الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

23 تموز: ثورة المستحيل

د. عبد الناصر سكرية *

واحد وخمسون سنة على اغتيال جمال عبدالناصر وما تزال حروب شاملة ضروس توجه سموم حقدها وعدائها لقائد ثورة مصر الناصرية؛ ثورة العرب الكبرى والأولى لتحرير الأرض والإنسان وبناء وطن العزة والكرامة. فلماذا كل هذا ومن يقف وراءه وماذا يريد؟؟

ان اجتماع كل أعداء التقدم العربي على محاربة جمال عبدالناصر وثورته في حياته وعلى تشويه تجربته منذ مماته؛ لهو دليل علمي قاطع على سلامة نهج التجربة الاستراتيجي وصوابية منطلقاتها وتوجهاتها معاً؛ لجهة انتمائها إلى إرادة الأمة العربية والتعبير الأمين عن مصالحها وتطلعات شعوبها… (علماً ان هذه الحرب العدوانية لم تهدأ ولم تتوقف منذ أيام الثورة الأولى يوم اتضحت القسمات العامة لمساراتها الوطنية الاستقلالية)..

إنه دليل عملي علمي موضوعي على قيمة ما أنجزت وما بنت على كل المستويات لمصلحة التقدم العربي والاستقلال الوطني..

لو لم يكن هؤلاء المتكالبون الحاقدون، من أعداء التقدم العربي والنهضة العربية؛ لوجب علينا الرد على طروحاتهم وانتقاداتهم الكثيرة للثورة وما أنجزت.. من موقع التفهم والتفاهم..

لو لم يكونوا رافضين لمنطلقات  الثورة ذاتها قبل عدائهم  لنهجها وإنجازاتها؛ لحق لهم ما يقولون ووجب علينا سماعهم وفهم ما يسوقون من انتقادات ولو وصلت حد التشكيك والاتهام.. وجب علينا الفهم والتحليل وصولاً إلى معرفة الحقيقة.. وبالتالي التوافق معهم  ومع كل المتوافقين في المنطلقات المختلفين في التفاصيل والمواقف..

أما وأن جميع من يهاجمون التجربة ويشوهون في مسيرة قائدها؛ ينتمون الى مواقع تعادي جميع المنطلقات الاستراتيجية للأمة ذاتها وليس لجمال عبدالناصر أو مواقفه السياسية وانجازاته الاقتصادية وانحيازاته الاجتماعية؛ فإن الأمر يستدعي وقفة وتأملاً عميقاً لمعرفة حقيقة دوافعهم ومواقفهم وانحيازاتهم هم أيضاً..

إن معاداة الوجود القومي للأمة ومتطلبات تجسيده في وحدة سياسية يتمتع في ظلها الشعب العربي بحرياته الكاملة ويُسخر موارده لتنمية مجتمعه وتطوير حياته ومواجهة أي عدوان عليه من أية جهة أتى؛ يجعل الذين ينساقون في ركابه أعداء للحرية ذاتها وللتقدم ذاته وللمستقبل العربي الأفضل.. وبالتالي فهم ينتمون إلى معسكر أعداء الثورة الألداء فلا يُتوقع منهم أي موقف إيجابي من الثورة ومن مسيرتها؛ وكل معارضاتهم لها إنما هي تعبير عن رفضها من الأساس وليس تعبيراً عن رغبة في تصحيح أخطائها وتدارك ثغرات تجربتها وسلبياتها أو تعزيز إيجابياتها وترشيد خطواتها بالنقد الإيجابي البناء..

من هم هؤلاء الذين لا يرون خيراً في تجربة جمال عبدالناصر فيتهمونها بشتى التهم والافتراءات بدءاً من تبديد امكانيات مصر إلى الفشل في كل المعارك والميادين إلى القمع والاستبداد إلى الكثير من التخرصات التي تهدف إلى فض ذلك الالتحام التاريخي بين الشعب والتجربة وقائدها ثم إلى تبرير التخلي عن منجزاتها بل تدميرها وصولاً إلى اقتلاع ذلك الانصهار الوجداني الفريد من نوعه بين ضمير الشعب العربي وقائده الرمز.. تسهيلاً لهم وتمكيناً لعدوانهم على الأمة ذاتها.. فالأمة هي المستهدفة في مواردها ومكانتها ووجودها وما استهداف جمال عبدالناصر إلا لأنه قائد ثورتها الكبرى الى النهضة والتحرر والاستقلال وغــدا رمزاً لكل ذلك ودافعاً إليه ومحرَضاً عليه حتى وهو في ديار الحق..

فمن هي تلك القوى وماذا تريد؟؟ وكيف كانت خريطة الواقع العربي عشية ثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢؟؟

١ – الوضع الرسمي العربي:

بعد فشل محاولات التحرر العربي من السلطة العثمانية وفشل محاولات الاستقلال في دولة عربية واحدة؛ خضعت المنطقة العربية للاحتلال الأجنبي بالكامل تقريباً. فتوزعت بين احتلال فرنسي وآخر بريطاني إنجليزي وبعضه إيطالي وآخر إسباني محدود..

كان هذا التقاسم بين القوى الاستعمارية سبباً مباشراً لتقسيم الأرض وإقامة دويلات وكيانات تجزيئية وظهور دويلات متعددة بدلاً من دولة واحدة تجمع العرب ليبنوا مستقبلهم وفق تطلعاتهم التحررية النهضوية المستقلة..

وفي فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت جميع الأرض العربية محتلة من الدول الكبرى لذلك الزمن، وتحديداً فرنسا وبريطانيا.. (ما عدا بعض أجزاء الجزيرة العربية).. في تلك الفترة أنشأت دول الاحتلال أدوات لها محلية من أبناء بلاد العرب وأشباه العرب: دربتها، نظمتها، أسست لها قاعدة اقتصادية من موارد البلاد المحلية أو عبر تجارة خارجية ووكالات أجنبية وأتبعتها بنهجها السياسي وعقلها الثقافي فصارت تابعة لها تماماً تأتمر بأمرها وتلجأ إليها في الكبيرة والصغيرة بعد أن باتت تعرف المهام المطلوبة منها والحدود التي يمكنها التصرف فيها.. وبعد الحرب الثانية انسحبت معظم الجيوش الأجنبية من كثير من الأرض العربية وسلمت السلطة فيها لتلك القوى التي سهرت على تنشئتها وتأهيلها.. وأنشأت لها دولاً مستقلة ذات أناشيد وأعلام ومؤسسات ودساتير وجيوش وخدم وحشم وتُدق لها الطبول والبرظانات وتحشد لها الفرق الموسيقية وتطلق على متنفذيها أسماء كبيرة توحي بعظمة وأبهة تثير الحسد وشهيات الرعية. وهكذا صارت هذه الدول في حقيقتها  بمثابة أذرع محلية تنوب عن القوى الأجنبية التي صنعتها؛ فيما تحاول إظهار عضلاتها كدول مستقلة ذات سيادة تقرر وتريد أو تفعل ما تريد لاستلاب عقول الناس وتسخيرهم أو سوقهم في تنفيذ ما هو مطلوب منها فعله.. وكانت أخطر مهماتها تحويل تقسيمات سايكس- بيكو الورقية النظرية إلى حدود عملية ميدانية.. وقد برعت تلك الدول، أو ما يسمى في الفكر السياسي العربي المعاصر أنظمة سايكس- بيكو أو الإقليمية العربية، برعت في تنفيذ تلك المهمة المهولة فزرعت من الحواجز النفسية والجغرافية واتخذت من المراسيم والإجراءات القانونية والجمركية والتعليمية ما صنع فجوات كبيرة في التواصل بين أبناء البلاد وأركس عمليات التفاعل الوطني- القومي بينهم ثم تمادت فأركست التفاعل الاجتماعي الوطني المحلي في بلدانها التي تتحكم بها..

كل ذلك ما كان يتم إلا بإشراف ورعاية قوى الاحتلال السابقة المنسحبة ظاهراً والحاكمة ضمناً..

ثم توجت هذه المسيرة بإنشاء الكيان الصهيوني كمستعمرة في فلسطين قلب المنطقة العربية والطريق لوصل مشرقها بمغربها..

كان واضحاً أن الهدف الاستعماري من إنشاء الكيان الصهيوني يتمثل في مطاردة كل محاولة عربية للتحرر والوحدة والتقدم.. فصارت الدولة- المستعمرة الجديدة بمثابة الرديف المكمل للنظام الإقليمي العربي يتناغمان في تكريس التقسيم والتجزئة وإفشال أية محاولة للتقدم والنهضة والتحرر.. فوضعت الدول الاستعمارية كل ثقلها وإمكانياتها المتنوعة لتثبيت دولة الاحتلال في فلسطين ثم تدعيمها للامتداد حتى تحقيق مشروعها الاستعماري المتكامل بوأد الأمة العربية وإلغاء وجودها وليس فقط دورها ومواردها..

وهكذا اطمأنت قوى الاحتلال السابقة (الراهنة) إلى إمساكها التام بمقدرات الأمة كلها وبالسيادة على إرادتها وقرارها وتوجهاتها السياسية العامة.. وأنشأت جامعة الدول العربية لتكون غطاء لواقع التجزئة والتبعية والخضوع..

وفجأة قامت ثورة ٢٣ تموز وظهر جمال عبدالناصر ليعلن عن مشروع مستقل للنهضة والبناء وتحرير الإرادة..

فماذا يفعلون ؟؟

٢ – الوضع الشعبي العربي:

أ – كانت الدعوة العربية إلى استقلال العرب وتأسيس دولة عربية واحدة قد بدأت تنتعش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.. وبلغت ذروتها في أواخره وبدايات القرن العشرين.. فشكلت إزعاجاً لكل من السلطات العثمانية- التركية وعصبيتها القومية المستنفِرة آنذاك؛ كذلك للسلطات الاستعمارية البريطانية والفرنسية وأطماعها ونواياها العدوانية الخبيثة المبيّتة ضد العرب عموماً وأرضهم وبلادهم..

ثم تراجعت تلك الدعوة العربية القومية في مرحلة  تأسيس الدول العربية الجديدة وما فُرض على مؤيديها من حصار وترويع بغطاء من قوى الاحتلال الأجنبي..

وبلغت ذروة تراجعها مع تأسيس جامعة الدول العربية التي عملت على امتصاص المشاعر العربية الوحدوية وتحويلها إلى ولاء للكيانات الإقليمية المستحدثة..

وفجأة حصل تغيير للنظام في مصر وظهر جمال عبدالناصر وخطابه الثوري العروبي الوحدوي خلافاً لكل ما سعت إليه قوى الاحتلال ومعها الكيان الصهيوني المصطنع الجديد وأنظمة الإقليمية العربية..

فماذا يفعلون ؟؟؟

ب – وفي الوقت الذي كانت دول الاستعمار تعمل على خط تأسيس دول عربية منفصلة إقليمية تحت وصاياتها ، كانت تعمل على خطوط شعبية أخرى مختلفة..

خلال قرنين من الزمن اتجهت بريطانيا للتسرب والتغلغل في أوساط المسلمين في كل مكان بهدف استقطاب فعاليات دينية وبث سمومها والفتنة في أوساطهم.. جعلت من بعض من استقطبتهم نافذين ونجوماً وشخصياتٍ عامة دينية أو سياسية أو اجتماعية.. وبعيّد انتهاء الحرب العالمية الأولى اتجهت لتكوين أحزاب دينية إسلامية بدأت بالظهور العلني والعمل التنظيمي في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين.. في الوسط الإسلامي السني كما في الوسط الإسلامي الشيعي.. وراحت في العراق تؤسس لتكتلات مذهبية تحتفل بمناسبة كربلاء بأسلوب مذهبي تحريضي كان منطلقاً لدعوات فتنوية مذهبية لاحقة..

وفي الربع الثاني من القرن العشرين كانت الحركات ذات الطابع الديني قد أصبحت تتمتع بشيء غير قليل من النفوذ والتوسع مع توفر إمكانيات مالية في أيديها تستخدمها في خدمات إغاثية أو معيشية أو مدرسية لتثبيت وجودها وتكوين تيار شعبي مؤيد لها.. مع تركيز واضح على مصر والعراق والمشرق العربي..

ج – في جهة مقابلة كانت الحركة الشيوعية اليسارية ومنذ العشرينات من القرن العشرين أيضاً تمدّ بأذرع لها وتبني أحزاباً وحركات سياسية مرتبطة سياسياً وتنظيمياً وعقائدياً أيضاً بالاتحاد السوفييتي ومن بعده الصين الشيوعية.. وتوسعت بعض تلك الحركات بفعل دعم أممي كبير لها أيضاً اجتماعي وتعليمي وإعلامي.. وما أن انتصف القرن العشرين حتى كانت هناك أحزاب شيوعية رسمية في أغلب البلدان العربية في المشرق كما في المغرب، مع تركيز واضح على مصر والعراق والمشرق العربي أيضاً..

وقد كانت الوظيفة الأساسية لتلك الحركات اليسارية؛ امتصاص المشاعر التحررية الثورية عند العرب وقولبتها في إطار أممي منضبط وفقاً لولاء تام للاتحاد السوفييتي.. وصرف النظر عن الدعوة القومية إلى وحدة العرب..

وفي تلك الأثناء كان لافتاً جداً ذلك التعاون الوثيق بين تلك الأحزاب الشيوعية وقيادات يهودية كانت تعمل لصالح الحركة الصهيونية ومشروعها العدواني باغتصاب فلسطين.. حتى أن بعض هؤلاء كان يحتل مواقع قيادية متقدمة في تلك الأحزاب..

 اللافت جداً في تلك الأحزاب الدينية والأحزاب اليسارية أنها تشترك في منطلقات عقائدية متشابهة تماماً وإن كانت من مواقع وتبريرات مختلفة.. كانت جميعها تنكر الهوية القومية وتعلن انتسابها إلى أممية دينية مؤمنة أو أممية علمانية إلحادية..

المشترك بينها رفضها الاعتراف بالهوية القومية للمجتمع الذي تعمل فيه وبالتالي رفض  مبدأ وحدته القومية بل تعمل في معاداتها بحجة مخالفتها لما تؤمن به أمميا.. وهكذا انتزعت تلك الحركات ومن معها وفيها من بشر؛ من ولائها الوطني لأنها ظنت أنها تخدم رسالة أممية أعلى وأكبر وأهم من أي انتماء وطني أو هوية قومية.. فتحولت إلى قوة مضادة لحركة التحرر الوطني والوحدة القومية..

فالقومية عند الأحزاب الدينية عصبية مرفوضة في الإسلام وتجب محاربتها.. والقومية عند الأحزاب الشيوعية عصبية تشوه الصراع الطبقي وتلغي الأممية العمالية.. فهي بالتالي مرفوضة بل تجب محاربتها.. وهكذا وجد هؤلاء أنفسهم في خندق واحد معادٍ للهوية القومية والدعوة إلى تحرير وتوحيد الأمة العربية..

وهو ما سوف تظهر مفاعيله الخطرة مع انتعاش الدعوة القومية العربية وتجدد الآمال بوحدة أمة العرب  بظهور جمال عبدالناصر..

فماذا يفعلون؟؟؟

د – عدا ذلك كانت قوى الاحتلال الفرنسية والإنجليزية تعمل على استقطاب نخب عربية في كل المجالات وتبث سمومها الفكرية والثقافية في عقول تلك النخب.. وقد امتلكت من الوسائل والإمكانيات الضخمة ومن المدارس والجامعات والمعاهد ومن المصالح والإغراءات والتوظيفات ما يجعلها قادرة على التأثير في عقول كثيرة واستقطاب نفوس أكثر بكل الوسائل المتوفرة لها وهي صاحبة السلطة والسلطان والنفوذ وصاحبة المشروع الاستعماري المعادي للأمة والطامع في مقدراتها جميعاً..

وبسبب من هذا كله استطاعت إبراز الكثير من تلك النخب وتكبير حجومها وأدوارها كما تمريرها في كثير وربما أغلب الأحزاب والتنظيمات والمؤسسات والجمعيات وفي مواقع بارزة ومتقدمة..

وقد امتد تغلغل قوى الاحتلال الأجنبي في الأوساط العربية بمختلف توجهاتها وتنوع مستوياتها ومجالات عملها قرابة ثلاثة قرون منذ أن تعاهدت الدول الأوروبية الستة الكبرى في ذلك الوقت مع الدولة العثمانية التي اعطت تلك الدول ” حق رعاية شؤون مواطنيها الذين يعيشون في نطاق السلطنة بمن فيهم أبناء البلاد “.. وكان هذا كافياً ليفتح أبواب التسلل الغربي إلى عمق الحياة العربية.. حيث الغرب الاستعماري الحاقد ذو الإمكانيات الضخمة وأمامه المجتمع العربي المقهور والمنكوب والأعزل والمستباح لقوى التسلط والنفوذ الأجنبي..

وما إن انتصف القرن العشرون حتى كانت أعداد وفيرة من النخب العربية المدربة والمحمية والمشمولة بالرعاية الغربية، قد احتلت مواقع نافذة في كل مجالات الحياة، تعمل وتبشر بما يسهّل للنفوذ الأجنبي المزيد من التسلل والتغلغل والتأثير في الحياة العربية..

وفجأة ظهر جمال عبدالناصر بثورته ورسالته التحررية..

فماذا يفعلون ؟؟.

٣ – الإنسان العربي:

في مقابل كل ما سبق كيف كانت حياة الإنسان العربي العادي البسيط وهو الذي يمثل الغالبية الساحقة من أبناء الشعب العربي ممن يكدون ويتعبون لكسب حياتهم والحفاظ على هويتهم وقيمهم الأخلاقية الاجتماعية والدينية؟؟

في منتصف القرن العشرين كان قد مضى على الإنسان العربي قرابة أربع قرون وهو مسلوب الإرادة محكوم بسلطات لا تعمل لخدمته وتنميته وحل مشكلاته؛ تتحكم بمصائره وتصادر مقدرات بلاده؛ سلطات أقل ما يقال فيها أنها لا تملك الكفاءة اللازمة للدفاع عنه وعن أرضه ومقدساته كما لا تقدر ولا تهتم بتطوير مجتمعه وتحسين أحواله وتأمين متطلبات حياته بشكل لائق يؤمن له حياة حرة كريمة.. وإذا أضيفت إلى هذا كله تدخلات خارجية كثيرة وفتن داخلية تحركها قوى أجنبية واحتلالات أجنبية عدوانية كان قد مضى على بعضها أكثر من قرن كامل، مع ما يعني هذا من عدوان يومي مستمر على حقوقه وأخلاقه وحياته ومستقبله وإرادته أيضاً.. ثم أضيفت ضريبة مرهقة للحروب التي خاضتها القوى الأجنبية على أرضه وبمشاركته فيها رغما عنه؛ ثم استشهاد أعداد كبيرة من أبنائه وشبابه وطاقاته الإنتاجية في تلك الحروب.. ثم بعد ذلك حصار الدولة الإقليمية الناشئة لتطلعاته التحررية والوحدوية وحتى الحياتية..

وحينما قامت حرب ١٩٤٨ ضد العدوان الصهيوني فإذا به يكتشف الكم الهائل من الخداع الذي تعرض له والأوهام الكثيرة التي جعلوها أمامه حقائق ثابتة بفضل سلطاتهم وما يملكون من نفوذ وإمكانيات وقدرة على التأثير؛ فلا يلبث أن يجد أرضه قد احتلت، وكياناً غاصباً استعمارياً قد اخترع اختراعاً بالقوة والتزوير، وهو مكبلٌ مضطهدٌ مخدوع.. فدخل في دوامة القهر المضاعف والشعور الخطير بالمهانة واستلاب الإرادة والضعف والذل والهوان.. وبدأت نقمته على نظامه الإقليمي وواقعه المجزأ والرضوخ الذليل للأجنبي؛   كما على قوى الاحتلال التي أنشأت الكيان الصهيوني، وعلى الكيان ذاته؛ تتصاعد وتغلي في داخله مقاربة حد الانفجار من الإحساس بالعار والذل والمهانة..

كان الإنسان العربي يواجه وحيداً كل أنواع التحديات الحياتية والمخاطر الوجودية وعدوان متعدد المصادر وقهر متنوع الأشكال والأنماط والوسائل..

لقد تركت تلك الظروف الممتدة قروناً آثارها السلبية في الانسان العربي وحياته كلها وفي مختلف جوانبها.. فكان على أية حركة لتغيير هذا الواقع أن تواجه القوى المضادة والمعادية ومعها تلك الراسب والآثار النفسية والعامة في حياة الانسان وفكره وعقله وفي بناه الاجتماعية ونظمها ومصالحها..

وفجأة قامت ثورة مصر في ٢٣ تموز ١٩٥٢ ولعلع اسم جمال عبدالناصر وهو يناديه: ” إرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعمار “..

فماذا هو فاعل إزاء هذا كله؟؟؟

٤ – الوضع الدولي:

بنتيجة الحرب العالمية الثانية خرجت الولايات المتحدة الأميركية كأقوى طرف بين كل الأطراف المتحاربة.. ليس هذا فقط بل كانت صاحبة ” فضل ” على المنتصرين الذين خرجوا منّهكين من أثمان الحرب التي دفعوها مادياً وبشرياً.. أما المهزومون فكانوا تحت السيطرة تماماً يقبلون بما يملى عليهم من المنتصرين.. صاحبَ هذا بروز نزعة سيادية استعلائية في خطاب السياسة الأميركية على مستوى العالم.. وراحت تحاول فرض هيمنتها السياسية والعسكرية وتستتبعها بالاقتصادية، ولم يصمد في وجه تسلطها إلا المعسكر الشيوعي بزعامة الإتحاد السوفييتي والصين الشعبية.. أما العالم الثالث فكان خاضعاً لها بمجمله.. تزيح فيه من أمامها من لا يُماشيها وتنصب من تريد.. والولايات المتحدة الأميركية استعاضت عن الاحتلال العسكري المباشر باحتلال السلطة والسياسة والموارد الاقتصادية.. ثم راحت ترث نفوذ فرنسا وبريطانيا تدريجياً.. فيما تحاصر البلدان ذات نظام الحكم الشيوعي لتمنع امتداداتها العقائدية المناهضة لنظام الحكم الرأسمالي..

وفي هذا الوقت الذي باتت تسيطر على معظم دول العالم العربية والافريقية والأسيوية والأميركية اللاتينية وتسوّق أوروبا سوّقاً ناعماً برغبتها؛ وإذ بثورة تُغيّر نظام الحكم في مصر ويظهر ضابط شاب يسمى جمال عبد الناصر يريد ورفاقه تحرير مصر والعرب!!!

فماذا يفعلون؟؟؟

٥ – الجوار الإقليمي:

كانت دول الجوار الإقليمية وتحديداً تركيا وإيران؛ خاضعة لهيمنة النظام الرأسمالي العالمي المعادي لكل ثورة شعبية تحررية.. ولم تكتفِ هاتان الدولتان بقمع تطلعات شعبيها التحررية؛ بل وضعت نفسها في خدمة النظام العالمي الذي يحميها ويرعاها وتحديداً في معاداة محاولات التحرر العربية وآمال شعبها العربي في الحرية والوحدة والتقدم.. وفضلاً عن الأجزاء الكبيرة التي احتلتها من سورية شمالاً وكل إقليم الأحواز على الخليج العربي شرقاً؛ فإنها استخدمت امتداداتها الشعبية الدينية في البلاد العربية للتخريب على ثورة جمال عبدالناصر وقيادته التحررية.. تحت غطاءات مذهبية منّكَرة مشبوهة..

٦ – الكيان الصهيوني:

الذي أقامه نظام الغرب الاستعماري ذاته أي نظام سايكس- بيكو الذي جزأ البلاد العربية وصنع فيها وعليها دويلات تخدمه وتنفذ أهدافه؛ تحوّل منذ اليوم الأول إلى قاعدة للأنشطة الاستعمارية المعادية لنهضة وتحرر وتقدم المنطقة العربية.. وراح يستفيد من كل إمكانيات الغرب والولايات المتحدة الأميركية- وهي القوة البازغة التي تقدمت صفوف الدول الغربية فمثلت إمبريالية جديدة متقدمة عن كل من سبقها- لتخريب مسيرة التحرر العربي فكانت ثورة ٢٣ تموز وقائدها ألد أعدائه.. فوظف كل إمكانياته المفتوحة والشاملة للقضاء على الثورة وإسقاط قائدها ورمزها جمال عبدالناصر..

٧ – المعسكر الشيوعي:

بزعامة الإتحاد السوفييتي الذي وقف إلى جانب الثورة بالدعم العسكري والفني واللوجستي بكثير من الود والتقدير إلا أنه كان أول المعترفين بدولة الكيان الإسرائيلي منذ قيامها سنة ١٩٤٨ وكانت له رؤية خاصة اعتبرت هذا الكيان أول دولة اشتراكية في المنطقة العربية لذلك اتخذ منها موقفاً إيجابياً.. ثم اتخذ موقفاً سلبياً من حركة التحرر الوحدوية العربية تحت مظلة رؤية قاصرة، اعتبرت أنه لا توجد أمة عربية واحدة وبالتالي تسقط فكرة الوحدة وتصبح أية دعوة وحدوية حركة عنصرية شوفينية يجب محاربتها.. ولهذا وقف اليسار الشيوعي العربي موقفاً معادياً للوحدة المصرية السورية وموقفاً سلبياً من عموم التجربة الناصرية التي حاول اختراقها واستثمار منجزاتها بعد أن عجز عن الوقوف في وجهها.. وقد كان لموقف الاتحاد السوفييتي الملتبس المشبوه عشية حرب حزيران ١٩٦٧ أثر سلبي واضح في مسار الحرب وحصول الهزيمة..

٨ – الصين وعدم الانحياز:

وحدها الصين الشعبية ودول حركة عدم الانحياز وخصوصاً الهند ويوغسلافيا؛ وقفت مع الثورة وقائدها وإن كانت لم تتمكن من تقديم مساعدات ذات شأن لها لأنها كانت دولاً ناشئة تسعى لبناء ذاتها بنهج استقلالي متحرر من السيطرة الأجنبية كما كانت مصر تفعل وتريد..

خلاصة الأمر أن الإنسان العربي كان عشية ثورة ٢٣ تموز، مستباحاً وأرضه محتلة وتطلعاته مقموعة مصادرة.. أعزل من كل قوة وفعالية إلا من إرادته.. فيما كل أسباب القوة والنفوذ والسلطان متاحة بكثرة للقوى المعادية وتوابعها المحلية من نُظمّ وأحزاب ونخب وجمعيات وفعاليات اقتصادية..

وعند أول معركة وطنية ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر خاضتها الثورة الجديدة وانتصرت فيها فارضة جلاء الإنجليز عن أراضي مصر العربية حتى راح الرصيد الشعبي للثورة يتراكم ويتصاعد.. وحينما واجهت الثورة العدوان الثلاثي: الإنجليزي- الفرنسي- الصهيوني بمقاومة شعبية رائعة وقيادة سياسية فذة انتصرت وتثبّت تأميم القناة حقيقة واقعة فعلياً؛ التهبت مشاعر الجماهير العربية كلها من المحيط إلى الخليج معلنةً الولاء لنهج هذه الثورة الفتية والتلاحم غير مسبوق مع قائدها الذي أصبح رمزاً للحرية والكرامة والاستقلال في بلاد العرب بل في كل بلاد العالم حيثما وُجدت شعوب تتطلع الى الحرية والاستقلال..

وفجرت الجماهير العربية آنذاك أملها بوحدة الأمة، فكانت وحدة مصر وسورية سنة ١٩٥٨ الرائعة، فشكلت أملاً بوحدة كل العرب وباباً لتشكيل قوة عربية عظمى تواجه كل الأخطار والتحديات القائمة..

وحينما فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في استثمار حيادها وإنذارها لكل من فرنسا وبريطانيا بوقف عدوانها على مصر سنة ١٩٥٦، حيث فشلت في احتواء الثورة المصرية بإصرار من جمال عبدالناصر على حرية قراره واستقلالية نظامه السياسي وخياراته الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو الأمر الذي بلغ ذروة تحديه للإرادة الأميركية بالوحدة المصرية السورية؛ فتخلت عن سياسة الاحتواء وتبنت خط العداء التام والكامل للثورة وقائدها وأطلقت كل إمكانياتها الظاهرة والخفية  لمحاربة الثورة وإسقاط قائدها.. فنجحت في أول هجوم مضاد شامل لها بالانفصال سنة ١٩٦١ ثم أتبعته بحرب حزيران ١٩٦٧ التي كانت طرفاً عسكرياً مباشراً فيها..

وكان رد الثورة على الانفصال بمزيد من الالتحام بالجماهير الشعبية العربية وتدعيم كل ثورة تحررية قامت بها وأكبرها ثورة الجزائر وسواها.. ثم كان الرد على هزيمة ٦٧ بتصحيح الأخطاء والثغرات واستعادة المبادرة عسكرياً بحرب الاستنزاف المنتصرة، واقتصادياً وسياسياً بتطوير عملية البناء والتصنيع وتحديثها وزيادة فعاليات النمو والتنمية الوطنية الشاملة..

لسنا هنا في معرض الحديث عن إنجازات الثورة أو إخفاقاتها؛ عن إيجابياتها العظيمة وأخطائها الكبيرة والصغيرة؛ لكننا في هذا الاستعراض أردنا الإحاطة بكل الظروف التي عاشتها الثورة وعملت وواجهت في إطارها وزمانها.. وهو ما يتطلبه أبسط تقييم موضوعي للثورة بوصفها أكبر وأهم وأعظم تجربة عربية للتحرر والنهضة والاستقلال.. من هذا المنطلق وجب توضيح صورة الواقع والظروف المحيطة كما كانت خلال مسيرة الثورة.

لقد استمرت التجربة كلها ثمانية عشر عاماً.. وهو في عمر الثورات والبناء وتغيير الوقائع قصير جداً جداً.. ومن بين كل عناصر المشهد المصري والعربي والعالمي؛ وحده الشعب العربي الأعزل المقهور المستباح، وقف مع جمال عبدالناصر وثورته..

فيما تحالف جميع ما عداه لإفشال الثورة وإسقاطهــا:

  • النظام الإقليمي العربي والقوى المستفيدة منه أو التابعة له والمنبثقة عنه..
  • النظام العالمي الرأسمالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة بكل قوتها وجبروتها وعنجهيتها..
  • الأحزاب والحركات الدينية من منطلقاتها الأممية الخاصة ورؤيتها الضيقة المنغلقة..
  • الأحزاب والحركات اليسارية من منطلقاتها الأممية الخاصة ورؤيتها الرافضة للفكرة القومية من أساسها..
  • القوى الاجتماعية التي نشأت في أحضان السيطرة الغربية خلال عقود طويلة سبقت الاحتلال المباشر وتصاعدت بنيتها وامكانياتها ونفوذها وامتداداتها الأفقية في البنيان الاجتماعي مع الاحتلال الغربي المباشر ومع تأسيس النظام الإقليمي العربي.. وهي القوى التي كانت مصالحها مرتبطة عضوياً بالواقع القائم وقوى النفوذ الذي تتحكم فيه..
  • النخب المستقطبة أو المتأثرة بالنموذج الغربي والدائرة في فلك نفوذه السياسي والثقافي والأكاديمي مع ما تملك من تأثير في محيطها الاجتماعي بما منحها ذلك النفوذ الأجنبي من قدرات وامكانيات ووسائل..
  • دول الجوار الإقليمي وما لها من امتدادات شعبية في المجتمع العربي بحكم التاريخ المشترك والانتماءات المذهبية والدينية..
  • شبكات هائلة من وسائل الإعلام وصناعة الرأي العام والتلاعب بالعقول ومراكز الأبحاث والدراسات ودور النشر والمطابع وسواها والجامعات والمدارس والمعاهد؛ كانت تملكها تلك القوى العالمية والمحلية وقد وظفتها جميعاً لتقويض الثورة وإفشالها واسقاط قائدها..

الخلاصة أن جميع هذه القوى كانت ضد الثورة وتعمل مستميتةً للقضاء عليها.. بالمقابل كان على الثورة أن تبني لها مؤسسات ومراكز ومدارس وجامعات وحركات سياسية وصحافة وإعلام ودور نشر وتوعية وتثقيف؛ تعبر عن نهج الثورة من جهة وترد على أعدائها من جهة مقابلة، تشرح فيه أهداف الثورة وتفند مزاعم أعدائها الكثيرين..

  • كان على الثورة أن تبني إنساناً جديداً واعياً إيجابياً متفاعلاً مع قضاياه ومشكلاته.. وتخلصه من الرواسب السلبية لعهود القهر والتبعية والسيطرة الأجنبية..
  • كان عليها أن تحرر الإنسان الموجود الذي توجهت اليه بخطابها وتوجهاتها الجديدة.. وحتى تحرر الإنسان كان عليها أن تحرر الأرض وتسترد سيادتها عليها حتى تستعيد مواردها وتوظفها لخدمة إنسانها وتنمية قدراته وحل مشكلات حياته.. وحتى يتحقق لها هذا وجب عليها بناء قاعدة اقتصادية صناعية إنتاجية تلبي حاجياته وتحميه ووطنه من التبعية الاقتصادية التي تتلوها حكما تبعية سياسية.. وحتى تحمي الارض والشعب والمنجزات؛ تحتاج إلى عِلم وقوة عسكرية.. فراحت تسابق الزمن لاكتساب العلم وبناء القوة العسكرية.. وهذا يحتاج إلى أجهزة أمنية تحمي البناء كله والإنسان والشعب والوطن من أجهزة الأعداء.. وما أن اتخذت نهجها الثوري التحرري الاستقلالي حتى صارت مطالبة بتلبية احتياجات كل حركات التحرير في العالم الثالث وأفريقيا والبلاد العربية.. ولما أثبتت منهجها الوحدوي صار لزاماً عليها أن تبني مؤسساتها وقواعدها الوحدوية التي تعمل على تثوير الواقع من جهة وحماية الإنسان الثائر من جهة ثانية..
  • تصدت الثورة لعملية متكاملة لتغيير الواقع المصري ثم العربي ثم فرض عليها أن تكون رافعة لتغيير واقع افريقيا حيث الامتداد الجغرافي والثقافي والديني والمصلحي لمصر والعرب.. والتغيير الثوري عملية شاملة متكاملة مترابطة الحلقات والمراحل.. لا تتم دفعة واحدة ولا بسرعة زمنية قياسية..

إن تحرير الإنسان من سطوة القوى المحلية المستفيدة من بقاء الواقع واستمراره كما هو  وبالتالي المتضررة من أي تغيير ثوري تقدمي؛ هو بحد ذاته عملية معقدة مترابطة أيضاً.. تدخل فيها عملية صناعة وعي جديد بعد كشف الوعي السائد؛ وبناء اقتصادي جديد وبناء قانوني ودستوري يحل مكان القديم ليحمي القيم الجديدة والمصالح الجديدة وأصحابها أيضاً.. ولضمان استمرار هذه المكاسب والمنجزات المتحققة لصالح الانسان؛ وجب تصفية نفوذ القوى المتضررة من الثورة ومحاصرة تأثيرها على الأقل.. وهذا يستوجب تفكيك شبكة مصالحها وعلاقاتها الاقتصادية وحتى تداخلاتها الاجتماعية المعيقة والمخربة..

  • كل هذا يعني ببساطة شديدة ان الثورة أصبحت بحاجة ماسة إلى بناء دولة جديدة بكل ما فيها من قوانين ومؤسسات ومصالح وعلاقات ورؤى أيضاً.. ولما كانت بنية الدولة في مصر ذات امتداد بيروقراطي عميق الجذور وقد بُنيتْ على يد القوى صاحبة النفوذ المطلوب تغييره والمصالح المطلوب تفكيكها نظراً لارتباطها بالقوى المعادية للثورة؛ فقد وجدت الثورة نفسها في مواجهة هذه الدولة البيروقراطية وبنيانها اللاثوري المعبر عن مصالح الفئات الحاكمة النافذة المتسلطة.. وهكذا أضيفت هذه الدولة البيروقراطية إلى صف القوى المضادة للثورة والمعرقلة لمسيرتها المتصدية لمكتسباتها وانجازاتها.. وإن بغير قصد أحياناً..
  • ولضمان الاستمرار في عملية التغيير المطلوبة كان على الثورة أن تبقى مستقلة بذاتها عن كل تأثير لكل القوى المعادية لها.. ولهذا كله أثماناً باهظة وإمكانيات هائلة يجب أن تدفع.. وعوضاً عن استثمار كل الامكانيات البشرية والعينية في عملية البناء والتنمية؛ كان لزاماً تخصيص الجزء الكبير منها لعمليات حماية البناء من تعديات وتخريب القوى المعادية حتى المحلية منها.. وهي قوى مرعبة من حيث الإمكانيات أولاً ومن حيث الحقد القاتل على كل من يحاول المساس باحتكاراتها وامتيازاتها ومصالحها.. وهكذا استنزفت إمكانيات ضخمة وجهود جبارة في التغيير السلبي أي رد هجمات الأعداء لتقويض البناء الإيجابي..
  • وحتى تستطيع الثورة الاستمرار في نهجها المستقل وجب عليها عدم الانحياز لأطراف الصراعات الاستقطابية المحورية الدولية.. فوجدت نفسها في خضم معركة عالمية لتأسيس نهج عدم الانحياز حفاظاً على الاستقلالية من جهة ولحماية المنجزات بالمقابل.. وهذا فتحَ آفاقاً إنسانية عالمية للثورة فأضاف عليها مهمات اضافية جديدة ومسؤوليات جسام تحتاج إلى إمكانيات مادية وبشرية معاً..

أما وقد استقر نهج الثورة في كل هذه الاتجاهات الرئيسية الكبرى وما ينبثق عنها من مهمات بنائية تفصيلية؛ وجميعها تعاكس مصالح الغرب الاستعماري وأهدافه في المنطقة العربية والعالم.. بل تشكل تهديداً مباشراً لها وتحدياً لإرادته؛ لا سيما زعيمة النظام العالمي الرأسمالي أي الولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية وسياسية آنذاك.. فقد استنفر الغرب الرأسمالي كافة خبثه وعلمه وإعلامه وإمكانياته وأجهزته وأدواته المحلية وأذرعه العلنية والخفية لضرب الثورة وإسقاط قائدها..

وهكذا أيضاً فعل نظام سايكس- بيكو الإقليمي العربي صنيعة النظام الرأسمالي العالمي وأداته لعرقلة التحرر والتقدم العربيين.. وبدوره استنفر كل قواه وإمكانياته ووظفها لإفشال الثورة وإسقاط قائدها.. متضامناً مع كل قوى النفوذ الأجنبي وأذرعه الإقليمية..

وهكذا كانت مواقف الأمميات الدينية واليسارية والنخب المنبهرة بالغرب والشرق أحدهما أو كليهما.. فقد عاندت الثورة وخربت في مسيرتها من الداخل لأنها كانت تنتمي إلى مواقعها الشعبية وقواها الاجتماعية..

كذلك دول الجوار الإقليمي ودولة العدو الصهيوني قاعدة الاستعمار العنصري الحاقد في قلب الأمة العربية..

كانت هذه قاعدة عريضة واسعة الامتداد عظيمة الإمكانيات للقوى المحلية والعالمية التي حاربت الثورة وعرقلت مسيرتها بل استماتت بكل معنى الكلمة لإفشال الثورة وإسقاط قائدها..

يا للهول.. رحماك يا الله!!!

جميع هذه القوى وهي التي تملك العالم تقريباً وتسيطر على ثرواته ومقدراته؛ حاربت الثورة وقائدها..

فيما وقف قائدها وحيداً متسلحاً بالشعب العربي وحده يواجه الدنيا كلها ليبني قوة عربية حرة مستقلة بإمكانيات مصر ومواردها المحدودة.. وقف عملاقاً شامخاً يواجه بشعبه العربي أعتى قوى التسلط والتجبر والاستغلال والاستعمار..

يا للهول..

ثمانية عشر عاماً فقط ومصر وعبد الناصر يتحدى الغاصبين الحاقدين الطامعين ببلاد العالم كله؛ متسلحاً بإرادة عظيمة وإيمان بالنصر أعظم، يبني ويواجه ويحرر ويخوض المعارك في كل يوم وفي كل ميدان وفوق كل أرض عطشى للحرية.. يساند كل شعب يسعى للحرية في كل مكان من الكرة الأرضية وهو الذي يحكم مصر الفقيرة الشحيحة الموارد والمحاصرة من كل جانب..

كل هذا في غضون ثمانية عشر عاماً فقط!!!

ويسألونك لماذا يُعظِم الضمير العربي جمال عبدالناصر؟؟ ثم يتساءلون لماذا يستمر هجوم كل تلك القوى المعادية على جمال عبدالناصر؟؟ ولماذا يتوهج جمال عبدالناصر أكثر فأكثر في الوجدان الشعبي العربي؟؟ وحين مات أو قتل؛ هل ترك منجزات تستحق الذكر؟؟ وهل استطاع أن يبني قاعدة لنهضة عربية؟ هل تشكل تجربته قاعدة علمية موضوعية للمستقبل العربي المنشود؟؟

وهل غيَّر شيئاً في الواقع العربي والنفس العربية والإنسان العربي وهو الذي خسر معركة ٦٧ ولم ينجح في الاحتفاظ بوحدة ٥٨؟؟ هل كان دوره العالمي مثمراً أو مفيداً في الصراع من أجل حرية الشعوب المقهورة؟؟ وهل يستحق كل هذا التبجيل والحنين الذي يحاكي الوله الذي يتباهى به الناصريون في كل أرض عربية؟؟

نواصل لنرى ..

د. عبد الناصر سكرية

كاتب وباحث وطبيب عربي لبناني

 

التعليقات مغلقة.