عبد الله السناوي *
أعز ما يملكه أي شعب ذاكرته الوطنية، القضايا التي تبناها والمعارك التي خاضها والأثمان التي دفعها لكى يرفع رأسه عالياً، والأخطاء التي ارتكبت حتى لا تتكرر مرة أخرى.
هناك فارق جوهري بين المراجعة بالنقد والتهجم بالتجهيل.
رغم مرور (65) عاماً على تأميم قناة السويس فإن هناك من يطلب إلغاء التاريخ بمعانيه وتضحياته وتبعاته الاستراتيجية.
تحمل «جمال عبدالناصر» مسؤولية القرار، لكنه لم يكن لينجح لولا استعداد الشعب المصري أن يدفع باقتناع كامل أثمان استقلاله الوطني من دم أبنائه.
هنا- بالضبط- موضوع الغارات المتعاقبة على الذاكرة الوطنية حتى يفقد المصري العادي ثقته في نفسه وفى قدرته على صنع التاريخ واكتساب حقوقه المشروعة أياً ما كانت التضحيات.
لم يكن بوسع أحد في العالم توقع تأميم قناة السويس قبل إعلانه من فوق منصة «ميدان المنشية» بالإسكندرية في ذلك اليوم البعيد الذى تقادمت عليه السنين، ولا كان مطروحاً تسليم شركة قناة السويس إلى مصر بعد انتهاء عقد الامتياز عام (١٩٦٨).
كانت قناة السويس، أهم مشروع هندسي في العالم بالقرن التاسع عشر، دولة داخل الدولة وقيداً حديدياً على المصير المصري، ومصر كلها رهينة للقناة، أهينت واستنزفت واحتلت (1882) حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالي ودفعت بالدماء ثمن استقلالها الحقيقي في حرب السويس.
بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدى الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية في صلب مصالحهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذي تمر حمولاته عبر قناة السويس.
جسارة التحدي تأخذ معناها الحقيقي من سياقها في الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفيتية، أيدت حركات التحرير الوطني في العالم العربي، دعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، ولعبت دورا جوهرياً في تأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثاً في «باندونج».
السياق يشرح وينير حجم الأثر الذى خلّفه قرار تأميم قناة السويس في الحسابات الدولية والصراعات على المنطقة، ومدى دقة حساباته لمتغيرات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بالحساب التقليدي فإنه مغامرة بالمصير بعد أسابيع من جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر قد تُفضى إلى إعادة احتلالها من جديد، أو إطاحة نظامها بانقلاب يشبه ما تعرض له قبل سنوات قليلة الزعيم الإيراني الدكتور «محمد مصدق»، بعد تأميمه بترول بلاده.
لم يكن ذلك الحساب التقليدي غائباً عن «عبدالناصر»، وهو يُقّدم على قرار يكاد يكون شبه مستحيل، لكنه قَبلَ «المخاطرة المحسوبة» وعرّض مستقبله وحياته للخطر الداهم، كسباً لاستقلالٍ وطني حقيقي، وأن تمتلك مصر مقاديرها وقرارها.
حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته في الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطني يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
اكتسبت مصر استقلالها الوطني الكامل في حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح في مواجهة العدوان الثلاثي، البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التي وقّعها «عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
هناك من يتصور أن مصر كان يمكنها تجنب العدوان عليها، إن لم يُقدم «عبدالناصر» على قرار التأميم.
بالوثائق هذا استنتاج متعجل، فلم يكن مسموحاً لمصر بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطني بالتأميم، أو بغير التأميم.
بحسب تقرير استخباراتي أمريكي- ربيع (١٩٥٦)- كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في كتابه «ملفات السويس»، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل «جمال عبدالناصر» سبقت قرار التأميم.
لم يكن كلاماً في فضاء الاجتماعات السرية، بقدر ما كان شروعاً في تحديد الأدوار قبل التنفيذ.
لم يكن رفض البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، السبب الرئيسي لتأميم قناة السويس بالفعل ورد الفعل.
منذ احتلال مصر وهى تتطلع إلى هذا اليوم، الذى تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطني، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.
فكرة التأميم لم يخترعها «جمال عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة.
قبل «تموز/ يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها- أحيانا- دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلِقة.
لم يكن أحد يتصور أن يأتي هذا اليوم فعلاً، حتى إن أغلب الذين دعوا للتأميم قبل تموز/ يوليو لم يحتملوا المفاجأة عندما صارحهم بها «عبدالناصر»، وهو يتأهب لإعلان قراره خشية ردات فعله.
بين الاقتراحات التي عُرضت عليه أن يقّدِم على «نصف تأميم» حتى لا يستثير القوى العظمى.
لم يكن مستعداً لأنصاف حلول وأنصاف تأميم «نأخذ حقنا كاملاً وليكن ما يكون».
الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية.
بعد تحدي السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها.
اكتسبت مصر أدوارها القيادية في أفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزاناً استثنائية في عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحدياً شبه مستحيل وكسبته.
تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً من خلفها دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان الموقف السوفيتي حاسماً إلى درجة التلويح برد قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا.
بدا العالم كله، لأسباب متناقضة، في جانب مصر.
تجلت في حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الأفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس.
رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التي نُشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أي قيمة عن التضحيات التي بُذلت حتى يكون استقلال القرار الوطني مستحقاً.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.