الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

دراسة لـ«محمود أمين العالم»(*) ينتقد فيها أطروحتي «رأسمالية الدولة والديمقراطية» في تقييم ٢٣ يوليو

كانت وستظل الثورات الكبرى في التاريخ مثل ثورة تموز/ يوليو ١٩٥٢ حقلًا خصبًا للتقييمات والمراجعات المتباينة بل والمتناقضة حسب المنظور الفكري والطبقي والموقع المحلي والإقليمي والدولي من هذه الثورات. ويُعد من أهم وأعمق التقييمات المتباينة التي تعرضت لها ثورة يوليو ما قدمته فصائل وأجنحة مختلفة من التيار الماركسي المثقف لها.

وفي الذكري الـ٦٩ لثورة يوليو نُعيد في { أصوات } نشر جزء من دراسة عميقة كتبها المفكر الماركسي البارز د. محمود أمين العالم ونشرت في كتاب صدر عام ٧٤- أي بعد وفاة واختفاء سلطة عبدالناصر وقدرتها علي الثواب والعقاب بأربعة أعوام كاملة- ويقدم فيها نقدًا علميًا [ لمقولتي رأسمالية الدولة والعداء للديمقراطية ] اللتين رددتهما أجنحة ماركسية أخرى ومازالت لتنزع من خلالها عن الثورة (1952 – 1970) طابعها التقدمي الاشتراكي ولا تضع في حسابها ما أنجزته في مجال الديمقراطية الاجتماعية وتركز فقط علي غياب الديمقراطية السياسية- أحياناً كما يقول ’العالم‘- باستخدام معايير رأسمالية وليست اشتراكية.

اللافت للنظر أن أراء الدكتور ’العالم‘ أصبحت- مع نضج الخبرة السياسية وتراجع أمد الخصومة التاريخية- هي أساس الموقف السياسي العام من ثورة يوليو- مع تفاوتات نسبية- للأحزاب الأربعة الماركسية المهمة سواء المرخص لها أو تحت التأسيس وهم أحزاب التجمع والتحالف والاشتراكي المصري والشيوعي المصري. وإن كان هذا لا يقلل من أهمية أو عمق تقييمات مدارس ماركسية أخرى منظمة أو مستقلة أفرادًا أو جماعات في تبنيها لمواقف متشددة من ثورة تموز/ يوليو.

وإليكم جزء من دراسة الدكتور محمود أمين العالم..

قد يكون من الضروري قبل أن اختتم هـذه الدراسة أن أعود قليلاً إلى الوراء· لأناقش مناقشة سريعة قضيتين مهمتين يثور حولها الخلاف دائماً هما: أ- قضية رأسمالية الدولة و ب ـ قضية الديمقراطية.

أ ـ رأسمالية الدولة:

يذهب كثير من الدارسين إلى اعتبار ما تحقق من تأميمات عام 1960 – 1961 وما بعدها، ومن قيام قطاع عام لم يكن إلا رأسمالية دولة تخدم النظام الرأسمالي المصري. بل يذهب البعض إلى أن قيام الثورة عامة منذ 1952 لم يكن هدفــه إلا حماية النظام الرأسمالي المصري الذي كان يترنح في هذا العام . أي أن ثورة جمال عبدالناصر لم تكن ثورة وإنمـا مجرد انقلاب لحماية النظام الرأسمالي ومواصلة طريق التنمية الرأسمالية بطريقة أشد كفاءة، والقائلون بهذا الرأي إنمـا يُغفلون حقيقة أساسية هي قانون الصراع فضلاً عن إغفالهم لكثير من العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنهم يستندون أساساً فيما يذهبون إليه إلى استشراء البيروقراطية في القطاع العام وتحالفها مع الفئات الطفيلية في القطاع الخاص وهذا حق، ولكنه حق قاصر. لأنهم لا يرون ما وراء هذه الظواهر من عوامل موضوعية أفرزتهـا- على الرغم من الثورة -، لا بفضلها وتشجيعها- وما كان يحيط بهذه الظاهرة ويواجهها من صراع محتدم داخل جهاز السلطة، وفي مؤسساتها السياسية والإعلامية، وفي المجتمع عامة. كانت السلطة الجديدة تهدف إلى الاستقلال الوطني وإلى التعجيل بالتنمية، و كانت تتحرك بغير تنظيم سياسي ثوري، بل في عداء مع التنظيم الثوري كما أشرنا من قبل، ولهذا لم تتمكن منذ البداية من تحطيم جهاز الدولة القديم، ولم تستطع أن يكون لها كادرها السياسي الواعي الذي يحقق لها أهدافها. ولقد استغلت البيروقراطية القديمة والجديدة هذا الوضع. ولكن هذا لم يكن تعبيراً عن الطبيعة الطبقية لقيادة الثورة، أو تجسيداً لأهدافها، بل كان نقيضاً لها ولهذه الأهداف، بل كان قوة معرقلة للتنمية التي تستهدفها قيادة الثورة ومعادية لأهدافها. لهذا كان الصراع داخل قيادة الثورة وبين هذه الظاهرة بل لهذا كذلك كان الصراع داخل قيادة الثورة بشأن هذه الظاهرة، وكان الفرز المتصل لعناصرها وأفرادها. على أنه كان صراعاً خافتا، نتيجة للعوامل التي ذكرتها مـن قبل ونتيجة لحرص الثورة على التعجيل بالتنمية دون توفر الكوادر السياسية الثورية القادرة على ذلك. خلاصة الأمر أنه الخطأ أن نعتبر ظاهرة البيروقراطية وتحالفها مع القطاع الطفيلي هي ظاهرة معبرة عن طبيعة قيادة الثورة وفلسفتها الاقتصادية والاجتماعيـة. إنها ظاهرة موضوعية ولكنها نقيضة للثورة. ولعل المحاولات المختلفة التي بذلتها قيادة الثورة، وخاصة جناحها اليساري بقيادة عبد الناصر، من إعـداد للكادر الثوري والإداري، وتنمية للتنظيم الطليعي، أن يكون تأكيداً لهذا الطابع الصراعي بين هذه القيادة وبين هذه الظاهرة البيروقراطية.

أما القول بأن الثورة قد قامت من أجل حماية النظام الرأسمالي ودعمه فهو قول قاصر كذلك عن إدراك التجربة الناصرية في ديناميكيتها التاريخية. فالذي يحدث في العـادة لدعم النظام الرأسمالي هو تأميم بعض المؤسسات الاقتصادية الخاسرة لا التأميم العام للوسائل الأساسية للإنتاج كما حدث في التجربة المصرية، ولو كان هدف الثورة حماية النظام الرأسمالي ودعمه لقام عام 1957 – 1958 ببيع المؤسسات البريطانية والفرنسية والبلجيكية للرأسمالية المصرية كما كانت تريـد. ولكن الذي حدث أن وجهت الثورة ضربات قاصمة للملكية الزراعية الكبيرة، وللرأسمالية الكبيرة ووضعت حداً أعلى للمُلكية، وأقامت حاجز في وجه التنمية الرأسمالية وخاصة في الوسائل الأساسية للإنتاج. إلا أنها في الحقيقة اكتفت بالضمانات التشريعية والإدارية ولم تهتم بالضمانات الديمقراطية. فالتأميمات الكبرى عام 1960 – 1961 وما بعدها، بل الضرائب التصاعدية العالية، لم تمنع من استمرار التراكم الرأسمالي لفئات البورجوازية الطفيلية، فضلاً عن البورجوازية الزراعية، والبيروقراطية. على أن هذا التراكم لم يتحقق بفضل هذه الإجراءات التأميمية، بفضل خطة الثورة، وإنما برغمها. كان الضمان الأساسي لوقف هذه التنمية الرأسمالية هو الضمان السياسي الديمقراطي لا الضمان التشريعي الإداري وهذا ما لم تحققه الثورة، نتيجة كذلك للظروف الموضوعية التي أشرنا إليها من قبل، وإن أخذت تنتبه إليها أخيراً. على أنه لا شك أن التأميمات وقيام القطاع العام الإنتاجي والاستهلاكي، لم تكن لمصلحة النظـام الرأسمالي المصري، وإن استفادت منه الرأسمالية المصرية ضمناً، وإنما كان لمصلحة التنمية المعجـلة أساساً، وحدّاً للنمو الرأسمالي- برغم ثغراته- وتمهيداً لطريق التحول الاشتراكي لو أحسِن سد هذه الثغرات.

ب- الديمقراطية:

أما فيما يتعلق بقضية الديمقراطية، فليس من شك أن تجربة عبد الناصر لم تكن تجربة معادية للديمقراطية كما يقال. وإنما كانت تجربة ديمقراطية محدودة بحدود ملابساتهـا الذاتية والموضوعية. إننا لا نستطيع أن ننكر الطابع الديمقراطي لهذه التجربـة، لو أدركنا الديمقراطية بمعناها السياسي والاجتماعي معاً، لا بمعناها الليبرالي السياسي الخالص. ولقد قال ’لينين‘ ما معناه أنه من الخطأ أن نحكم على سلطة من زاوية الديمقراطية الشكليـة وحدها. إنما الحكم عليها يكون من زاوية موقفها من الإمبريالية. ومعاداة ثورة عبدالناصر للإمبريالية لم يكن مجرد موقف وطني تحرري فحسب، بل كان كذلك موقفاً معاديـاً للرأسمالية والرجعية العالمية والعربية والمحلية، وهو بهذا يحمل مضموناً ديمقراطياً متقدماً فضلاً عن مضمونه الوطني التحرري . ولم تكن الاجراءات الاقتصادية والاجتماعيـة الـتي اتخذتها ثورة عبدالناصر مجرد إجراءات اقتصادية متقدمـة فحسب، بل كانت تتضمـن دلالات ديمقراطية كذلك مثل القضاء على الملكية الزراعية الكبيرة، والرأسمالية الكبيرة، والارتفاع النسبي للملكيات الصغيرة. وفضلاً عن هذا، فهناك الاجراءات ذات الطابع الديمقراطي الخالص حتى بالمعنى الشكلي مثل حق العمال الزراعيين في تشكيــل اتحادهم لأول مرة في تاريخهم، والتوسع في تكوين الجمعيات التعاونية، ومشاركة العمال في مجالس إدارة الشركات.

ولا شك أن مجانية التعليم وإشاعة الثقافة الوطنية الديمقراطية والمفاهيم التقدمية المعادية للاستعمار والاستغلال جوانب ديمقراطية تنسب للتجربة. حقاً، إن هذه جميعاً لا تشكل القسمات الأساسية للديمقراطية المنشودة. بل كان إلى جانبها العداء للشيوعية والشيوعيين، والسلطة المستشرية للمباحث والمخابرات العامة. وكان هناك الاعتقـال والتعذيب. على أن هذه الأمور ينبغي أن تدرك في ظروفها الذاتية والموضوعية لا لتبريرها وإنما لتفسيرها، وينبغي ألا تغض من الجوانب الديمقراطية الأخرى للتجربة. ولا ينبغي أن يكون البديل هو تلك الديمقراطية الليبرالية الشكلية العرجاء التي تطلقها قوى الرجعية الزراعية والرأسمالية والفكرية لطعن كل إيجابيات ثورة جمال عبدالناصر، بل لإهدار طريق استقلالها واقتصادها الوطني وتقدمها الاجتماعي، وثقافتها التقدمية. لعلي أقول في غير مغالاة، أن الديمقراطية المنشودة- والتي ما تزال منشودة- تتحقق بالتحالف الوثيق بين اليسار الناصري والشيوعيين المصريين وكل القوى الوطنية والديمقراطية في المجتمـع المصري، فضلاً عن التحالف الوثيق مع كل القوى الثورية في العالم العربي، هذا إلى جانب إطلاق حرية الطبقات الشعبية وخاصة العمال والفلاحين لتشكيل اتحاداتهـم الديمقراطيـة والمشاركة الفعالة في توجيه مقدرات بلادهم. كانت الديمقراطية بهـذا المفهوم الثـوري هي الحلقة الأساسية الناقصة في تجربة جمال عبدالناصر، وما تزال حلقة النجاة الأساسية في مواصلة هذه الثورة لمسيرتها.

(*) الناقد والفيلسوف والمفكر الماركسي المصري البارز

المصدر: أصوات أونلاين

التعليقات مغلقة.