٩٧٤ وامتدت حتى شهر يونيو من العام التالي، عام ١٩٧٥، وبدأت مجلة الطليعة في نشرها على صفحاتها خلال هذه الفترة، حيث بلغت تسع جلسات من الحوار العميق والمُدعم بشهادات تاريخية موثقة من كلا الجانبين، الأستاذ «الحكيم» وفريق من أعلام اليسار المصري، والذي حرص الأستاذ «لطفي الخولي» أن يضم عدداً كبيراً من رموزه الذين يمثلون تياراته على أكثر من صعيد، فكان منهم الأستاذ الجامعي والفيلسوف والاقتصادي والمفكر السياسي.

ضم الفريق المحاور الأساتذة «خالد محيي الدين» عضو مجلس قيادة ثورة يوليو وصديق عبد الناصر، والدكتور «فؤاد مرسي» الاقتصادي الكبير والوزير السابق والمؤسس التاريخي للحزب الشيوعي المصري نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، والمفكر القومي «أحمد عباس صالح» رئيس تحرير مجلة الكاتب المصرية ذات الاتجاه العروبي، والدكتور «عبد العظيم أنيس» عالم الرياضيات الشهير والكاتب اليساري الكبير، والدكتورة «لطيفة الزيات» أستاذة الأدب الانجليزي المرموقة، والأستاذ «محمد سيد أحمد» أحد أبرز خبراء السياسة الدولية في تاريخ العرب الحديث، والأستاذ «أبو سيف يوسف» المفكر اليساري المعروف ومدير تحرير مجلة الطليعة، فضلاً عن الدكتور «مراد وهبة» أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس المصرية، وواحد من أبرز علماء الفلسفة العرب على مستوى العالم…

مجموعة كبيرة متنوعة ومؤثرة ، وكل منهم يمثل عَلَماً وصرحاً شامخاً في مجاله، غير أن اللافت للنظر أن تلك الحوارات رفيعة المستوى لّقيت في حينها تجاوباً كبيراً من القارئ المُثَقَّف والعادي، الأكاديمي المُتخصص أو صاحب الدرجة التعليمية والعلمية المتوسطة.

كانت تعليقات القراء غزيرة ومتنوعة وثرية، كانت نموذجاً للحوار الموضوعي على كل صعيد، فشهادة الأستاذ «توفيق الحكيم» ترجع أهميتها إلى أنه كان أباً روحياً لثورة ٢٣ يوليو، فضلاً عما كانت تربطه بالرئيس «عبد الناصر» من مشاعر الود والاحترام المُتبادل، فـ«الحكيم» هو القائل عن «ناصر»: «إنه قرأني وتأثر بي إلى حد أن وصفته بعض الكتب الأجنبية بأنه تلميذ أفكاري، وكان من مصلحتي الشخصية، أن استغل هذه الصفة و أضخمها بتضخيم منجزاته…».

لكن الأستاذ «الحكيم» يُضيف مُستدركاً بالقول «إن الاشتراكية التي تحققت كانت محدودة، كانت أقل من طموحاته، وآمال الشعب فيه»!!

تلك كانت كلمات الأستاذ «الحكيم» رغم الملاحظات عليها، سواءٌ من حيث المضمون أو حقيقة ما قالهُ على أرض الواقع.

وفي المقابل، فإن الأستاذ «خالد محيي الدين» والذي ترأس الفريق اليساري المحاور، اكتسبت شهادته قيمتها من واقع أنها رؤية من الداخل، رؤية لضابط أركان حرب في سلاح الفرسان، أي المدرعات، شارك عبدالناصر في حمل هموم الوطن والبحث عن طرق للخلاص والحرية، فكان عضواً مؤسساً لأول خلية شكلها «ناصر» لحركة الضباط الأحرار التي قامت بثورة يوليو، وعضو مجلس قيادتها، فضلاً عن صداقته المُمتدة والدائمة بقائد الثورة حتى السنوات الأخيرة من حياته، وحتى رحيله في عام ١٩٧٠، رغم أنه أحد الذين اختلفوا مع عبدالناصر في تاريخ مُبكر، وترك مكانه في مجلس قيادة الثورة عام ١٩٥٤ وخلال أزمة آذار/ مارس، تلك الأزمة العاصفة التي دارت حول المستقبل السياسي للبلاد، والتي تمحور الخلاف حولها بين الاختيار، بين الاستمرار بالثورة واستكمال برنامجها كما عبرت عنه في أهدافها الستة، أو العودة الى ثكنات الجيش وتسليم زمام البلاد إلى أحزاب فشلت في إنجاز الاستقلال الوطني وتحقيق العدالة الاجتماعية؟

كان ذلك الحوار الموسوعي والشامل لتجربة الثورة، وخلال قيادة «عبدالناصر» لها، هو الحوار الأهم في تلك السنوات العاصفة من عقد السبعينيات، والتي انطلق خلالها الإعلام «الساداتي» في تشويه كل من ينتمي إلى عبدالناصر وثورة يوليو، فقد أخذ الكثير منهم من تلك الحالة الجنونية التي أصابت اليمين المصري من حرب تشرين الأول/ أكتوبر، منصة انطلاق للهجوم على الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وحروب السيادة الوطنية في مواجهة الغطرسة الامريكية، والدعوة إلى سياسة الانفتاح «انفتاح السداح مداح» على رأي كاتبنا الكبير «أحمد بهاء الدين».

وجد هؤلاء من زعماء اليمين وأصحاب الملايين ومروجي الإسفاف في الفكر والثقافة، فرصة لهدم الوطن على رؤوس فقرائه، حتى أسماهم الأستاذ «لطفي الخولي» في أحد افتتاحيات مجلة الطليعة «العابرين مع العبور» موجهاً الاتهام لهم بالمنطق والدليل، أنهم من سرق نصر أكتوبر وتاجروا بدماء الشهداء.

كان الأستاذ «خالد محيي الدين» هو المُعادل الموضوعي للأستاذ «توفيق الحكيم»… (فبقدار ما كان صاحب «عودة الروح» قائداً كبيراً  في معسكر التنوير في حياة الوطن، كان «محيي الدين» زعيماً لليسار المصري والعربي، القائد المُختار والمُناضل المُثَقَّف، فضلاً عن كونه «الفارس النبيل» من ثوار ثورة يوليو، وصديق قائدها العظيم…)

  • الحوار حول الكتيب:

(… الحوار الموضوعي والشامل الذي دعا اليه الأستاذ ” لطفي الخولي ” وضم عدداً وافراً من مفكري اليسار، ليحاوروا ويناقشوا الأستاذ ” توفيق الحكيم ” فيما ورد بكتيبه ”عودة الوعي” الصغير الحجم والقيمة، هذا الحوار الهام قيَّضَ الله له أن يكون أحد أهم الوثائق التي تُجسد رؤية اليسار بمختلف تياراته السياسية والفكرية، بنشره عَلى صفحات مجلة الطليعة اليسارية الشهرية عَلى مدى سبعة أعداد، ولكن الأهم هو ما ورد عَلى لسان الأستاذ ” الحكيم” سواء خلال جلسات الحوار أو ما تضمنه البيان الختامي الصادر عن هذا الحوار، فإنه يُمِثلْ تّراجُعاً لمفكرنا الكبير عّمّا ورد في كُتيبه السابق من آراء اتسمت بالخفة والتّسرُعْ عَلى غير ما هو معروف عنه من الفحص والدقة، بل والحذر فيما يّكتُب!!.

هذا الحوار الهام، كان له نصيب آخر من النجاح إلى حد الاكتمال، فقد سارع الصحفي اللبناني الكبير ”فؤاد مطر” العاشق لمصر والمُحب لليسار المصري، بأن أصدر عن داره  ”دار القضايا” ببيروت، هذا الحوار بين دفتي كتاب وصلت صفحاته إلى ” 500 ” صفحة، وتوافر فيه كل الأسس العلمية للنشر، من إضاءة تعريفية بالمُشاركين، فضلاً عن فهرس وكشاف تفصيلي بالأحداث والوقائع والتواريخ والشخصيات التي ورد ذكرها في هذا الحوار الخطير…

الحوار دار عَلى تسعة جلسات، كانت عناوينها كالتالي:

دراسة موضوعية وليس محاكمة الناصرية، عن مصر المستقبل، نقاط الاتفاق ونقاط الخلاف، مع فكر الثورة، سلبيات التجربة الناصرية، ما الذي يبقى من الناصرية؟، بحثاً عن الطريق المصري إلى الاشتراكية، الحرية والاشتراكية والوحدة، ثم الجلسة التاسعة والأخيرة كان عنوانها ” مصر المستقبل في الزمان والمكان “، فضلاً عن البيان الختامي الصادر عن الندوة، والذي تم صياغته من لجنة ثلاثية ضمت الأساتذة” توفيق الحكيم وخالد محيي الدين وأبو سيف يوسف ”

بمجرد الاطلاع العام على هذا الكتاب الوثيقة يُدرك القارئ، أنه أمام نص تاريخي نادر، فمن خلاله تستطيع معرفة أفكار ورؤية كل هؤلاء، من مدارس اليسار المختلفة، فضلاً عن رؤية الأستاذ ” توفيق الحكيم ”، ولذلك سأتوقف عند محطات رئيسية مُحددة، فلا مّفر لمن كان له اهتماماً بالحركة الوطنية المصرية سوى اقتناء هذا الكتاب- الوثيقة، أو العودة لأعداد مجلة الطليعة الصادرة في تلك الفترة…

يبدأ الأستاذ ”لطفي الخولي” بشرح الأسباب التي دعته للتفكير في ذلك الحوار مع الأستاذ ”الحكيم” وأهمها تقدير اليسار المصري للرجل بوصفه أحد أهم أعلام الاستنارة في تاريخ مصر المعاصر والحديث، ولذلك توجه بالطلب من كُل من ”خالد محيي الدين وتوفيق الحكيم” أن يتحدثا في البداية، وأن يقوم كل واحد منهما بعرض رؤيته، وهو ما أسماه، الأستاذ ”الخولي” بـ ”الفرشة الفكرية والسياسية“.

وهكذا تكلم ”خالد محيي الدين” برؤية شاملة لم تتوفر حتى في مذكراته ”الآن أتكلم” لأن حديثه جاء متجاوزاً تلك السنوات التي توقفت عندها تلك المذكرات، قال:

” أنا في الحقيقة في غنى عن التقدير الكبير للأستاذ ”توفيق الحكيم”، ولذلك لن أتوقف طويلاً عند هذه القضية، أما بالنسبة لكتاب ”عودة الوعي” فإنّ الضجة التي صاحبته وقت ظهوره، ترافقت مع حملة شرسة من اليمين ضد عبدالناصر، محاوَلةً منهم لشطب التاريخ كله، وبرغم أني اختلفت مع عبدالناصر في آذار/ مارس 1954 وتركتُ مجلس قيادة الثورة، لكن الموضوع هنا مُختلف، هو موضوع التجربة الوطنية المصرية، هذه قضية أخرى، قضية تتجاوز خلافات الأفراد، هي قضية وطن ومستقبل وشعب ”…

وأضاف ”محيي الدين” قائلاً ”موجهاً حديثه للأستاذ ”الحكيم” قائلاً له:

” انّ قبولك لتقييم التجربة، وحديثك مع اليسار، ينفي بتاتاً فكرة أنك تريد لليمين أن يستفيد من هذا الأمر ”…

وبعد ذلك التمهيد الافتتاحي، تناول الأستاذ ”خالد محي الدين” القضايا المركزية في مسيرة الثورة ومسارها وفكرها ومعاركها بصورة شيقة للغاية، بقدرٍ عالٍ من الموضوعية والصدق، فضلاً عن يساريتها التي لا جدال فيها، حيث تحدث عن الواقع السياسي والاجتماعي قبل ثورة يوليو، والتكوين الطبقي والأيديولوجي لثوار يوليو، والحديث عن العودة لدستور 1923 ودور عبدالرزاق السنهوري وسليمان حافظ ووحيد رأفت، رجال القانون الذين استعانت بهم الثورة في محاولة لحل مشكلات دستورية وقانونية مُتعددة، وكان من بينها خروج الملك وقوانين الإصلاح الزراعي، ودور النُخبة المصرية غير المُرحبة بالديمقراطية، وتحديداً جمعية الرواد، والتي كانت تضم أسماء كبيرة مثل: الدكتور أحمد حسين وعبدالجليل العمري وعباس عمار وفؤاد جلال وإسماعيل القباني، وهؤلاء كانوا يعتبرون أن حكم الوفد، هو ”حكم رعاع” ليس فيه أي كفاءات…

ويصل ”محيي الدين” في شرحه الرائع والوافي إلى ظروف وملابسات صدور قوانين يوليو الاشتراكية عام ١٩٦١ وتأثيرها الخطير والجذري والثوري في الواقع المصري، ودورها في بناء طبقة اجتماعية جديدة من العمال والفلاحين، وهو ما يُعرف بالطبقة الوسطى والتي تُعتبر تطوراً اجتماعياً كبيراً في حياة مصر، طوال تاريخها الحديث والمُعاصر، وذلك التغيير الطبقي الهائل والكبير الذي أحدثته مجانية التعليم من تّطور  الوعي السياسي والثقافي، فضلاً عن المساواة  في تكافؤ الفرص الذي لم تعرفه مصر من قبل”…

بعد ذلك تكلم الأستاذ ”توفيق الحكيم” فقال:

” أنا كنت مُتحمساً للثورة بإنجازاتها، وأن عبد الناصر هو الرجل الذي انتظرته من ثلاثين سنة، وكمان كنت غير راضٍ عن نظام الأحزاب، ولذلك التقيت مع الثورة في وقت بدري، في السنوات الأولى من قيامها”…

غير أن الأستاذ ”الحكيم” يكشف مدى قربه من الرئيس ناصر، ليدلل عَلى صدق نواياه تجاه عبدالناصر، بسرده لتلك الواقعة:

” بعد صدور الميثاق الوطني عام 1962 تحدثتُ إلى بعض الأصدقاء لينقلوا كلامي إلى الرئيس، وقلت لهم، أن عبدالناصر يتحمل مسؤوليات لا يستطيع أن يتحملها فرد بمفرده، فَلَو واحد حب يشتري بطيخة، ولو طلعت قرعة، يمكن يشتم عبدالناصر!!، وقلت لهذا الصديق، وهو من هؤلاء الأصدقاء المقربين من الرئيس، لماذا لا تبّلغه أن يُنظم ضغط الجماهير، فيعمل حزبين، والشعب عندما يغضب يَصْب غضبه عَلى الحزب الموجود في الحكم، ويأتي بالحزب التاني، وقد قيل لي أن كلامي هذا نُقلّ الى عبدالناصر، فقال: لكن أخشى أن تُحدث صراعات في البلد ويعطلون البلد، ويصبح شاغل كل حزب أن يحطم الحزب الآخر، وزمان كان التطاحن في البلد بهذا الشكل، وهو ده اللي خلانا نقوم بالثورة، طبعاً بجانب حاجات تانية”…

على مدى صفحات هذا الكتاب- الوثيقة والذي انتهى ببيان ختامي وافق عليه الأستاذ ”الحكيم” وبوصفه واحداً ممن  صاغه مع الأستاذين ”خالد محيي الدين وأبو سيف يوسف” اتفق كافة المتحدثين عَلى مجموعة من المبادئ الوطنية والتقدمية الواضحة منها:

” أن الهدف الأسمى هو مصر، وضمان بنائها، وتأمين تقدمها، وتحقيق الرخاء للغالبية العظمى من أبنائها، لكل الطبقات الشعبية والوطنية، ويؤكد المشاركون عَلى أن بناء دولة عصرية واشتراكية، تستند إلى قاعدة اقتصادية متينة من الصناعات الحديثة والزراعة المتطورة، هذا البناء يجب أن يستند عَلى ركيزتين مُتلازمتين، بالضرورة، ومترابطتين: الأولى هي سيادة الديمقراطية، والثانية: هي سيادة العقل”.

جميع المتحاورين، تحدثوا بصدق وموضوعية وعلم، محمد سيد أحمد بعبقريته، وفؤاد مرسي بعلمه الراسخ، ولطيفة الزيات بثقافتها الموسوعية، وأحمد عباس صالح بعروبيته، وعبدالعظيم أنيس بجذريته، وأبو سيف يوسف بهدوئه الإنساني وحكمته السياسية، ومراد وهبه برؤيته الفلسفية الشاملة، ثم لطفي الخولي بقدرته الفذة عَلى إدارة حوار خصب ووطني وتاريخي بين كل هؤلاء الكبار….).

ـــــــــــ

* باحث وكاتب وصحفي مصري

المصدر: أصوات أونلاين

التعليقات مغلقة.